تونسيات يطلبن لقمة العيش فوق أشجار البرتقال

خميس بن بريك-تونس

تحمل عاملات في إحدى مزارع البرتقال بمدينة منزل بوزفلة شمالي تونس بصعوبة على أكتافهن أكياسا بلاستيكية ثقيلة, ثم يكدسنها بانتظام قرب شاحنة تنقلهن كل فجر للعمل بشقاء مقابل بضعة دنانير متبخرة بالغلاء.

خلفهن تتسلق بحذر نساء هرمن من الحرمان والفقر أغصانا متمايلة بأعلى أشجار البرتقال لقطف الثمار البعيدة بمقصات حادة، في حين تجمع عاملات أخريات بأظهر منحنية ما يتساقط من حبات تحت الأشجار، ليملأن بها أكياسا فارغة تنقلها العاملات بمشقة على أكتفاهن المسنودة بأيديهن أسفل الظهر.

كغيرهن من العاملات، تتجه الأم صبيحة وابنتاها أشواق وأميمة -الشابتان المنقطعتان عن الدراسة- لجني البرتقال بالمزرعة على متن شاحنة غير مهيأة لنقل العمال، وتنقلهن يوميا قبل بزوغ خيوط الشمس الأولى من ريف مجاور إلى تلك المزرعة في الظلام الحالك والبرد القارس وتحت زخات المطر المتساقطة.

عاملات ينقلن صناديق البرتقال إلى شاحنة (الجزيرة نت)
عاملات ينقلن صناديق البرتقال إلى شاحنة (الجزيرة نت)

حياة صعبة
لم تكمل صبيحة عقدها الرابع لكنها تبدو عجوزا شاحبة بتجاعيد وجهها المحفورة والندوب الراسخة أعلى جبينها، مثل بقية العاملات تتقاضى هذه المرأة الكادحة 11 دينارا في اليوم (4 دولارات).

داخل المزرعة الجميلة وأشجارها الثابتة وثمارها اليانعة وأعشابها الخضراء الداكنة، يتغير كل شيء أمام عبرات محبوسة بصعوبة في عيني هذه الأم، لكن دموعها لا تقاوم أكثر لتبلل خديها الجافين بينما تروي معاناتها عقب طلاقها قبل ست سنوات لتأخذ بعناء على عاتقها إعالة والديها المسنين وبناتها.

تسكن صبيحة وعائلتها في منزل آيل للسقوط، ويتكوّن من شقتين صغيرتين في قرية جبل الطريف بمدينة قرمبالية شمالي البلاد وتؤجره بقيمة 120 دينارا في الشهر (60 دولار)، رغم غلاء المعيشة وضعف مدخولها، إذ لا تتقاضى المنحة الحكومية الموجهة للعائلات المعوزة ولا النفقة من طليقها العاطل عن العمل.

يبدو العمل الهش في الفلاحة خلال مواسم جني الزيتون والأشجار المثمرة بمثابة شريان الحياة بالنسبة إلى صبيحة التي دفعتها ظروفها القاسية إلى إلحاق ابنتيها أشواق وأميمة للعمل معها، ويزداد بؤسها قتامة مع رؤية ابنتها أشواق (18 عاما) المريضة بالصرع وهي تجاهد لحمل صندوق مليء بالبرتقال.

‪العمل الهشّ في الفلاحة خلال مواسم جني الأشجار المثمرة بمثابة شريان الحياة للعاملات التونسيات‬ (الجزيرة نت)
‪العمل الهشّ في الفلاحة خلال مواسم جني الأشجار المثمرة بمثابة شريان الحياة للعاملات التونسيات‬ (الجزيرة نت)

شرف الحياة
رغم أوجاع رأسها المثقل بهموم الدنيا، يبدو وجه أشواق مشرقا بابتسامة مصدرها نابع من براءتها، تتحاشى أشواق رغم لباسها قفازين أن تحتك بنبتة "الحريقة" أو القرّاص الخضراء المنتشرة بشكل عشوائي تحت الأشجار، تجنبا للسعتها المؤلمة التي تسبب حكة شديدة، ملتقطة حبات البرتقال لتضعها بالأكياس.

بخجل مخلوط ببساطة سكان الريف وطيبتهم، تقول أشواق للجزيرة نت والبشاشة تزهر بوجهها، إن مرضها وظروفها القاسية دفعاها للانقطاع عن الدراسة مبكرا، لكن مدرسة الحياة علمتها أن يديها المتسختين من عمل النهار من أجل رغيف الخبز كاف للشعور بالفخر والسعادة حين تساعد أمها المتعبة للنخاع.

استطاعت والدتها صبيحة أن تقنع مشتري ثمار البرتقال فوق أشجاره من مالك المزرعة ويلقب في تونس بـ"الخضّار" كي يلحق ابنتها أشواق بالعمل رغم مرضها، فلقد شعر الرجل بعمق مأساتها وهي تكافح من أجل لقمة العيش وعلاج ابنتها في وقت لا تملك فيه لا بطاقة علاج ولا تغطية اجتماعية.

لا تختلف وضعية العجوز فطومة عن صبيحة، فقد قذفتها ظروفها المتردية خارج منزلها للعمل بجني البرتقال متسلقة أعلى الأغصان المتمددة وهي تتجاوز الستين عاما، تمسك فطومة بكلتا يديها بأغصان البرتقال المترامية الأطراف محاولة الصعود إلى أعلى الشجرة بحثا عن الحبات البعيدة لقطفها بالمقص.

أشواق شابة مريضة بالصرع لكنها تصارع مع والدتها من أجل لقمة العيش (الجزيرة نت)
أشواق شابة مريضة بالصرع لكنها تصارع مع والدتها من أجل لقمة العيش (الجزيرة نت)

عمل شاق
كل صباح جديد، تصعد فطومة مع رفيقاتها في العراء إلى ظهر شاحنة يستأجرها "الخضار" بخمسة عشر دينارا في اليوم (6 دولارات) لنقل عاملاته لقطف البرتقال، تترك المرأة خلفها زوجها الستيني المقعد بسبب مرضه بتورم واحمرار بساقيه، وابنها المعطّل عن العمل وابنتها المنقطعة عن التعليم.

تقول فطومة المرتعشة أطرافها بالبرد المتسرب من ثيابها المبللة بزخات مطر الصباح إنها جراية لا تغني من الجوع ولا تكسي من العراء، مشيرة إلى أن زوجها عبد الله -الذي كان يعمل حارسا بأحد المصانع- يتقاضى تقاعدا شهريا لا يتعدى 200 دينار (80 دولارا).

قبل أن تستجمع قواها الخائرة وتنطلق في عملها الشاق طيلة عشر ساعات يوميا، تقطف خلالها مئة كلغ على الأقل من البرتقال، توقد فطومة النار لطهو الشاي الأسود الثقيل وتدفئة يديها، وبحلول منتصف النهار تتقاسم مع بقية العاملات الفطور، وهو بقايا من وجبات العشاء لا تفوح منها رائحة اللحم.

بعد انقضاء نهار طويل شاق، تعود فطومة ورفيقاتها الكادحات إلى منازلهن متعبات شاحبات لبدء نشاط جديد في الطهو وغسل الثياب، لكن قبل ذلك عليهن تخطي رحلة محفوفة بمخاطر الطريق على ظهر شاحنة غير مهيأة لنقل العمال في وقت تتحدث فيه تقارير عن ارتفاع حوادث سير مثل هذه الشاحنات.

المصدر: الجزيرة

إعلان