مخاوف بوتين.. هل تحافظ القبضة الأمنية على شرعية النظام؟
تشير جميع الدلائل إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ذروة سلطانه، إذ يتمتع في الوقت الحالي بقبول محلي تبلغ نسبته أكثر من 80%، كما أنه همَّش، إن لم يكن قمع، المعارضة السياسية الجادة في بلاده، وبكل المقاييس، يفرض بوتين سيطرةً كاملة على جهاز الدولة الروسية، لا سيما ما يطلق عليها "وزارات القوة"، مثل وزارتي الدفاع والداخلية.
على الرغم من إحكام قبضته على السلطة، بدا بوتين حذرا عندما ظهر عشرات المواطنين الروس فجأة في الشوارع خلال احتجاجات سلمية ضد الفساد بين الدوائر الرسمية، وذلك في نهاية مارس/ آذار المنصرم، وقابلت الحكومة هذه الاحتجاجات بالقبض على ما يقرب 1000 متظاهر، بمن فيهم زعيم المعارضة، أليكسي نافالني، فلماذا يسيطر هذا القلق على قائد سياسي يبدو مسيطرا بالكامل على الأوضاع؟
يمكن أن يعزى قلق بوتين إلى ثلاثة أسباب، وهي: حدود الاستبداد، والتهديد المحدد الذي شكلته ادعاءات الفساد، والتحدي الذي يواجهه للإبقاء على شرعية نظامه في ظل ركود الاقتصاد.
يتصل أول هذه الأسباب بالمفارقة التي تكمن في قلب السلطة الاستبدادية: ففي مثل هذا النظام، يمكن أن تتغير التصورات حول الزعيم الذي لا يقهر سريعا، فحتى هذه اللحظة، لم تحدث على الإطلاق أي ثورة في أي ديمقراطية ليبرالية، ويعد التفسير الأكثر رجحا هو الأبسط أيضا: وهو أن بداخل أي ديمقراطية ليبرالية هناك أمل دائم بإمكانية إزاحة أي زعيم مكروه من السلطة عبر الوسائل الدستورية، بينما في الأنظمة الاستبدادية لا يوجد أي إجراء يمكن أن يتبعه الشعب لإزاحة أي زعيم إلا بالثورة.
لا تعتبر روسيا دولة استبدادية من الناحية العملية؛ لأنها تملك على الأقل مظاهر الانتخابات والمعارضة السياسية، وبدلًا من ذلك، يصفها معظم علماء السياسة بأنها "نظام هجين"، يحتوي على مزيج من العناصر الاستبدادية والعناصر الديمقراطية، على الرغم من أن الانتخابات في روسيا تكون بالكاد انتخابات حرة، فإنها موجودة بالفعل، كما أن النظام السياسي يعتمد عليها كي يضفي بعضا من الشرعية على من هم في سدة الحكم.
وتبدو الطبيعة الهجينة للنظام السياسي في روسيا بارزة بسبب الادعاءات بتزوير الانتخابات التي حفزت معظم ما يسمى بـ "الثورات الملونة"، مثل "ثورة الزهور" التي وقعت في جورجيا عام 2003، و"الثورة البرتقالية" التي وقعت في أوكرانيا عام 2004، وأيضا الاحتجاجات الروسية عامي 2011 و2012، التي تركزت في مدينتي موسكو وسان بطرسبرغ.
تواجه روسيا انتخابات رئاسية خلال العام القادم، ويخطط نافالني، الذي ألهم الاحتجاجات الأخيرة، لخوض السباق الرئاسي، ولا يوجد سوى قليل من الشكوك حول فوز بوتين، بالرغم من أن عملية الانتخابات نفسها تخلق ضعفا طفيفا؛ لأنها قد تصبح نقطة محورية يتركز حولها الاستياء الشعبي.
من المؤكد أن روسيا مثل الأنظمة الهجينة الأخرى، خلقت لنفسها معضلات محددة، على سبيل المثال، رغم أن روسيا لم تقصي وسائل الإعلام المستقلة كليا، فقد دفعت بوجهات النظر الناقدة إلى الهامش، وعندما تهيمن وسائل الإعلام الرسمية المتملقة، لا يحصل القادة السياسيون سوى على قليل من ردود الأفعال المتعلقة بآراء مواطنيهم فيهم، ويصير من العسير عليهم تحديد النقطة التي ينهار عندها المجتمع ومدى قربهم من الوصول إلى هذه النقطة، ولهذا السبب، جاء حجم الاحتجاجات المناهضة للفساد مفاجئًا لزعماء روسيا.
أما السبب الثاني وراء قلق بوتين، فهو أن ادعاءات الفساد – لا سيما الادعاءات ذات المصداقية بوجود فساد هائل بين كبار المسؤولين الحكوميين -، يخلق تحديا أمام كل من الشرعية السياسية للنظام، وكذلك الثروة التي يمتلكها الحكام.
فاحتجاجات مارس/ آذار المنصرم، اشتعلت إثر فيديو مدته 50 دقيقة بثه نافالني في فبراير/ شباط من العام الحالي، قدم خلاله توثيقا شاملا يفيد بأن رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف جمع أصولًا بلغت قيمتها مليار دولار، بما في ذلك عقارات محلية، وحقل كروم في "توسكانا"، ويختين، على الرغم من دخله الحكومي المتواضع.
بالإضافة إلى إثارة الغضب الشعبي، يتسبب الإفصاح عن الثروات غير المشروعة التي يمتلكها المسؤولون الحكوميون بإحداث إشكالية عميقة للقيادة الروسية؛ لأنهم يعملون في ظل نظام تعتبر فيه السلطة السياسية هي الضامن الحقيقي الوحيد للحقوق الملكية.
ويأتي ذلك عقب "ثورة الميدان" عام 2014، عندما طُرِد الرئيس الأوكراني آنذاك فيكتور يانوكوفيتش من مكتبه، وتحول القصر الذي وصلت فخامته حد العبث، والذي بناه يانوكوفيتش لنفسه (واحتوى على حديقة حيوان ومطعم على طراز سفينة قراصنة)، إلى متحف يزوره المواطنون ليحدقوا فاغري أفواههم فيما سرقه زعيمهم السابق.
وحسبما يوضح المصير الذي لاقاه يانوكوفيتش، أيًا كان حجم الأملاك الشاسعة التي يتمتع بها الزعماء الحاليين في روسيا، فإن السقوط من فوق القمم السياسية يمكن أن يعني فقدان الثروة بالإضافة إلى فقدان السلطة.
وصلت هذه الحالة من الانتعاش إلى نهايتها عام 2014 مع انخفاض أسعار النفط العالمية، ومنذ ذلك الحين، يترنح الاقتصاد وتتراكم المظالم الشعبية، وبينما يعاني كثير من الروس من أجل سد حاجاتهم الأساسية، تحظى اتهامات تحقيق الثروات غير المشروعة بوزن أكبر.
منذ عام 2014، ازدادت الاحتجاجات العمالية حول مسائل الثروات، وفي نفس الوقت الذي وقعت خلاله الاحتجاجات الأخيرة تقريبا، بدأ سائقو الشاحنات إضرابا على مستوى البلاد ضد ما رأوه ضريبة غير شرعية على الطرق، وما زاد الطين بلة حقيقة أن الرسوم تجمعها شركة خاصة يمتلكها نجل أركادي روتنبرغ، أحد الأصدقاء القدامى لبوتين.
وعندما احتج سائقو الشاحنات لأول مرة على الضرائب في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، كان أبرز مطالبهم يقول "ساعدنا أيها الرئيس"، والآن بعد مرور أكثر من عام، يطالبون بإقالة حكومة رئيس الوزراء ميدفيديف، وأعلنوا "عدم ثقتهم في الرئيس".
إن كان هناك حاجة إلى مزيد من الدلائل على أن الاستياء الاقتصادي يمكن أن يؤدي إلى الاحتجاج، فيمكن أن ينظر القادة الروس إلى جارتهم روسيا البيضاء، حيث بقي ألكسندر لوكاشينكو – الذي يشار إليه في الغالب بأنه آخر ديكتاتور بأوروبا -، في السلطة منذ عام 1994 عن طريق مزيج من الاستبدادية وما عرف بـ "الاشتراكية عبر الإعانات المالية الروسية".
وكانت موسكو حينها تصدر النفط والغاز بأسعار أقل من الأسعار السوقية، كي تحافظ على الاكتفاء الاقتصادي لروسيا البيضاء، ومع انتهاء هذه الإعانات المالية، خرج مواطنو روسيا البيضاء إلى الشوارع مطالبين باستقالة لوكاشينكو.
وقد وقعت الاحتجاجات الأخيرة في كل من روسيا وروسيا البيضاء -على عكس الاحتجاجات السابقة- في مدن وبلدات بعيدة عن المناطق الحضرية الرئيسية، إلا أنه ما من إشارة على أن ثورة ملونة تلوح في الأفق في روسيا، إذ أن تقييمات شعبية بوتين تبقى مرتفعة.
فيما أحاطت قوات الشرطة بالكثير من المشاركين في احتجاجات مارس/ آذار، كما أُلقي القبض على قادة إضراب سائقي الشاحنات قبل أن تبدأ الاحتجاجات من الأساس، لكن لا شك أن بوتين وزمرته يحيطهم الخوف جنبا إلى جنب مع السلطات الواسعة التي يتمتعون بها.
وعلى الرغم من أن شرعية نظام بوتين تعتمد على توفير الاستقرار بالمقارنة مع الفوضى التي شابت تسعينات القرن الماضي، فقد يعاني بوتين في ظل عودة ظهور العلامات التي صاحبت شقوق الماضي، ومن المؤكد أن قلقه كان جليًا في قرار الحكومة بالتقليل من الاحتفال بالذكرى المئوية للثورة الروسية عام 1917، وهي إحدى أكثر الثورات الاجتماعية دراماتيكية على مر العصور.
في ظل غياب المؤسسات ذات الشفافية الضرورية لإدارة الدولة وضبط العلاقات بينها وبين المجتمع، والخوف من فقدان الثروة والسلطة، وتزايد التذمر من ركود الاقتصاد؛ ينبغي عليه إدراك أن فقدان قبضته التي يحكم بها على السلطة ستجعل السقوط مدويا بكل تأكيد.
_____________________________________________________________