لوبس: كل التاريخ الأميركي يدور حول محاولة الإبادة الجماعية للأميركيين الأصليين

التنوع الملحوظ بشكل متزايد في أميركا يبرز السود والآسيويين وذوي الأصول الإسبانية، ولكنه لا يظهر "الأميركيين الأصليين"، وكأنهم ليسوا هناك، وحتى عندما يظهرون يبدون كالمحنطين في ماضيهم القديم.

Canada's Prime Minister Justin Trudeau attends a news conference at Rideau Cottage in Ottawa, Ontario, Canada March 13, 2020. REUTERS/Blair Gable
ترودو اعتذر باسم كندا عمّا تعرض له أطفال الأميركيين الأصليين (رويترز)

لا يزال تاريخ الأميركيين الأصليين جرحا عميقا بالذاكرة الأميركية، ويعمل علماء الآثار على نبشه بحثا عن حقيقة ما ظل طي الكتمان لقرون، وعن فظائع مثل معركة "وندد ني" عام 1890 التي أبيد فيها المئات من قبائل سيو، معظمهم من النساء والأطفال، ومثل قبور الأطفال الهنود الذين أُجبروا على الالتحاق بالمدارس الداخلية في كندا، فكيف يجري العمل على كشف الإبادة الجماعية التي تعرض لها الهنود في الأميركيتين؟

ولإلقاء الضوء على هذه المأساة، أجرت مجلة "لوبس" (L’Obs) الفرنسية مقابلة مع عالم الآثار لوران أوليفييه الذي ألف كتاب "ما حدث في ونددني" تتبع فيه المذبحة التي وقعت عام 1890 في وندد ني بولاية داكوتا، ولا تزال جرحا نازفا في الذاكرة، تخلد كل عام ذكرى النساء والأطفال الذين قضوا فيها، وقد أصبحت مكانا رمزيا احتله نشطاء "حركة الهنود الأميركيين" عام 1973، وحاصرتهم الشرطة ومكتب التحقيقات الفدرالي مدة 73 يوما.

وفي المقابلة التي أجراها دوان بوي للمجلة، قال المؤرخ وعالم الآثار الفرنسي إن سر اهتمامه بتاريخ الأميركيين الأصليين، يعود إلى وجود نقاط مشتركة بين الغاليين (مجال تخصصه) والهنود الحمر، حيث هزم كل منهما من قبل قوة متفوقة، قضت على مؤسساتهم ودينهم ولغتهم، وطمست كل تاريخهم وثقافتهم من خلال الاستيعاب الكامل.

ولم يبق الآن من الغاليين -كما يقول عالم الآثار- سوى ما يذكره الخيال الجماعي من صور المتمردين أمثال أستريكس وأوبيليكس، أما الهنود الحمر، فقد تم تلخيصهم في عدد قليل من الصور الملونة وأغطية الرأس ذات الريش والجلود الحمراء، ولكن علماء الآثار ينقبون في الأرض بحثا عن آثار الصدمة التي أحدثتها هذه الهزيمة وتحليل كيفية تأثيرها على الناجين من أحفادهم اليوم.

قبور الأطفال

وأوضح أولفييه أن علماء الآثار هم بمثابة المحققين يحاولون كشف جرائم الماضي، معتمدين على العناصر المادية الموجودة في الأرض كالعظام وبقايا الأدوات والأسلحة باعتبارها أدلة يستخرجونها ويحللونها مثل الطبيب الشرعي، خلافا للمؤرخين الذين ينطلقون مما يقوله الناس أو يكتبونه.

إعلان

وكمثال حي على ذلك ما يحدث في كندا، حيث تتزايد اكتشافات قبور الأطفال المجهولين بالقرب من سكن المدارس المخصصة لبناء السكان الأصليين، مما يعيد إحياء ذكرى الانتهاكات التي عانت منها أجيال من الأطفال الأميركيين الأصليين الذين أرسلوا إلى هذه المدارس قسرا "لإعادة تعليمهم"، وبعد استخراج 215 قبرا في بداية يونيو/حزيران الماضي وُجد 751 قبرا آخر في نهايته، ثم 182 في بداية يوليو/تموز الجاري، وفق لوران أوليفييه.

واعتذر رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو باسم الدولة عن اكتشاف هذه المقابر، أما الولايات المتحدة التي حدثت فيها نفس القصة لم تحرك ساكنا، ولكن ماذا سيفعل ترودو بشكل ملموس للهنود الحمر الذين سرق الأميركيون والكنديون أراضيهم؟ يرد الكاتب بأن عليهم إعادتها، غير أن ذلك مستحيل، وبالتالي تكفي المشاعر الطيبة وإعلان النوايا.

وفي عام 1990، بمناسبة الذكرى المئوية لمذبحة "وندد ني"، قررت ولاية داكوتا تنظيم "عام للمصالحة"، تمت فيه نزهات مشتركة و"احتفالات مليئة بالرقص الأميركي الهندي التقليدي" وألعاب الكرة، ولكن ذلك لا يشفي جراح الماضي -كما يرى المؤرخ- لأن المطلوب في المقام الأول هو قول الحقيقة ثم إنصاف الضحية، وهذا بعيد مما يحدث في الوقت الحالي للأميركيين الأصليين المستبعدين والذين يتعرضون لعنف الشرطة.

غير مرئيين

ونبه المؤرخ إلى أن هناك غيابا فعليا لمجتمعات الهنود الحمر، مما جعل شعار العديد من نشطائهم اليوم هو "لسنا غير مرئيين"، علما أن تاريخ الأميركيين الأصليين غير معروف إلى حد كبير لدى الأميركيين أنفسهم؛ لأنه لا يُدرّس في المدارس، مع أن التاريخ الأميركي كله يدور حول محاولة الإبادة الجماعية التي ذهب ضحيتها الأميركيون الأصليون، حيث إن الرواد لم يأتوا إلى أراضٍ عذراء خالية بل إلى أرض مسكونة استولى البيض عليها وأبادوا ورحّلوا القبائل التي كانت عليها، وهو خطأ غير قابل للإصلاح ولا يمكن التحدث عنه، ولذلك تم تقليص ثقافة الهنود الحمر اليوم في مجموع الكليشيهات وصناعة الترفيه.

وفي السنوات التي أعقبت نهاية الحروب الهندية، تحول الأمر -كما يقول عالم الآثار- إلى نوع من الأعمال، وخاصة أن هناك ضبابية في الحدود بين التاريخ والترفيه، وفي عام 1913، شارك الجيش في إنتاج فيلم يعيد تمثيل "معركة وندد ني" مع الناجين من قبائل سيو، وقد أصبح نوعا من الأرشيف التاريخي، وتم بناء هوليود لتمثيل رعاة البقر الشجعان ضد الهنود الحمر الذين يتم تصويرهم على أنهم متوحشون وغادرون، ونادرا ما يشار إليهم في الخيال الجماعي، وكأنهم غير أميركيين.

وعبّر أوليفييه عن استغرابه لكون التنوع الملحوظ بشكل متزايد في أميركا يُبرز السود والآسيويين وذوي الأصول الإسبانية، ولكنه لا يظهر "الأميركيين الأصليين"، وكأنهم ليسوا هناك، وحتى عندما يظهرون يبدون كالمحنطين في ماضيهم القديم.

تاريخ المنتصر

ونبه عالم الآثار الفرنسي إلى أن الولايات المتحدة تتمتع بقدرة غير عادية على استيعاب تاريخها بسرعة كبيرة وتمثيله وتحويله إلى مشهد، كما فعلوا في حرب فيتنام و11 سبتمبر/أيلول والحرب على العراق، وهي طريقة قوية جدا وفعالة للتعامل مع السرد التاريخي، مع أنه من المعروف أن القصة -منذ نشأة العالم- تُروى دائما من منظور المنتصر. أما الهنود الحمر فقد خسروا الحرب وتم القضاء عليهم، في حين لم يتم القضاء على المجتمع الأفريقي الأميركي؛ ربما بسبب الحاجة إليه.

إعلان

وجاءت "مذبحة وندد ني" لأن الحكومة الأميركية أرادت قمع حركة "رقصات الأشباح" أو رقصات الأرواح التي أخافت المستوطنين، لأن هذه الرقصات الدينية أثارت الشكوك لفترة طويلة، ولم يتم رفع الحظر المفروض على بعضها وغيرها من الاحتفالات الدينية إلا عام 1978، بعد صدور قانون الحرية الدينية الهندي.

وعبّر عالم الآثار في نهاية المقابلة عن رغبته في تقديم ما لديه من وسائل تقنية وعلمية لقبائل لاكوتا، لاستكشاف الأرض دون حفرها، معتقدا أن ذلك سيقدم المزيد عن تطور الأحداث، حيث كانت رواية الجيش تقول إنهم فوجئوا بإطلاق النار من قبل الهنود، وإن النساء والأطفال قتلوا عن طريق الصدفة، إلا أن الناجين من لاكوتا قالوا إن هناك طلقة واحدة من الجانب الهندي، أُطلقت بالخطأ وإن الجيش قام بذبح النساء والأطفال العزل بشكل منهجي، وبالتالي، يمكننا من خلال العثور على الرصاص وإجراء التحليلات الباليستية أن نقرر بسهولة ماذا كانت الحقيقة.

المصدر: لوبس

إعلان