المافيا الإيطالية تزداد ضراوة وسط وباء كورونا وتفرض سيطرتها على القطاع الصحي
في يوم من أيام شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عقدت أجهزة الشرطة من عدة مناطق إيطالية اجتماعا للإعداد لعملية أمنية خاصة ضد المافيا، ولم تكن الشرطة تعتزم مواجهة أي عصابة قديمة، وإنما كانت تستهدف "ندرانغيتا" (Ndrangheta)، أكثر شبكات الجريمة المنظمة قوة ووحشية في إيطاليا.
وبهذه العملية بدأ المدعي العام المختص بمواجهة المافيا نيكولا غراتيري، إلى جانب محققين آخرين من إقليم كالابريا الكائن بالجنوب الإيطالي، حملة يمكن رؤيتها في زمن جائحة كوورنا على أنها رسالة تقول "إن السلطات لن تستسلم بسهولة عندما يتعلق الأمر بحل مشكلات تتقاطع فيها المافيا مع السياسيين والرعاية الصحية".
واخترقت المافيا قطاعات من النظام الصحي في الجنوب الإيطالي، بما فيها المستشفيات والصيدليات، في حين سمح بعض السياسيين لأنفسهم -كما يقول البعض- بأن تشتري ذممهم شبكة ندرانغيتا لتغطية تعاملاتهم غير الملائمة في هذا القطاع.
ويقول المدعي العام غراتيري من دون أن يكشف عن تفاصيل التحقيق الأخير، "ثمة قضايا كثيرة تتعلق بالفساد في القطاع الصحي"، خاصة وأن هذا القطاع تتدفق في قنواته أموال حكومية كثيرة، ويوضح أن "القطاع يشكل نحو 70% من ميزانية الأقاليم، الأمر الذي يجعله جذابا للمافيا".
وأصبح غراتيري الذي يبلغ من العمر 62 عاما، شخصية محورية في المعركة ضد الجريمة المنظمة لعدة عقود، وهو يعيش تحت حماية الشرطة.
تخطي العقبات
وكانت آخر قضية يحقق فيها تتعلق بسياسي بارز من مدينة كاتانزارو عاصمة إقليم كالابريا يدعى دومنيكو تاليني، الذي تم وضعه تحت الإقامة الجبرية بمنزله، ويشتبه في أنه ساعد شبكة ندرانجيتا على تخطي العقبات البيروقراطية للحصول على تصاريح لاستثمار جديد للمافيا، وقد فتح سلسلة من الصيدليات في كالابريا ومناطق إيطالية أخرى.
وفي مقابل هذه المساعدة، تردد أن المافيا ساعدته في الحصول على أصوات الناخبين ليفوز في الانتخابات الإقليمية عام 2014، وبالإضافة إلى تاليني يجري المسؤولون عن العدالة تحريات عن قرابة 20 عضوا من عصابة "غراند أركاري" الإجرامية.
ويعود تقليد شراء السياسيين للأصوات من عائلات العصابات إلى زمن قديم، كما أنه أمر شائع في إيطاليا.
وتكمن قاعدة ندرانغيتا في إقليم كالابريا حيث يعيش نحو مليوني شخص، وصارت هذه الشبكة منذ التسعينيات من القرن الماضي أكبر منظمة للمافيا في أوروبا، ويتردد أنها تفوقت على شبكة "كامورا" (Camorra) الإجرامية ومقرها إقليم كامبانيا، وكذلك شبكة كوستا نوسترا (cosa nostra) في صقلية، وإلى جانب الاتجار في الكوكايين وتهريب المخلفات، تمارس ندرانجيتا أنشطة إجرامية أخرى.
ومن بين هذه الأنشطة القطاع الطبي، الذي يصفه غراتيري بأنه "قطاع باتت تتركز فيه مصالح عدة متداخلة".
وبينما يصيغ بعض الخبراء الوضع كالتالي: عندما تفشل الدولة في تقديم الخدمات، يبحث المواطنون عن وسائل أخرى لتلبية احتياجاتهم، ويقولون إن شبكة ندرانغيتا تسعى لتشجيع فشل الدولة، يعرب المؤلف روبرتو سافيانو المناهض للمافيا عن اعتقاده بأن "أي نظام لا تعمل آلياته هو بالضبط المكان الذي تدمر فيه المافيا كل شيء، وبالتالي تحقق انتصارا خاصا بها عن طريق ما تمتلكه من سيولة مالية ووسائل السيطرة والتنظيم".
وفي إقليم كالابريا يعاني القطاع الطبي من أوجه للقصور منذ مدة طويلة، ومثل الأقاليم الأخرى في الجنوب الإيطالي اضطرت المستشفيات الصغيرة والمتوسطة إلى إغلاق أبوابها. وهذه التطورات زادت من معاناة المواطنين في زمن الجائحة.
ويعلق المؤلف سافيانو على الوضع بقوله "الجوائح لا تخلق الأزمات، الجوائح تؤدي إلى تفاقم الأزمات الموجودة".
ولكن ما هو الدور الذي تقوم به شبكة ندرانغيتا؟ يقول الخبراء إن أبناء العائلات الإجرامية يدرسون الطب من أجل الحصول على مواقع مؤثرة في جهات الإدارة وفي المستشفيات.
نظام الرعاية الصحية
غير أن غراتيري يحذر من إصدار أحكام عامة، ويقول إن الانتماء لعائلة معينة لا يعني أن الشخص أصبح مجرما بشكل آلي.
كما أن المحققين توصلوا إلى مجموعة واسعة من نماذج الأنشطة الإجرامية، من بينها الخدمات مثل إدخال المرضى المستشفيات أو إقامة الجنائز، وتطول قائمة الجرائم التي ترتكب من الحصول الحصري على العقود والابتزاز إلى الأسعار العالية المبالغ فيها.
وتموّل الدولة نظام الرعاية الصحية في إيطاليا، وتتيح الخدمات الصحية الأساسية للمواطنين، وإلى جانب هذا النظام الحكومي، توجد خدمات صحية أفضل وأكثر سرعة في المستشفيات الخاصة ولكنها أكثر تكلفة.
ويشكو سكان كالابريا منذ مدة طويلة من المنشآت الصحية سيئة الخدمات، ومن نقص الأدوية والأجهزة الطبية، واستجابت الحكومة في روما منذ عدة أعوام بإرسال مفوض حكومي، ويبدو أنه لم يحقق نجاحا في مهمته.
وأصبحت أوجه القصور أكثر وضوحا مع الموجات الأولى للجائحة التي ضربت كالابريا بشدة، واحتلت أنباء الإصابات عناوين الأخبار في إيطاليا وفي بقية أنحاء العالم، وتم إعفاء المفوض من منصبه لعدم الكفاءة، وتواجه الحكومة في روما صعوبات في العثور على بديل له.
ويتطلب قطع الروابط بين السياسيين والمافيا والقطاع الصحي اتخاذ إجراءات أكثر من مجرد الملاحقات الأمنية، ويتفق غراتيري مع هذا الرأي.
ومع ذلك يؤدي رجال الأمن والعدالة واجباتهم، ويقول غراتيري "يتعين علينا أن نظل على أهبة الاستعداد"، غير أنه ينبغي أيضا تغيير الثقافة والذهنية والمفاهيم.