"تسونامي المستقبل".. كيف تنجو الدوحة بانسحابها من "أوبك"؟
لم يكن سوق النفط العالمي أكثر فوضوية مما كان عليه في أواخر العام 2015، كانت جميع الدول المنتجة للنفط، سواء داخل منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" أو خارجها، تُغرق الأسواق وقتها في سباق محموم لضخ أكبر كميات ممكنة للبيع، وبأسعار تلامس الأرض انخفضت تحت مستوى 28 دولارا للبرميل أوائل العام التالي 2016 كنتيجة منطقية للفائض اليومي لحاجة السوق العالمية، والبالغة وقتها مليون برميل يوميا. كان المشهد الفوضوي خاليا من أي دور للمنظمة التي لطالما عملت لعقود كفاتيكان النفط جامعة 15 دولة هم أعضاء كارتل الإنتاج العالمي، من أجل ضمان أسعار مرتفعة للذهب الأسود، إلا أن ذلك الفاتيكان بدا وقتها في أضعف حالاته بعد أن عجز عن السيطرة على الإنتاج، ليتم فتح المنابع النفطية عن آخرها ما حدا بأسعاره للتهاوي لمستويات لم تصل إليها منذ 13 عاما في ذلك التوقيت.
في عام 2016 تولّت قطر رئاسة اجتماعات "أوبك" وسط تحديات كادت أن تعصف بالمنظمة العتيقة، وكان الهدف الأساسي لتلك الاجتماعات هو استعادة مكانة المنظمة وإعادة التوافق بين الدول الأعضاء لاتخاذ موقف موحد، وفي مارس/آذار من العام المذكور وبصورة غير متوقعة نجحت تلك الاجتماعات بالفعل في جمع شتات دول "أوبك"، لا سيما قادة الأطراف المتعارضة مثل السعودية وفنزويلا، جامعة إياهم على طاولة مفاوضات واحدة للوصول لحلول فعالة والاتفاق على تخفيض الإنتاج(1). ولم يكن ذلك ما حدث في الدوحة وحسب، وإنما نجحت الاجتماعات في ضم كبار منتجي النفط من خارج "أوبك" أيضا مثل روسيا، ليجتمع ممثلو 18 دولة في العاصمة القطرية بأبريل/نيسان، ورغم عدم الاتفاق في تلك الجلسة العامة التي استمرت 12 ساعة فإنها كانت نواة لاجتماعات أهم لاحقة.
في أواخر سبتمبر/أيلول للعام نفسه، وبعد مشاورات لأسابيع تحت الرئاسة القطرية؛ توصّلت دول "أوبك"، مع حفنة من المنتجين الرئيسين خارج المنظمة مثل روسيا والمكسيك وكازاخستان، إلى "اتفاق تاريخي" في الجزائر بتخفيض الإنتاج وكبح وفرة المعروض، اتفاق سيسمح لـ "أوبك" وقتها باستعادة وظيفة المراقبة للسوق النفطية، وهي وظيفة "فقدتها منذ مدة طويلة" بحسب تعبير وزير النفط الجزائري "نور الدين بوطرفة" في ذلك الوقت(2)، ومن ثم بدأت أسعار النفط بعدها في الصعود مجددا من 28 دولارا للبرميل أوائل عام 2016 إلى 53 دولارا في نهاية العام، حتى إن وكالة الطاقة الدولية التي تراقب إمدادات الطاقة أشادت في فبراير/شباط للعام الماضي 2017 بمستوى الانضباط في الالتزام باتفاق تخفيض الإنتاج، مؤكدة أن الاتفاق كان أول خطوة من نوعها في تاريخ "أوبك" من حيث حجم التخفيض والالتزام به(3).
ولكن بحلول منتصف العام الماضي كانت أشياء كثيرة في طريقها للتغيير العنيف، ففي يونيو/حزيران بدأت المملكة العربية السعودية والإمارات ومن ورائهما مصر والبحرين في مقاطعة قطر الشهيرة وفرض حصار دبلوماسي واقتصادي عليها في محاولة لـ "تغيير سلوكها" كما قيل، وثنيها عن اتباع نهج مستقل في سياساتها والذي ربما "يُشكّل خطورة على استقرار أنظمة تلك البلدان الحاكمة"، وبطبيعة الحال لم تكن "أوبك" قبل تلك الأزمة كما كانت بعدها، فرغم الإنتاج النفطي الصغير لقطر وعدم قدرتها على التأثير بمفردها بأي حال في أسعار النفط، فإنه بدا وكأن هناك صدعا واسعا قد أصاب المنظمة بعيد الحصار مباشرة.
فبعد مرور نحو ستة أشهر على الحصار الرباعي، قالت مصادر من داخل "أوبك" لوكالة رويترز إن تفاقم الأزمة بين قطر والسعودية "سيدفع وزراء النفط لدول الخليج في المنظمة لإلغاء اجتماعاتهم خلف الأبواب المغلقة للاتفاق على سياساتهم قبل الاجتماعات الدورية كما هو معتاد"، وهي الاجتماعات الأهم بطبيعة الحال والتي يتم فيها ضبط مسار الإنتاج العالمي بشكل دوري، فيما أشار مصدر كبير داخل "أوبك" في التقرير نفسه أنه "كان هناك مجموعة محادثة على تطبيق الرسائل "واتس آب" تضم جميع الوزراء والمندوبين من الخليج"، وكانت غرفة الدردشة تلك "مزدحمة جدا" حد تعبيره، إلا "أنها أصبحت الآن في عداد الأموات"(4).
ثم أشارت مصادر إلى حقيقة تنامي تحالف بقيادة العراق وإيران داخل "أوبك" على حساب ضعف التحالف الخليجي المعتاد بسبب الأزمة، وتحوز العراق وإيران على رابع وخامس أكبر احتياطيات نفطية في العالم على الترتيب، ويمتلكان بالفعل الفرصة الأكبر في زيادة الإنتاج ومن ثم يُشكّلان أكبر تحدٍّ لدور السعودية القيادي داخل "أوبك"، لذا بذلت الرياض جهودا ضخمة لتقليص النفوذ الإيراني داخل العراق وإبعادها عن إيران على مدار عام ونصف مضت.
لكن قطر على ما يبدو قررت أن تُنهي هذا الماراثون النفطي على طريقتها الخاصة، ففي خطوة مفاجئة وصادمة لبعض الدول أعلنت الدوحة في 3 ديسمبر/كانون الأول الحالي، انسحابها من "أوبك" بعد أقل من شهر اعتبارا من يناير/كانون الثاني 2019، بعد ما يقرب من 60 عاما من العضوية(5) لتصبح أول دولة شرق أوسطية تنسحب من المنظمة. وجاء إعلانها بلا أسباب سياسية على ضوء أزمة الحصار الأخيرة، وإنما رُد قرار الانسحاب رسميا لأسباب إستراتيجية داخلية تتعلق بإنتاج الغاز، مع مواصلة الوفاء بالتزاماتها الدولية شأنها شأن الدول غير الأعضاء في المنظمة.
جاء التأكيد على لسان "سعد الكعبي"، وزير الدولة لشؤون النفط والرئيس التنفيذي السابق لشركة قطر للبترول، من تم تعيينه في تعديل وزاري محدود أوائل نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مشيرا بشكل صريح إلى أن القرار لم يكن مرتبطا بالمقاطعة السياسية والاقتصادية، ولكنه يرتبط بإستراتيجية البلاد طويلة الأجل وخطط تطوير قطاع الغاز المسال، وزيادة إنتاجه من 77 مليون طن سنويا إلى 110 ملايين طن في الأعوام المقبلة، علاوة على زيادة الطاقة الإنتاجية لقطر للبترول من 4.8 مليون برميل يوميا من النفط المكافئ إلى 6.5 مليون برميل، وبناء أكبر وحدة في الشرق الأوسط لتكسير الإيثان.
كانت قطر أول دولة تنضم إلى منظمة "أوبك" عقب تشكيلها بعام من قِبل الدول الخمس المؤسسة وهي إيران والعراق والسعودية والكويت وفنزويلا عام 1960، وبمرور الوقت، ومع رغبة الدول المصدرة للبترول في الحفاظ على الأسعار وضمان إمدادات مستقرة للأسواق، ارتفع عدد الدول الأعضاء حتى وصل الآن إلى 15 دولة يقومون بتزويد السوق العالمي بنحو 40% من النفط، وتعتبر مساهمة قطر فيها هامشية مقارنة مع بعض أكبر منتجي الكارتل كالسعودية والعراق، إذ تضخ الدوحة نحو 600 ألف برميل من نحو 25 مليون برميل يوميا من جميع أعضاء المنظمة.
لكن الانسحاب غير السياسي كما أُعلن رافقه الكعبي بتأكيدات على أن قطر "ستُحدث دويًّا في نشاط النفط والغاز قريبا" (6)، إلا أن ذلك الدوي على الأرجح سيسبب تصدعا أكبر في أسوار المنظمة التي ليست في أفضل حالاتها، وسيفاقم أسئلة أكبر عن مصيرها غير المعروف حاليا.
بالنظر إلى تطورات خارطة الطاقة العالمية خلال السنوات الماضية، يبدو أن هناك تغييرات عميقة تحدث بين قطاعي النفط والغاز الطبيعي المسال "LNG" في العالم. فتشير تحركات شركات النفط العالمية مؤخرا إلى إعادة تشكيل محفظة الإمدادات الخاصة بها نحو الغاز المسال، استجابة لمخاوف متعلقة بذروة الطلب على النفط، كما تشير إلى ذلك شركة "وود ماكينزي" لاستشارات وأبحاث الطاقة(7)، حيث تحتدم المنافسة بين الشركات الكبرى في تعزيز حصة إنتاج الغاز على حساب النفط في السنوات الأخيرة.
يُعد الغاز الطبيعي المسال البديل النظيف والآمن الذي تتحول إليه دول العالم الآن، فنسبة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون منه تصل للنصف مقارنة بالفحم، ويتم الاعتماد عليه في إنتاج الكهرباء النظيفة، لذا فهو الأكثر نموا في الطلب على المدى الطويل من بين جميع أنواع الوقود الأحفوري الأخرى وعلى رأسها النفط. ولتأكيد ذلك، تتنبأ شركة أبحاث الصناعة في مجالات الطاقة "بلومبيرغ نيو إنيرجي فاينانس" (BNEF) بأن الطلب على الغاز الطبيعي المسال سينمو بداية من عام 2023 بنسبة من 4 إلى 7% سنويا(8)، وهو أمر أكّده ستيف هيل، نائب الرئيس التنفيذي لتجارة الغاز في شركة "شل"، وهي أكبر منتج للغاز الطبيعي المسال في العالم، حينما أشار إلى نمو الطلب على الغاز بشكل أسرع من الطلب الكلي على الطاقة.
لم تكن تلك النتائج غائبة عن شركات الطاقة العملاقة التي تتنافس بقوة على التهام أكبر جزء من كعكة الغاز المسال على حساب حصة النفط بعد أدائها السيئ على مدار خمس السنوات الماضية، وهو أداء دفعها لتتخذ الغاز المسال جزءا أساسيا من إستراتيجيتها لإعادة بناء محفظة أصولها المالية. ويأتي على رأس المنافسين شركات مثل "شل" و"بريتش بتروليوم" (BP) اللتين تمكّنتا من تقليل سطوة شركة "إكسون موبيل" كأكبر شركة نفط في العالم من خلال زيادة حصتهما من الغاز المسال، وبالتأكيد لم تكن شركة "شيفرون" خارج المنافسة، حيث أضافت مشروعين أستراليين للغاز الطبيعي المسال، كما تواصل "إكسون موبيل" نفسها أعمالها أيضا بمشروعي غاز رئيسين في بابوا غينيا الجديدة وموزمبيق.
يظهر التنافس الكبير بين شركات الطاقة في التوجه الإستراتيجي للغاز المسال في الاستحواذ الذي قامت به شركة "شل" على شركة "بي جي" البريطانية للغاز بقيمة تتجاوز 50 مليار دولار عام 2015، رغم أن أسعار النفط والغاز في ذلك الوقت وصلت إلى القاع، إذ يشير المحللون، وفقا لوكالة بلومبيرج، إلى أن الاستحواذ كان في المقام الأول متعلقا بشراء أصول الغاز نفسها، ومن ناحية أخرى تواصل شركة "بي بي" عمليات توسعة الغاز، فبحلول عام 2020 تتوقع الشركة أن تُنتج نحو 60% من الغاز و40% من النفط لتعكس الوضع الذي كانت عليه عام 2014.
ينطوي هذا التنافس في حقيقته على صراع خفي بين كبار منتجي الغاز الطبيعي المسال في العالم مثل قطر وأستراليا وروسيا ومؤخرا الولايات المتحدة. ولفهم خريطة هذا الصراع ينبغي توضيح مركز قطر باعتبارها أكبر مورد للغاز الطبيعي المسال عالميا، فإن كانت قطر تشبه أسماك المنوة الصغيرة حينما يتعلق الأمر بالنفط، فهي بلا شك حوت ضخم حينما يتعلق الأمر بإنتاج وتصدير الغاز، إذ تُنتج ما يقرب من 30% من إجمالي إنتاج الغاز في العالم، بعد أن كانت لا تُصدّر أي كميات من الغاز عام 1997، لتقود العالم بحلول عام 2011 مع طاقة إنتاجية تبلغ 77 مليون طن سنويا.
وفي العام الماضي 2017 استمرت قطر في الهيمنة على صادرات الغاز المسال العالمية، فوفقا لتقرير(9) شركة "بي بي" للسوق العالمية للطاقة الصادر في يونيو/حزيران الماضي، فقد صدّرت قطر 103.4 مليار متر مكعب من الغاز المسال، وكانت منطقة آسيا والمحيط الهادئ هي سوقها الرئيسة وتحديدا كوريا الجنوبية واليابان، حيث التهمت تلك المنطقة ثلاثة أرباع الإنتاج، بينما ذهب أقل قليلا من الربع إلى أوروبا. وجاءت أستراليا ثاني أكبر مصدر للغاز المسال بـ 75.9 مليار متر مكعب ذهبت معظمها إلى الأسواق الآسيوية.
الآن تواجه تلك الأسواق التقليدية دخلاء جددا لم يكن أحد يتصور وجودهم قبل ثلاثة أعوام فقط، وعلى رأسهم الولايات المتحدة مدفوعة بالثورة الصخرية، ليقوموا على ما يبدو بإعادة تشكيل سوق الغاز المسال العالمي وسط صراع على رقعة الاستهلاك من قِبل المنتجين القدامى مثل قطر وأستراليا وروسيا. فقبل عام 2016 كانت أميركا تُنتج نحو 1.5 مليون طن سنويا، ليتجاوز الإنتاج بمرور الوقت 25 مليون طن، وفي نهاية العام الحالي ستقوم بإطلاق تسعة مشاريع لتصدير الغاز المسال، لترتفع الطاقة الإنتاجية للولايات المتحدة إلى 63 مليون طن سنويا، ولن يتجمد الإنتاج عند هذا الرقم بنهاية العام القادم، فهناك العديد من المنشآت الجديدة التي يتم تهيئتها لبدء التصدير.
ومع زيادة الطلب على الغاز المسال كما ذكرنا، فمن المتوقع أن تداعب رائحة تلك الزيادة أنوف لاعبين آخرين للدخول لحلبة السباق، وهو ما حدث بالفعل أوائل أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حينما أعلنت "شل" وشركاؤها الموافقة النهائية على قرار الاستثمار في مشروع للغاز المسال غرب كندا بقيمة 31 مليار دولار، ما يجعله أكبر مشروع للبنية التحتية في البلاد ونقطة التحول في دخول كندا لحلبة المنافسة العالمية، حيث ستتمكّن من إرسال شحنات الغاز المسال إلى طوكيو في ثمانية أيام فقط مقابل 20 يوما من الساحل الجنوبي للولايات المتحدة بداية من عام 2025(10).
إلا أن هناك عائقا يمكن أن يعيق توغل الولايات المتحدة في لعبة الغاز قليلا وبالتالي يمنح قطر برهة من الوقت لإحكام سيطرتها على أسواقها، وهو الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين والتي يصر الرئيس الأميركي دونالد ترامب على المُضي قُدما فيها، فبغض النظر عن اتفاقه قبل بضعة أيام مع الرئيس الصيني شي جين بينغ على هدنة مدتها 90 يوما، فإن الإشكالية التي تواجه ثورة الغاز المسال في أميركا هي تردد المستثمرين في اتخاذ قرارات الاستثمار بشأن منشآته، والتي قد تصل تكلفتها إلى نحو 50 مليار دولار، بسبب عدم اليقين بشأن عوائد تلك الاستثمارات على المدى الطويل في ظل تلك الحرب التجارية.
تُعد الصين هي ثاني أكبر مستورد للغاز المسال في العالم بعد اليابان، ومن ثم فهي المحرك الرئيس لنمو واردات الغاز المسال في خلال السنوات العشر القادمة على الأقل، ولزيادة الشكوك فإن بكين لم تتأخر كثيرا في تأكيد مخاوف المستثمرين، إذ قامت في سبتمبر/أيلول الماضي بفرض تعريفة قدرها 10% على الغاز المسال الأميركي من بعد فرض واشنطن تعريفات على السلع الصينية بقيمة 200 مليار دولار، وبالتالي فإن خسارة مصدري الغاز المسال الأميركيين لمستهلك لديه شهية مفرطة في استهلاك الغاز، شهية تزداد سنويا بسبب عملية الإحلال التي يقوم بها للفحم بالغاز؛ تعد تلك الخسارة المتوقعة أمرا مقلقا لعائدات الاستثمار طويلة الأجل.
ويبدو أن قطر لم تُضِع وقتا في اقتناص الفرصة، فلم ينته سبتمبر/أيلول على مصدري الغاز الأميركيين إلا بضربة ثانية، حينما أعلنت شركة "قطر غاز" أنها أبرمت "اتفاقية بيع وشراء طويلة الأمد" مع شركة "بتروتشاينا" الصينية لتزويد العملاق الآسيوي بنحو 3.4 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال سنويا لمدة 22 عاما(11). ومع ذلك، فلا يُعد تخلي باقي البلدان الآسيوية كاليابان وكوريا الجنوبية عن الغاز الأميركي واستمرار استيرادها للغاز القطري أمرا سهلا، فمع جرأة ترامب وعدم دبلوماسيته غير المألوفة واشتباكه بأريحية وبسرعة في الحروب التجارية؛ تدرس بعض الدول شراء المزيد من الغاز المسال الأميركي وسيلة لتحييد نزعات الرئيس الأميركي الهجومية في المناقشات التجارية التي يجريها معهم. وربما لم يظهر ذلك التحول خلال العام الحالي لضآلة الإنتاج الأميركي، ولكن بحلول العام القادم وحينما تحدث قفزة الإنتاج؛ فلن تجد بعض الدول ما يبرر عدم استيرادها للغاز الأميركي رغم وجود فوائض تجارية لصالحها مع الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي يثير غضب ترامب دوما، لذا فيبدو أن الطريق السريع والملموس لخفض الفوائض التجارية تلك هو طريق ذو اتجاه واحد: استيراد المزيد من موارد الغاز المسال الأميركية(12).
على الجانب الآخر، فهناك بقعة مشتعلة أخرى بين الولايات المتحدة وروسيا وهو السوق الأوروبي الذي يلتهم ربع الصادرات القطرية من الغاز المسال، وبالطبع لن يترك ترامب حلفاء واشنطن التقليديين من الأوروبيين ليصطدم بالغاز الروسي والقطري الذي يجري في مواقد التدفئة داخل معظم البيوت الأوروبية الآن، لذا يبدو أن أميركا ستضغط على الأوروبيين لاستيراد الغاز الأميركي العام القادم، فمن ناحية تريد تصريف الفوائض الجديدة لديها ولن تجد أقرب من أوروبا، ومن ناحية أخرى فمجرد اعتماد أوروبا على الغاز الروسي يُشكّل خطورة إستراتيجية في الصراع العالمي المعتاد بين واشنطن وموسكو.
ومع ذلك، لن يكون الظفر بالعملاء الأوروبيين قريبا جدا من ترامب، ولكنه سيضغط على الأرجح على أي حال، لا سيما لإيقاف خط أنابيب "نورد ستريم 2″، وهو خط أنابيب بقيمة 11 مليار دولار يربط بين ألمانيا وروسيا تحت بحر البلطيق ويجري إنشاؤه الآن، وتدعمه ألمانيا المستهلك الأوروبي الأكبر للغاز الروسي. ويبدو أن واشنطن لن تدع فرصة إلا وستضغط فيها لإيقاف ذلك المشروع الذي يحمل الغاز الروسي إلى قلب أوروبا، فعلى سبيل المثال، وفي ضوء حادثة مضيق "كيرش" أواخر الشهر الماضي، حينما قامت روسيا باستخدام القوة واحتجاز ثلاث سفن أوكرانية أثناء عبورها من المضيق الذي يربط البحر الأسود ببحر آزوف بالقرب من منطقة القرم، ومنذ ساعات قليلة قالت وزارة الخارجية الأميركية إنه "ينبغي لحلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين التخلي عن مشروع "نورد ستريم 2″ بعد حادثة كيرش لأنه بات واضحا أنه كان فكرة سيئة" (13).
في الواقع، لا تُعارض الولايات المتحدة خط أنابيب "نورد ستريم 2" فحسب، وإنما هناك خط مماثل يمر عبر جنوب أوروبا يُدعى "تُرك ستريم" ويمتد من روسيا إلى تركيا بتكلفة 8.6 مليار دولار، وسيسمح لروسيا بتقليل اعتمادها على أوكرانيا كطريق لعبور إمدادات الغاز الروسية إلى أوروبا. حتى إن وزير الطاقة الأميركي قال صراحة لرئيس الوزراء الأوكراني الشهر الماضي إن الولايات المتحدة ملتزمة بمعارضة بناء خطي أنابيب "نورد ستريم 2″ و"تُرك ستريم" بحجة "أنه لا ينبغي لمواطني أوكرانيا وأوروبا أن يكونوا رهائن لتوريد الطاقة من مصدر واحد"، مؤكدا استعداد الولايات المتحدة للعمل كشركاء مع أوكرانيا في قطاع الطاقة(14).
في وسط تلك المنافسة المحتدمة، تجد الدوحة نفسها أمام تحديات كبيرة للدفاع عن أسواقها والمحافظة على موقعها كأكبر مصدر للغاز المسال عالميا، مع فتح أسواق جديدة تستوعب الزيادة القادمة في الإنتاج. لذا لم يكن مستغربا أن تنتهج قطر بداية من عام 2016 سياسات أكثر صرامة وبناء إستراتيجيات قصيرة وطويلة الأجل لمواجهة التغيرات السريعة في سوق الطاقة العالمي، فبدأت إصلاحاتها في ديسمبر/كانون الأول نهاية العام المذكور، حينما أعلنت عن عملية اندماج بين شركتي "قطر غاز" و"راس غاز" تحت مظلة كيان واحد هو "قطر غاز"، ليدير ذلك الكيان جميع المشروعات والمنشآت التي تشغلها الشركتان بهدف توفير نحو 550 مليون دولار من تكاليف التشغيل السنوية، وفي يناير/كانون الثاني من عامنا الحالي أعلنت شركة قطر للبترول اكتمال عملية الاندماج وفقا لما كان قد خُطّط له(15).
كانت الخطوة التالية هي إطلاق المارد الذي دام تجميده لنحو 12 عاما، ففي العام 2005 جمّدت الدوحة مشاريع التطوير في حقل الشمال، أكبر حقل للغاز الطبيعي في العالم، والذي تتقاسمه مع إيران التي تسميه حقل "بارس" الجنوبي، بسبب المخاوف من زيادة العرض والإفراط في الإنتاج. وفي أبريل/نيسان عام 2017 قررت الدوحة استئناف عمليات تطوير الحقل، ليرتفع الإنتاج الحالي منه بنسبة 10%، وإضافة نحو 400 ألف برميل من المكافئ النفطي يوميا(16)، ومن ثم المساعدة في تعزيز القدرات التصديرية من 77 مليون طن إلى 110 مليون طن سنويا. وكنتيجة لاستئناف العمل في حقل الشمال، قالت قطر في سبتمبر/أيلول الماضي إنها ستقوم ببناء أربع محطات تسييل جديدة تُعرف باسم القطارات ينتهي العمل منها بحلول عام 2025(17).
إذن يبدو أن انسحاب قطر من "أوبك" يأتي في إطار تلك التحركات الإستراتيجية. فمن ناحية فإن المنظمة تبدو وكأنها فقدت استقلاليتها وأصبحت تابعة للمتحكم الفعلي فيها وهي السعودية، من تبدو عاجزة أو غير راغبة في تكوين إجماع على قرارات قد تضر الولايات المتحدة، حيث تسعى المملكة للالتصاق بواشنطن، ومن ثم فبات فاتيكان النفط بلا فاعلية تقريبا، حيث إن القرارات الصادرة عن "أوبك" في الفترة الأخيرة هي في الغالب قرارات أحادية تؤدي إلى نتائج عكسية في إدارة التكتل لسوق النفط، وزاد سوء الوضع بشكل خاص عقب مقتل الصحافي السعودي الأشهر جمال خاشقجي، وبالتالي فإن الانسحاب من "أوبك" يمنح قطر استقلالية أكبر عن السعودية، لا سيما لتتمكّن من حشد طاقاتها واللعب بكفاءة في مباريات جوع الغاز المستقبلية المحتومة.
من ناحية أخرى، لم يتوقف ترامب عن ممارسة سلوكه الاستنزافي المعتاد وانتقاد "أوبك" لرفع الأسعار، وبدأت بالموازاة وزارة العدل الأميركية في التحرك رسميا لمراجعة التشريعات الأميركية لكبح جماع "أوبك"، وإذا نجح ترامب في تمرير مشروع قانون يُدعى "منع التكتلات الاحتكارية لإنتاج وتصدير النفط"، والمعروف اختصارا بـ "نوبك" (NOPEC)، فسوف يجد أعضاء "أوبك" أنفسهم في ورطة حقيقية، إذ يمكن له أن يلغي الحصانة السيادية التي كانت تحمي أعضاء المجموعة لفترة طويلة من الإجراءات القانونية الأميركية، وبالتالي انكشاف أنظمة الدول الأعضاء التام للهجمات القانونية بموجب قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار لعام 1890، والذي تم استخدامه منذ أكثر من قرن في تفكيك إمبراطورية جون روكفلر النفطية "ستاندرد أويل" إلى 33 شركة صغيرة. ويؤكد تلك الخطورة رئيس أبحاث أسواق الطاقة في بنك باركليز لشبكة "سي إن بي سي"، فيشير إلى أن نوبك قد تدفع مزيدا من الأعضاء في "أوبك" إلى الخروج منها(18)، ويُشكّل هذا الأمر مبررا كافيا للدوحة للانسحاب، باعتبارها منتجا صغيرا للنفط، لذا فإن المنافع التي ستحصل عليها من وراء عضويتها، إذا وجدت، لا تكفي لمعادلة المخاطر المالية والسياسية المستقبلية الناجمة عن مثل تلك التشريعات.
وفي خضم تلك الأحداث، تظل "أوبك" في مرمى نيران النفط الصخري الأميركي الذي تحول إلى وحش لا يمكن السيطرة عليه، فهناك في غرب تكساس، يشكل حوض "بيرميان" أسوأ كوابيس "أوبك" القادمة، ففي أقل من عقد تمكنت الشركات الأميركية من حفر 114 ألف بئر سيجلب الكثير منها أرباحا واسعة حتى مع انخفاض أسعار النفط إلى 30 دولارا للبرميل. وفيما كان التوزيع يمثل أكبر عقبات تلك الشركات، فإن الوضع تغير الآن بعد إضافة ثلاثة خطوط أنابيب سيتم افتتاحها العام القادم، وبالتالي وصول الإنتاج لما سيصل لمليوني برميل يوميا.
ويمكن ملاحظة تأثير حقل "بيرميان" المبدئي على الإنتاج الأميركي من النفط في أغسطس/آب الماضي، والذي شهد أكبر زيادة سنوية في الإنتاج منذ 98 عاما وفقا للبيانات الحكومية الأميركية. ولاقتراب دخول تلك الأنابيب الخدمة في غضون العام القادم، فهناك العديد من الترقب في الولايات المتحدة لتسونامي النفط الأميركي القادم، وهو تسونامي سيجعل من انهيار العالم على رأس السوق العالمية للنفط أمرا ممكنا، وهو أمر ليس وليد الحماس فقط، كما يصفه المسؤول التنفيذي الأول في الأميركتين لمجموعة "فيتول"، أكبر تاجر للنفط في العالم، قائلا إن النمو سيستمر في حوض بيرميان، وتحتاج "أوبك" إلى تعلم كيف تتعايش معه" (19).
بناء على ما تقدم، يُعد قرار قطر بالانسحاب من "أوبك" قرارا إستراتيجيا صائبا على الأرجح وله ما بعده، وليس ثمة علاقة مباشرة، على ما يبدو، بأزمتها مع الثلاثي الخليجي، فعلاوة على التهيئة لدخول مرحلة جديدة على الساحة العالمية لصناعة الغاز الطبيعي المسال، فيبدو أنها قرأت بشكل صحيح المشهد المستقبلي لـ "أوبك" والذي على ما يبدو يحمل مفاجآت لن تسر جيرانها النفطيين بحال.