مخترع المحرك وكبير المهندسين.. الجزري
أحمد الجنابي
يعتبر الجزري واحدا من عمالقة الهندسة في التاريخ، إذ ساهمت اختراعاته في فتح الباب لظهور كثير من الآلات التي لعبت دورا محوريا في الثورة الصناعية في أوروبا، والتي أصبحت فيما بعد عماد المدنيّة الحديثة.
هو بديع الزمان أَبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري. ولد في جزيرة ابن عمر ومنها جاء لقبه "الجزري". كانت هذه الجزيرة جزءا من بلاد الشام، وهي اليوم تتبع تركيا وتقع على خط الحدود مع سوريا مباشرة. ورغم أنها لا تطل على البحر، فإن تسمية الجزيرة أطلقت عليها لكثرة الأنهار حولها. وهناك رأي يقول إن الاسم اشتق من لفظ سرياني قديم هو "جزرتا" يعني "البعيدة" وتحول إلى جزيرة بالعربية مع مرور الزمن.
يعتبر هذا المهندس من أوائل من فكروا ونجحوا في صنع آلات ذاتية الحركة، تعمل من دون قوة دفع بشرية، وقد احتوى كتابه الذي يعرف اختصارا بكتاب "الحيل" على مخططات لمائة آلة ميكانيكية وتوضيحات لكيفية صنع كل واحدة منها. وقد استخدم الجزري الماء المتدفق وسيلةً لتشغيل آلاته واختراعاته.
ويرى المؤرخون أن الجزري حلقة وصل مهمة في تاريخ تطور صناعة الآلات، فقد استفاد من أفكار من سبقوه، وأضاف لها إضافات جعلت تلك الأفكار مهيأة لتنتقل إلى الصورة الحديثة التي نعرفها بها اليوم، مثل توصله لأسمى اكتشافاته وهو النظرية التي تقول "إن الحركة الدائرية يمكنها أن تولّد قوة دافعة إلى الأمام".
وقد قاده اكتشافه هذا إلى اختراع عمود الكامات (Camshaft)، وهو العمود الذي يدور بضغط مكابس المحرك فتتولد قوة دافعة للأمام كما يحدث في محرك السيارة. استخدم الجزري هذه التقنية في بناء مضخات مياه دافعة وساحبة، تمتعت بتقنية الحركة الذاتية من دون قوة دفع بشرية أو حيوانية، كما استخدمها في صناعة تحف ميكانيكية الحركة غالبا على شكل طاووس حيث استخدمت في قصور بني أرتق، أحد السلالات التركية التي حكمت منطقة ديار بكر بتركيا، الذين كان الجزري يشغل منصب كبير المهندسين في بلاطهم.
تلقف الأوروبيون اختراع الجزري بعد قرنين، وبنوا عليه حتى توصلوا إلى اختراع المحرك وبدأ عصر القطارات البخارية، التي كانت العمود الفقري لعصر النهضة والثورة الصناعية الأوروبية في القرون الوسطى.
ومن مساهماته القيمة في مجال تطوير الآلات الزراعية: السلسلة. كان أول من استخدم سلسلة معدنية لتدوير عمود الكامات، وهي التقنية نفسها التي تستخدم في محركات السيارات.
صنع هذا المهندس النابغة أدقّ ساعة شمعية في التاريخ، قدمت فكرة ما يعرف اليوم بـ"ستوب ووتش" لقياس الزمن الذي تستغرقه عملية ما. ويقول عنها المهندس والمؤرخ البريطاني دونالد هيل إنها احتوت على تقنية الحركة الذاتية، وذلك عن طريق شمعة وضعت على صحن خفيف تحته أسطوانات، وكلما احترقت الشمعة وخف وزنها دفعت الأسطوانات الصحن إلى الأعلى بشكل مستمر.
استخدم الجزري في هذه الساعة تقنية لم يسبقه إليها أحد ولا تزال مستخدمة إلى يومنا هذا، وهي تقنية توصيل الأجزاء بطريقة الفحل والأنثى (male female connector).
وفي مجال الساعات الميكانيكية الحديثة، قدم الجزري اختراعين كانا أساس صناعة الساعات في أوروبا في الخامس عشر الميلادي. الاختراع الأول هو المسننات الدقيقة، والثاني هو ميزان الساعة، وهو الجهاز الذي يحافظ على ثبات سرعة دوران المسننات، أي أنه يحافظ على عمل أجهزة الساعة بوتيرة واحدة، وإذا تعطل ستظهر الساعة الوقت بطريقة خاطئة إما متقدما وإما متأخرا.
أما في مجال الإنسان الآلي، فقد صنع أول نسخة بدائية من الألعاب التي صنعت بصورة إنسان، وتعمل بوظيفة مبرمجة لها مسبقا. فقد صنع فرقة موسيقية تطفو على سطح الماء مؤلفة من شخصيات عدة، كل واحدة منها تصدر صوت آلة موسيقية معينة. وقد صنع هذه الآلة خصيصا لتسلية ضيوف البلاط الملكي في ديار بكر.
وفي كتابه تاريخ تطور الإنسان الآلي، وصف مارك إي رتشمان، فرقة الجزري الموسيقية بالقول: "على عكس الإغريق، فإن الأمثلة العربية للإنسان الآلي لا تعكس تطورا مفصليا في التصميم فحسب، بل تعكس توجها لاستخدام الموارد المتاحة لراحة الإنسان".
وأخيرا وليس آخرا، ساعة الفيل. وتعتبر هذه الساعة من بدائع ما صنع الإنسان إلى اليوم، فهي ساعة على شكل فيل، تعمل عن طريق نظام ماء متدفق مخبأ في بطن الفيل. الفيل نفسه صنع بطريقة تأخذ الأنفاس حيث قام الجزري بتزيينه بطريقة فنية رفيعة المستوى، عن طريق تقسيمه إلى ستة أجزاء، كل جزء يحمل عناصر ثقافة معنية وهي: العربية والفرعونية والصينية والهندية والأفريقية والإغريقية.
يعتبر الغربيون ساعة الفيل تحفة من تحف الزمان ومن أبرع ما اخترع الإنسان ونسخة مبكرة لمفهوم التلاقي والتعدد الحضاري. صنعت نسخ عديدة من هذه الساعة الأسطورية. توجد نسخة من الساعة صنعت خصيصا لمتحف في سويسرا متخصص في تاريخ تطور آلات قياس الوقت، وتوجد نسخة فائقة الدقة في جامعة الملك سعود بالسعودية، وأخرى معروضة في مجمع ابن بطوطة للتسوق في دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة.
وضع الجزري في كتابه "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل" عصارة عمل دؤوب استمر 25 عاما، ويظهر من طريقة عرضه أن هذا العالم كان يريد للمهتمين من بعده أن يستفيدوا من علمه، حيث وضع بالتفصيل طريقة صنع كل آلة من الآلات التي اخترعها.
ترجم الكتاب الذي أبهر الغرب إلى لغات عدة، وهو يعرض في متاحف عديدة حول العالم مثل تركيا وفرنسا وبريطانيا.
وقد طبع الكتاب في القرن السادس عشر في مطبعة عائلة مديشي، التي كانت تحكم فلورنسا بإيطاليا. وكانت هذه العائلة راعية المخترع والفنان الإيطالي الشهير ليوناردو دا فنشي، الذي تقول الموسوعة البريطانية إنه درس كتاب الجزري.