يعود جون لوك ميلانشون ليشكل "صداعا" في المشهد السياسي الفرنسي، قد يجد الرئيس إيمانويل ماكرون والنخبة السياسية الفرنسية الوسطية في النهاية مشتركات كثيرة مع مارين لوبان وحزبها "التجمع الوطني" قد لا يجدونها مع ميلانشون زعيم حزب "فرنسا الأبية" وأحد أركان "الجبهة الشعبية الجديدة" الفائزة بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية المبكرة.
يعبّر الرئيس السابق فرانسوا هولاند عن القلق الذي يثيره صعود ميلانشون بقوله "إذا كانت لدي رسالة أريد أن أنقلها فهي أن جون لوك ميلانشون إذا أراد أن يكون في خدمة الجبهة الشعبية الجديدة عليه أن يتنحى جانبا وعليه أن يصمت".
وتحمل أفكار الزعيم السياسي المخضرم وبرامج حزبه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تناقضا جذريا مع سياسات الرئيس ماكرون وتقاليد الجمهورية الفرنسية تجعل اليمين بديلا أقل خطرا عبر عنه هولاند بقوله: "عندما يكون الرفض لجون لوك ميلانشون أكبر من رفض مارين لوبان أو جوردان بارديلا تأتي لحظة يتعين علينا فيها أن ندرك ما هي المصلحة العامة".
"صداع" اليسار
يأتي الجدل حول شخصية ميلانشون في خضم أزمة تشكيل الحكومة الفرنسية بعد سابقة حصول تكتل "الجبهة الشعبية الجديد" اليساري بقيادة ميلانشون على المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية المبكرة وطرح السياسي المخضرم نفسه مرشحا لمنصب رئيس الوزراء.
ولسنوات كان الإعلام الفرنسي اليميني وخلفه الساسة الفرنسيون يرون في أفكار ميلانشون مجرد "هذيان"، ويقول فرانسوا هولاند الذي أدخل ماكرون عمليا إلى الساحة السياسية عام 2012:
هناك خطر كبير في مواجهة الأفكار التبسيطية والمضللة، عندما نستمع فقط لكلام الخطيب البارع دون التوقف عند محتواه
وهو يشير بذلك إلى ميلانشون وبرنامجه الانتخابي الذي يتضارب مع أسس الجمهورية الفرنسية الخامسة.
وفي انتخابات عام 2017 الرئاسية وصفت صحيفة "لوموند" ميلانشون بأنه أصبح "فزاعة فرنسا الجديدة"، كما عنونت صحيفة لوفيغارو (اليمينية) إحدى تغطياتها الإخبارية "ميلانشون.. المشروع المدمر لفرنسا"، وفي عدد آخر "المشروع المجنون لتشافيز الفرنسي"، في إشارة إلى زعيم فنزويلا الراحل هوغو تشافيز.
وانتقد المرشح إيمانويل ماكرون آنذاك منافسه ميلانشون وبرنامجه "الخطير" قائلا أمام أنصاره: "ما الذي يريد أن يقنعنا به هذا الثوري الشيوعي الذي كان نائبا في البرلمان عندما كنت أنا طالبا في الثانوية".
لا يكن الرئيس ماكرون (47 عاما) ودا كبيرا لميلانشون (72 عاما) الذي يكبره بأكثر من عقدين، هي عمر المتغيرات السياسية الكثيرة في المشهد السياسي الفرنسي والأوروبي والعالمي وعنوان لتجربة سياسية مختلفة كان فيها ميلانشون من ركائز اليسار الفرنسي لعقود من الزمن، وشغل مناصب نيابية ووزارية، في حين كان ماكرون خريج المدرسة الوطنية للإدارة عام 2004 موظفا في المفتشية العامة للشؤون المالية ثم مصرفيا استثماريا في بنك روتشيلد.
لم يفلح ميلانشون صاحب كتابي "عصر الشعب" و"اختيار العصيان" في الوصول إلى قصر الإليزيه رغم ترشحه للرئاسة الفرنسية 3 مرات، ففي عام 2012 حصل على نحو 11% من الأصوات في الجولة الأولى، وفي عام 2017 نال 19.6% من أصوات الناخبين، وفي انتخابات وفي عام 2022 حصل على نحو 21.95% من الأصوات، ليحل أيضا ثالثا خلف ماكرون ولوبان، وفي المقابل كان يحرز تقدما مطردا ولافتا في استطلاعات الرأي والنتائج.
وتشير معظم التحليلات والتصريحات إلى أن الوضع السياسي والاقتصادي في فرنسا لا يحتمل صعود اليساري العتيد -الذي نشأ تروتسكيا من أنصار الثورة الدائمة، وشيوعيا ثم صاحب تجربة طويلة في الحزب الاشتراكي الفرنسي- إلى موقع قيادي في المشهد السياسي الفرنسي.
ولا يتأتى هذا الرفض من النخب الحاكمة فحسب، بل من مكونات "الجبهة الشعبية الجديدة" التي تعاني رغم توحدها من انقسامات وخلافات، ويتخوف قادتها أيضا من صعود ميلانشون إلى منصب رئيس الوزراء أو "الهيمنة" على التحالف.
وقال أوليفييه فوري زعيم الحزب الاشتراكي (أحد أطراف الجبهة) إن ميلانشون "هو الشخصية الأكثر إثارة للانقسام داخل الجبهة الشعبية الجديدة"، في حين أكدت زعيمة حزب الخضر مارين تونديلييه أن "المنصب قد يشغله شخص من حزب اليسار الفرنسي أو الخضر أو الاشتراكيين"، مستبعدة تولي ميلانشون.
في المقابل، قال النائب عن الحزب الاشتراكي آرثر ديلابورت "إن هناك مشكلة تتعلق بميلانشون من حيث إنه مثير للانقسام، لكنها ليست مشكلة لأنه لن يصبح رئيسا للوزراء".
من جهته، أكد رئيس الوزراء السابق إدوارد فيليب أن أي حكومة ائتلافية محتملة "لا يمكن أن تكون عمل رجل واحد"، في إشارة إلى ميلانشون، مضيفا أن "مصداقية بلادنا قد تتضرر بسبب هذا، ويجب على القوى السياسية الوسطية التوصل إلى اتفاق دون أي تنازلات من أجل استقرار السياسة ولكن بدون فرنسا الأبية والجبهة الوطنية (التجمع الوطني)".
كما قال يانيك جادو النائب عن حزب الخضر والمرشح الرئاسي السابق عام 2022 "جون لوك ميلانشون ليس زعيم الحزب الوطني الجديد، ولن يكون رئيسا للوزراء"، وفقا لما أوردته صحيفة لوموند.
ميلانشون.."البديل الأخطر"
ورغم تخلي ميلانشون عن "ثوريته الزائدة" وهدوء نبرته الخطابية فإنه ما زال يصنف باعتباره "يساريا متطرفا" لا تتناسب أفكاره مع إرث الجمهورية الفرنسية، في حين سيكون برنامجه وحزبه كفيلين بتصفية "التركة الماكرونية"، وفق محللين.
ويستند برنامج زعيم ائتلاف اليسار الفرنسي الذي طالما وصف ماكرون بكونه "ابن المصارف" إلى إعادة توزيع الثروة وتصحيح التناقضات الاجتماعية والاقتصادية القائمة، واعتماد نظام ضريبي عادل وتصاعدي وفرض ضريبة دخل بنسبة 100% على الأرباح التي تزيد على 360 ألف يورو سنويا يلغي بموجبها ما سماها "امتيازات أصحاب المليارات".
كما يدعو إلى العودة عن إصلاح نظام التقاعد الذي اعتمده الرئيس ماكرون، وتخفيض سن التقاعد، وكذلك قانون الهجرة الذي اعتمد أواخر سنة 2023، وتجميد أسعار السلع الأساسية، ورفع مستوى الحد الأدنى للأجور، ويدعو أيضا إلى تكفل الدولة بسداد تكاليف الرعاية الصحية بالكامل.
وبينما يصفه معارضوه بأنه شعبوي مناهض لليبرالية وسيطرة رأس المال يعارض ميلانشون الإسلاموفوبيا والأفكار العنصرية المناهضة للمهاجرين واللاجئين فبالنسبة له: "مهما كان جنس الشخص أو لونه أو دينه، فنحن مدعوون إلى أن نحب بعضنا البعض، ولذا فإننا نجمع أذواقنا وثقافاتنا معًا. هذا هو مستقبل البشرية".
كما ينتقد ميلانشون دائما سياسات الاتحاد الأوروبي، ويعارض دور حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ولطالما دعا سابقا إلى الانسحاب من الحلف العسكري.
وعبر زعيم حزب "فرنسا الأبية" بشكل واضح عن رفضه الحرب الإسرائيلية الوحشية في غزة، ودعمه حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية، بما فيها إقامة الدولة الفلسطينية.
وبعيد مجزرة المستشفى المعمداني في أكتوبر/تشرين الأول قال "هل من الصعب إدانة جرائم الحرب التي يرتكبها نتنياهو؟ هل من الصعب إدانة العنصرية التي تمنعنا من رؤية الفلسطيني أولا كإنسان؟ أين أصحاب الضمائر الحية والأرواح الجميلة؟!".
كما خاطب الرئيس ماكرون بقوله "العار للحكومة الفرنسية التي تخترع خلافات داخلية بدلا من مساعدة ضحايا جرائم الحرب في غزة، سيدي الرئيس، أوقف الدعم غير المشروط للحكومة الإسرائيلية التي ترتكب جرائم الحرب البغيضة هذه، فرنسا ليست كذلك".
Honte d'un gouvernement français qui invente des polémiques intérieures au lieu d'aller au secours des victimes des crimes de guerre à Gaza. Président, arrêtez le soutien inconditionnel à un gouvernement israélien qui commet des crimes de guerre aussi abominables. La France ce… https://t.co/GUuN5rjJGP
— Jean-Luc Mélenchon (@JLMelenchon) October 17, 2023
وكان ميلانشون قد تقدم أول مظاهرة مساندة لغزة في باريس، وانتقد بشدة السياسة الفرنسية المؤيدة لإسرائيل، كما رفض إدانة حماس، ويتهم إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية، ودعا إلى فرض عقوبات على إسرائيل، وهو ما جعله هدفا لتهمة "معاداة السامية".
وبشكل عام، فإن مجمل مقارباته بشأن السياسة الخارجية وموقفه المختلف من الحرب الروسية على أوكرانيا تبدو مغايرة ومتناقضة مع المواقف الرسمية الفرنسية الراهنة، فرغم أنه انتقد الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 فإنه يرى أن أصل الصراع يكمن في "حلف الناتو الذي يقترب أكثر من الحدود الروسية"، كما عارض تسليم الأسلحة إلى أوكرانيا.
أشباح اليمين وفزاعة اليسار
تشير التقديرات إلى أن كبح اندفاعة "التجمع الوطني" في الدورة الثانية وصعود تحالف "معا" إلى المرتبة الثانية يعود إلى ما عرف بالتصويت الإيجابي أو العقابي وانسحاب العشرات من المرشحين من اليسار لصالح مرشحي تحالف "معا" الذي كوّنه ماكرون لمنع صعود مرشحي أقصى اليمين.
لم تأت التقاليد الانتخابية الفرنسية المتمثلة في "بناء سد ضد الفاشية" (أقصى اليمين) لمصلحة المرشحين الوسطيين فحسب رغم أنها أنقذت ماكرون من هزيمة مدوية وفق المحللين، بل منحت المرتبة الأولى للتحالف اليساري الذي يحتل فيه حزب "فرنسا الأبية" بقيادة جون لوك ميلانشون الموقع الأبرز.
كانت هذه النتائج محصلة لتحولات عميقة في المشهد السياسي الفرنسي والتراجع الواضح في شعبية الأحزاب التقليدية من يمين الوسط ويسار الوسط، وتنامي شعبية أقصى اليسار وأقصى اليمين، وهي تعبر أيضا عن التطورات والتحولات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي يشهدها العالم خلال السنوات الماضية.
وأدت هذه التحولات إلى صعود تدريجي ومستمر لأحزاب أقصى اليمين في فرنسا وأوروبا، لكن بالمقابل شهد اليسار بشقه الراديكالي صعودا موازيا، واستطاع استقطاب قطاعات جديدة من الشباب وأبناء الضواحي والأحياء الشعبية، خصوصا من المهاجرين حاملي الجنسية الفرنسية والعمال والطبقات الفقيرة، وباتت برامجه تلقى تجاوبا واضحا كما تبرزه نتائج الانتخابات الفرنسية.
وتجد فرنسا نفسها تتأرجح بين اليمين واليسار في غياب أغلبية مطلقة (289 مقعدا من أصل 577) لتشكيل الحكومة، إذ لم تتمكن أي من الكتل الرئيسية الثلاث، "الجبهة الشعبية الجديدة" (يسار) و"معا" (تحالف ماكرون) و"التجمع الوطني" (أقصى اليمين ) من تحصيل الأغلبية.
فقد أسفرت الانتخابات عن 3 كتل برلمانية متقاربة عدديا: 181 مقعدا "للجبهة الشعبية"، و168 لـ"تحالف معا"، و143 "للتجمع الوطني"، و46 مقعدا لـ"حزب الجمهوريين" اليميني، و14 مقعدا لقوى يمينية أخرى، و13 مقعدا لأحزاب يسارية صغيرة
وفي انتظار تحالفات صعبة يستبعد أن يكلف الرئيس إيمانويل ماكرون أحد قادة الجبهة الشعبية الجديدة بتشكيل الحكومة، لكنه وفقا للبند الثامن من الدستور الفرنسي قد يكلف شخصية سياسية من حزبه برئاسة الحكومة وتشكيلها، لكن ذلك سيصطدم بمعارضة القسم الأكبر من أعضاء البرلمان الجديد وحجب الثقة عن وزرائها.
وحتى اللحظة لا تبدي الجبهة الشعبية الجديدة استعدادا للدخول في حكومة ائتلافية مع حزب الرئيس ماكرون أو أحزاب اليمين الأخرى، وتشترط لتشكيل الجكومة تطبيق برنامجها السياسي الذي قد يقوض ما بناه ماكرون منذ وصوله إلى السلطة.
وترى مجلة لوبوان أن هذا الانقسام الذي يهدد بشلل سياسي وربما اضطرابات اجتماعية هو من صنع الرئيس ماكرون "الذي ترك البلاد تغرق في حالة من الفوضى أمام برلمان تهيمن عليه القوى الضعيفة، وقد نجت من كارثة التجمع الوطني، ولكنها الآن تحت رحمة حزب الجبهة الوطنية الجديدة وبرنامجه الوهمي".
ومهما كانت المآلات يبدو ميلانشون خيارا مستبعدا لتشكيل الحكومة، فالرجل اليساري المخضرم يناقض تماما التوجهات السياسية الفرنسية وانحيازاتها، خصوصا في عهد الرئيس ماكرون، ويصعب ابتلاع كل تلك الجرعة القوية من المواقف والبرامج التي لا يتحملها حتى حلفاء ميلانشون في "الجبهة الشعبية الجديدة".