ذباب الذكاء الاصطناعي.. كيف تقود إسرائيل حرب تزييف الصوت والصورة؟

ذباب الذكاء الاصطناعي.. كيف تقود إسرائيل حرب تزييف الصوت والصورة؟
لم يعد بمقدورنا أن نثق فيما يُقدَّم لنا من أخبار وقصص، خاصة بعدما امتلأت وسائل الإعلام بتكهنات غير مؤكدة وأخبار زائفة ومُختلقة، وهو ما نراه اليوم جليا في الحرب التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة. (الصورة: شترستوك)

بعد "طوفان الأقصى" وبدء القصف الوحشي على قطاع غزة أكتوبر/تشرين الأول الجاري، انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي واحدة من الصور المثيرة للجدل، أظهرت (1) جنديا إسرائيليا كأنه أحد الأبطال الخارقين في أفلام هوليوود، يحمل بين يديه طفلين رضيعين زُعم أنه أنقذهما من حماس بعدما اختطفهما مسلحو الحركة وأودعوهما داخل خزانة في قطاع غزة. ورغم الانتشار واسع النطاق للصورة، تبين فيما بعد أنها مولدة بواسطة أدوات الذكاء الاصطناعي.

 

هذا النوع من المعلومات المضللة هو ما استدعى من العالم البريطاني ديميس هاسابيس المتخصص في مجال الذكاء الاصطناعي أن يصرح (2) قائلا: "علينا أن نتعامل مع مخاطر الذكاء الاصطناعي بالقدر نفسه من الجدية الذي نتعامل به مع أزمة المناخ"، مضيفا أن تلك التكنولوجيا الجديدة الفائقة لها وجه آخر مظلم يختلف عما نعرفه عنها؛ إذ بمقدورها أن تصبح أداة للقتل وأن تساهم في صنع الأسلحة البيولوجية، وفوق كل هذا يمكن استخدام قدراتها للتلاعب بالعقول وتوجيه الرأي العام من خلال تقنيات توليد المحتوى المكتوب والمرئي التي تُستخدم وسيلة فعالة في "الحروب المعلوماتية".

 

في الحقيقة، ساهم عصر المعلومات (3) في جعل العالم الذي نحياه مكانا أكثر التباسا، ومع وجود مثل هذه التقنيات لم يعد بمقدورنا أن نثق فيما يُقدَّم لنا من أخبار وقصص، خاصة بعدما امتلأت وسائل الإعلام بتكهنات غير مؤكدة وأخبار زائفة ومُختلقة، وهو ما نراه اليوم جليا في الحرب التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة.

 

"40 طفلا قطعت رؤوسهم"

في مايو/أيار 2021، وصف (4) جيش الاحتلال الإسرائيلي معركة "حارس الأسوار" التي شنتها قوات الاحتلال على قطاع غزة بأنها أول "حرب ذكاء اصطناعي" في العالم، إذ ساهمت هذه التكنولوجيا الفائقة بحسب المسؤولين الإسرائيليين (5) في مضاعفة قوة الجيش الإسرائيلي خلال القتال الذي استمر 11 يوما، وذلك بفضل الأسلحة الآلية وبرامج التجسس وأدوات تتبع ومراقبة الفلسطينيين. هذه الادعاءات نفسها تكررت في الأيام القليلة الفائتة لوصف الهجمات التي يشنها العدوان الإسرائيلي حاليا على القطاع تحت اسم عملية "السيوف الحديدية"، لكن هذه المرة السبب مختلف. فالنهج نفسه الذي استُخدم في تتبع الأهداف على الأرض والاشتباك معها، استُخدم أيضا في الفضاء الإلكتروني لاستهداف الجمهور وتوجيه الرأي العام.

خير مثال على ذلك ما حدث يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الفائت تزامنا مع عملية "طوفان الأقصى"، عندما فوجئ المجتمع الدولي بالادعاءات (6) التي أطلقها جيش الاحتلال الإسرائيلي ومكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، واتهمت أفراد حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) بقطع رؤوس 40 رضيعا.

 

نفت حركة المقاومة حماس الرواية الإسرائيلية، لكن تلك "المعلومة المضللة الصغيرة" انتشرت مثل النار في الهشيم وتداولتها وكالات الأنباء العالمية بوصفها حقيقة مؤكدة، خاصة بعدما أكدها الرئيس الأميركي جو بايدن زاعما أنه رأى صور الرضع مقطوعي الرأس بنفسه، وهو التصريح الذي تراجع عنه البيت الأبيض بعدها نافيا رؤية أية صور. وبحسب تقرير (7) أصدره معهد الشرق الأوسط للتفاهم (Institute for middle east understanding)، لم يقدم جيش الاحتلال الإسرائيلي أي دلائل تدعم صحة مزاعمه، رغم مرور أكثر من 20 يوما على بدء الحرب.

 

لم تقف الادعاءات الإسرائيلية عند هذا الحد، وهذه المرة استُخدمت صورة رضيع متفحم داخل مستشفى إسرائيلي، أُشيع أنها لطفل من ضحايا السابع من أكتوبر/تشرين الأول، الأمر الذي تسبب في شحذ الرأي العام ضد المقاومة الفلسطينية، لكن بالكشف على الصورة (8) تبين أنها هي الأخرى من إنتاج برامج الذكاء الاصطناعي.

(الذكاء الاصطناعي يفضح كذب نتنياهو بنشره صورة يدعي أنها لطفل إسرائيلي)

تتخذ الحرب المعلوماتية لدى إسرائيل أشكالا عدة (9)، فهي تنشر المعلومات الكاذبة والمضللة حينا، وتعمل على تشويه الصورة العامة للخصوم السياسيين في حين آخر، وكل هذا جزء من عملية الحرب الدعائية التي تهدف إلى الترويج لوجهة نظر معينة وتشكيل الرأي العام. فقد استغلت إسرائيل بطريقة ممنهجة التحول الرقمي الذي شهدته وسائل الإعلام المختلفة، والكيفية التي أصبحت بها وسائل التواصل الاجتماعي أداة لتبادل الأخبار، واستخدمت ذلك في حربها المعلوماتية على غزة طوال العقد الماضي بما يخدم أهدافها العسكرية، وهو ما نستطيع أن نرى آثاره في الحرب الدائرة داخل القطاع الآن.

 

جيش من الروبوتات

على مدار القرنين الفائتين، كانت الصورة هي الوسيط الأكثر موثوقية لنقل أخبار الحروب، فقد تعرفنا على هول المعارك من الصور التي التقطها مصورو الحروب الأوائل منتصف القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حينها اكتشفنا الموت من جديد منعكسا على ورق الفوتوغراف، وتأملنا من خلاله لا إنسانية الإنسان، كما يقول بيري ساندرز في كتابه "اختفاء الكائن البشري" (10)، حتى بِتنا نثق بالصورة ونصدقها.

 

جاء عصر التزييف العميق لصور الفوتوغراف والتسجيلات الصوتية ليضرب هذه الثقة والمصداقية في مقتل، فهو يكذب ما تراه أعيننا وتسمعه آذاننا، وتلك هي الأزمة التي نعايشها اليوم في عالمنا الرقمي المرتبط بالإنترنت. نقد جيمس برايدل عصر المعلومات الذي نحياه في كتابه "عصر مظلم جديد" قائلا إن المشكلة لا تكمن في نقص المعلومات، بل في زيادتها المفرطة، وقد أتاحت (11) لنا ثقافة الإنترنت سهولة مشاركة الصور والفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي دون التحقق من صحتها، خاصة إن كانت تلك الصور تداعب مشاعر الجماهير وتقدم قصصا مؤثرة ومتماسكة، ولهذا تنتشر المعلومات المضللة بصورة أكبر.

 

ساهمت ثورة الذكاء الاصطناعي في تعميق هذه المشكلة، ونتج عنها زيادة المعدل الإجمالي لحجم المعلومات المضللة. فنحن نشهد اليوم أدوات "تفبرك" الصور في دقائق معدودة، و"بوتات" محادثة بإمكانها أن تولد أخبارا من لا شيء، وهو ما يغير من قواعد لعبة الحرب إلى الأبد (12). ولمواجهة هذا السيل من الأخبار الزائفة، قامت منصات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها عملاق التكنولوجيا شركة "ميتا" (Meta) المالكة لمنصات فيسبوك وإنستغرام وثريدز، باتخاذ الإجراءات اللازمة لحذف المحتوى المخالف والضار (13)، لكن تلك الصلاحية التي من المفترض أن تُستخدم لمحاربة المعلومات المضللة، استُخدمت أداةً للرقابة وتكميم الأفواه منذ أن شنت إسرائيل حربها على غزة.

 

شنت مواقع التواصل الاجتماعي حربا موازية اقتصَّت فيها من المحتوى المؤيد للقضية الفلسطينية، مصنفة إياه بأنه معلومات مضللة أو تحريض على العنف، وفي المقابل، نجد المنشورات التي تدعم قصف إسرائيل الوحشي تحظى بالتشجيع من خوارزميات مواقع التواصل، بما يؤهلها للظهور بشكل أكثر فاعلية. هذا ما أشار إليه أليس جيكر عندما تحدث عن "جيوش الروبوتات" الخاصة بالذكاء الاصطناعي التي تعمل على تصفية المحتوى، وتحديد ما إذا كان مناصرا لإسرائيل أم ضدها، فإذا كان مع إسرائيل فإن جيشا من الروبوتات سيولد لها سيلا من ردود الفعل الإيجابية من الإعجابات والمشاركات، أما إذا كان المحتوى ضدها، فستعمل تلك الروبوتات بالإبلاغ عنه حتى لا يلقى هذا المحتوى غير المرغوب فيه أي تفاعل (14).

 

قصف المعمداني وحروب المعلومات

لم تقف الأمور عند هذا الحد. فعندما وقع القصف الذي استهدف المستشفى الأهلي "المعمداني" بغزة يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول، خرج المتحدث الرسمي باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي مدعيا أن الصاروخ المتسبب في تلك المأساة الإنسانية ناجم عن عملية إطلاق فاشلة لأحد صواريخ "حركة الجهاد الإسلامي"، واستندت روايته إلى زَعْمَين، الأول كان مقاطع فيديو وصور التُقطت بواسطة الأقمار الصناعية، والثاني كان تسجيلا صوتيا يقال إنه لمكالمة هاتفية بين عضو سابق في حركة (حماس) وأحد سكان القطاع، وقد شككت العديد من المصادر في صحة الأمرين.

 

من جانبها، أجرت (16) صحيفة "نيويورك تايمز" تحليلا موسعا لمقاطع الفيديو التي وردت في الرواية الإسرائيلية، مشيرة إلى وقوع انفجارين بالقرب من المستشفى المعمداني في غضون دقيقتين من القصف، وقد شككت في أن يكون الصاروخ الذي ظهر في الفيديو وبنى عليه المسؤولون الإسرائيليون روايتهم هو المتسبب في انفجار المستشفى.

 

في الوقت ذاته أكدت تغطيات إعلامية (17) بأن الصاروخ الذي ضرب المستشفى المعمداني قد سقط بشكل رأسي، وهو ما يتعارض مع الرواية الإسرائيلية بشأن إطلاقه من مقبرة قريبة من المستشفى. أما فيما يخص المكالمة الهاتفية، فقد قوبل التسجيل الصوتي (18) الذي أصدرته إسرائيل بالشك هو الآخر من قِبَل الخبراء، إذ أجرت (19) القناة الرابعة البريطانية تحقيقا شكَّك في أن تكون اللهجة المستخدمة في التسجيل هي اللهجة المحلية لسكان القطاع، وهو ما يفتح الباب أمام احتمالية قوية لأن يكون التسجيل مفبركا، وهو أمر يتسق تماما مع ممارسات التزييف التي سقطت فيها دولة الاحتلال الإسرائيلي مرارا منذ بدء الحرب.

———————————————————-

المصادر:

  1. "This is probably the first AI war"
  2. AI risk must be treated as seriously as climate crisis, says Google DeepMind chief
  3. عصر مظلم جديد
  4. Israel’s operation against Hamas was the world’s first AI war
  5. Automated Apartheid: How Israel’s occupation is powered by big tech, AI, and spyware
  6. Israel falsely accused of sharing fake images of Hamas atrocities using AI
  7. Fact Sheet: Israel’s History of Spreading Disinformation
  8. الذكاء الاصطناعي يفضح كذب نتنياهو بنشره صورة يدعي أنها لطفل إسرائيلي
  9. Israel’s information war
  10. اختفاء الكائن البشري – أرواح غافلة
  11. Real images or fake news? How to avoid sharing misinformation on social media
  12. IntelBrief: AI-Powered Disinformation in the Israel-Hamas War and Beyond
  13. Meta ‘taking steps’ to censor support for Palestinian resistance
  14. Pro-Palestinian creators use secret spellings, code words to evade social media algorithms
  15. المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي: حماس ضخمت أرقام القتلى في انفجار المستشفى
  16. A Close Look at Some Key Evidence in the Gaza Hospital Blast
  17. قناة بريطانية: إسرائيل زيفت الأدلة بشأن استهداف مستشفى المعمداني بغزة
  18. Gaza Baptist Hospital massacre: Why Israeli Hamas ‘audio evidence’ is probably disinformation
  19. Who was behind the Gaza hospital blast – visual investigation
المصدر : الجزيرة

إعلان