"الربيع الباريسي".. كيف أشعلت ضرائب ماكرون شوارع فرنسا
بالنسبة إلى الفرنسي جوليان فيجويرارد، البالغ من العمر 31 عامًا، والذي يعمل في أحد مصانع البسكويت في مدينة تولوز الواقعة جنوبي فرنسا، فإن الشهر ينتهي في اليوم الخامس عشر وليس في اليوم الثلاثين، وهي الطريقة التي اختار أن يعبر بها عن عدم كفاية راتبه البالغ 1700 دولار لتغطية احتياجاته المعيشية حتى قدوم الراتب التالي، ومن وجهة نظر فيجويرارد فإن المشكلة ليست في الرواتب المنخفضة ولكن في الضرائب التي يدفعها الفرنسيون على كل شيء تقريبا، وفي حكومتهم التي تعاملهم كالماشية (1).
من أجل ذلك، كانت الاحتجاجات التي اندلعت في أنحاء فرنسا خلال الأيام الماضية فرصة لفيجويرارد ومن يشاطرونه الحال للتعبير عن معاناتهم المعيشية التي لا يشعر بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ولا حكومته بحسب رأي المحتجين. وقد انطلقت شرارة التظاهرات في 18 أكتوبر/تشرين الأول الماضي حينما نشرت جاكلين موراود، وهي سيدة فرنسية تبلغ من العمر 51 عامًا ولاعبة لآلة الأكورديون وأخصائية علاج بالتنويم المغناطيسي تعمل لحسابها الخاص في منطقة بريتاني الواقعة في أقصى شمال غرب فرنسا (2)، نشرت مقطع فيديو على حسابها في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك تتحدث فيه بغضب عن ارتفاع ضريبة البنزين، وما أسمته سياسات الحكومة المناهضة للسيارات، داعية الفرنسيين للاحتجاج على تلك السياسات.
وبصورة غير متوقعة؛ انتشر الفيديو بشكل فيروسي، حيث شوهد أكثر من 6 ملايين مرة على موقع فيسبوك ولاقى استجابة واسعة النطاق من قبل آلاف الفرنسيين، ليتم الاتفاق على نقل الاحتجاجات إلى الشوارع في يوم السبت الموافق 17 نوفمبر/تشرين الثاني وارتداء السترات الصفراء. وفي اليوم المحدد خرج أكثر من 280 ألف شخص يرتدون ستراتهم متمركزين حول الطرق والجسور ليشلوا حركة المرور في جميع أنحاء فرنسا بما في ذلك المستعمرات الفرنسية في المحيط الهندي، حيث نددوا بارتفاع أسعار الوقود والضرائب البيئية، وقد أسفرت الاشتباكات بين الشرطة والمحتجين عن مقتل شخصين وإصابة أكثر من 600 شخص.
ولكن ما بدا أنه كان يوما للاحتجاج ضد الضرائب على الوقود، تحول إلى موجة كاملة من الاحتجاجات على مدار الأسبوع، فيما تجاوزت مطالبات المحتجين قضية ارتفاع أسعار الوقود نحو قضايا أكثر عمومية شملت عدم المساواة في توزيع الثروة والفروق الواضحة بين النخب الحضرية التي يميل لها ماكرون كما يزعم المحتجون وبين المناطق الريفية، كما اتسع نطاق الفئات المشاركة في التظاهرات لتشمل الطبقة المتوسطة والفقراء الريفيين والمهمشين، في حالة سخط عامة على الوضع الاقتصادي برمته لم تخل من بعض أعمال عنف مثل إضرام النيران في الحواجز وتحطيم نوافذ المتاجر الفاخرة واقتلاع إِشارات المرور، احتجاجات وصلت إلى شارع الشانزليزيه الشهير وقصر الإليزيه الرئاسي وصبغت الشوارع الكبرى باللون الأصفر للسترات مع اللافتات المطالبة باستقالة الرئيس والحكومة وحل البرلمان(3).
استجلبت مظاهرات السترات الصفراء اهتماما عالميا واسعا مقارنة بالاحتجاجات الاقتصادية المعتادة، خاصة أن التظاهرات كانت عفوية تماما ولم يتم تبنيها أو قيادتها من قبل أي من الأحزاب والنقابات، ناهيك عن التنوع الكبير لشرائح المحتجين سواء من الناحية العمرية أو من الناحية الاقتصادية أو حتى سياسيا حيث شارك فيها نشطاء من اليسار واليمين وحتى داعمين سابقين للرئيس ماكرون، فئات مختلفة توحدت جميعا بسبب الشعور بالتجاهل من قبل الرئيس وحكومته، وما يجمعهم فقط أنهم جميعا من خارج النخب التقليدية في المدن الكبرى، حيث ينتمي أغلبهم إلى المدن الصغيرة والضواحي والريف الفرنسي، من يعتمدون على السيارات للتنقل إلى العمل واصطحاب أطفالهم إلى المدارس، والذين حولت الضرائب على الوقود حيواتهم إلى جحيم لا يطاق.
ورغم عفوية الاحتجاجات وخلوها من المعالم التنظيمية، إلا أنها نجحت في اجتذاب الأنظار بفعل الرمزية الواضحة لارتداء المحتجين لسترات الفلورسنت الصفراء التي يجبر كل سائق سيارة في فرنسا على حملها معه ضمن معدات السلامة لارتدائها عند إيقاف السيارة في حالات الطوارئ وذلك بموجب قانون عام 2008 الذي يفرض غرامة قدرها حوالي 153 دولارا على عدم ارتداء السترة الصفراء بعد تعطل السيارة أو وقوع الحادثة (4).
وترتبط رمزية السترات بشكل واضح مع الدافع الرئيسي لتدفق المحتجين في البداية وهو ارتفاع أسعار الوقود الذي أضر بحياة ملايين من الفرنسيين. وبحسب ما قاله خبير النقل ماتيو شاسيجنت في مقابلة مع صحيفة يورونيوز (5) فإن ارتفاع أسعار الوقود يمكن عزوه إلى ثلاثة أسباب اثنين منها بسبب الحكومة. ويرجع السبب الأول، الذي لا يد للحكومة فيه، إلى ارتفاع أسعار النفط الخام عام 2018 حيث ارتفعت تكلفة البرميل بداية من يوليو/تموز الماضي حتى وصلت لأكثر من 85 دولارا للبرميل في أكتوبر/تشرين الأول، وهو ما أثر بشدة على سائقي السيارات، لكن هذا السبب من المرجح أن يتلاشى بعد الانخفاض الملحوظ في أسعار النفط مؤخرا.
أما السبب الثاني لارتفاع الأسعار فيعود إلى زيادة ضريبة الكربون التي تهدف إلى الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وتم طرح هذه الضريبة لأول مرة عام 2014 في عهد حكومة فرانسوا هولاند، واستمرت مع زيادات مضطردة في عهد ماكرون، حيث ارتفعت قيمتها من 35 دولارا للطن عام 2017 إلى 51 دولارا عام 2018، ومن المقرر أن تصل إلى 98.5 دولار بحلول عام 2020 (6). وبالنسبة للسبب الثالث لارتفاع الأسعار، فيرجع إلى زيادة ضريبتي الديزل والبنزين، فمنذ بداية العام الحالي ارتفعت ضريبة الديزل بنسبة 7.6 سنت يورو لكل لتر، بينما ارتفعت الضريبة على البنزين بنسبة 3.9 سنت للتر الواحد، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الديزل بنسبة 6.2% بين يناير/كانون الثاني 2017 ويناير/كانون الثاني 2018، وهي زيادة مؤثرة بالنظر إلى كون الديزل هو الوقود الأكثر استخداما في فرنسا.
يتم تطبيق ضريبة الكربون على الشركات التي تنتج أو تستورد أو تخزن الوقود الأحفوري، وعادة ما تقوم تلك الشركات بنقل هذه الضرائب إلى المستهلكين عن طريق زيادة سعر الوقود الذي يبيعونه. ويعد ويليام نوردهاوس، الاقتصادي الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد هذا العام، من أكبر أنصار فرض ضريبة عالمية على الكربون، وظل لأربعة عقود يحاول إقناع الحكومات بمعالجة تغير المناخ عن طريق فرض ضريبة على انبعاثات الكربون (7).
ويبقى الهدف الرئيسي من فرض ضرائب الكربون والديزل، كما تزعم الحكومة، هو تشجيع الناس على عدم شراء سيارات الديزل واستبدال سياراتهم الحالية لصالح سيارات ذات انبعاثات أقل مثل السيارات الكهربائية، ولكن الفئة الاجتماعية التي تعتمد على الديزل كوقود لسياراتها المتواضعة هم من ذوي الدخل المنخفض الذين يدبرون حياتهم بالكاد ولا يملكون الرفاهية المالية لشراء سيارات باهظة التكلفة، وفي نفس الوقت، فإن الحكومة لا توفر لهؤلاء وسائل نقل عامة تحملهم لمسافات طويلة، لذا فإن المحتجين لا يرون زيادة الضرائب إلا مجرد وسيلة لتحصيل الإيرادات من الفقراء لتمويل مشاريع تخدم الأغنياء، حيث تصبح المحصلة لهذه الضرائب في النهاية هي أن الفقراء ينفقون الجزء الأكبر من دخولهم على الوقود والنقل أكثر حتى من الأثرياء (8).
تمثل الضرائب في فرنسا 60% من أسعار الوقود بينما تخضع النسبة الباقية للسعر العالمي لبرميل النفط، ووفقا للحكومة، فإن هذه الضرائب تساعد في تمويل الموازنة العامة للدولة وتحديدًا في المشاريع الصديقة للبيئة والبنية التحتية للنقل، وتتوقع الحكومة أن تحقق منها 7.8 مليار يورو عام 2019.
وتنسجم تلك الضرائب بشكل واضح مع السياسات الصديقة للبيئة للرئيس ماكرون، فمنذ انتخابه في مايو/آيار عام 2017 تزعم الرئيس ماكرون القضايا البيئية، وقاد المفاوضات حول اتفاق المناخ في باريس، وأطلق مبادرة "اجعل كوكبنا عظيم مرة أخرى Make our planet great again" لتمويل الأبحاث حول تغير المناخ، وأخبر قادة العالم في قمة "كوكب واحد" التي انعقدت في باريس في ديسمبر/كانون الأول عام 2017 عقب إعلان ترامب الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ، أن الوقت قد حان لبدء الانتقال لاقتصاد أكثر اخضرارًا، وهو يرى أنه ينفذ استراتيجية تحوُّل طموحة لنقل فرنسا من استهلاك الوقود الأحفوري ذي الانبعاثات الكربونية الكثيفة إلى الاعتماد على مصادر صديقة للبيئة.
ولكن يبدو أن تلك الإستراتيجية تصطدم بقدرة أصحاب الدخول المنخفضة على تحمل تكاليف المعيشة وهؤلاء ينظرون إلى سياسات ماكرون الاقتصادية أنها مصممة بالأساس لسحق فقراء فرنسا، أو من يطلق عليهم بالتعبير الفرنسي sans-dents ، أو عديمو الأسنان، في إشارة إلى الفقر وعدم امتلاك أي سلطة (9)، ويتأثر هؤلاء الفقراء بشكل مباشر بارتفاع أسعار وقود السيارات وهم يرون أن ماكرون يستهدفهم بضرائبه في حين أنه يتجاهل شركات الطيران الكبرى وشركات الشحن والمؤسسات العملاقة كثيفة الاستخدام للوقود الأحفوري، إلى درجة دفعت بعض المحتجين لتشبيه الرئيس الفرنسي بآخر ملوك فرنسا، لويس السادس عشر، الذي قامت في عهده الثورة الفرنسية.
بالنسبة لهؤلاء المحتجين، فإن السياسات الضريبية الخضراء، كما تسميها الحكومة هي مجرد خطوة ضمن نهجها الإصلاحي الأوسع لتحديث الاقتصاد الفرنسي والذي يرون أن الفقراء هم من يتحملون العبء الأكبر فيه مقارنة بالأغنياء، ففي الوقت الذي ترتفع فيه ضرائب الكربون، استهدفت الموازنة الفرنسية خفض الضرائب على الشركات الكبرى بمقدار 10 مليار يورو، مع خطط للمزيد من التخفيضات، حيث من المقرر تخفيض ضريبة الشركات إلى 25% بحلول عام 2022، وهو انخفاض كبير عن مستواها الحالي البالغ 33%، وهو ما دفع صحيفة ليبراسيون الفرنسية أن تطلق على الرئيس ماكرون لقب "بطل الأغنياء"(10).
لم يكتف ماكرون بتخفيض ضرائب الشركات و"ضريبة الثروة" على الأغنياء، وإنما قرر تخفيض الإنفاق الحكومي على نظام الرعاية الصحية العامة، ومزايا الإسكان والنقل، وتجميد مشاريع البنية التحتية الرئيسية، والتخلص مما يقرب من 1600 وظيفة في الخدمة المدنية، وتخفيض المعاشات التي تمولها الدولة (11)، كما يخطط لإدخال "إصلاحات" على قوانين العمل تعطي الشركات مرونة أكبر في التفاوض على الأجور وتقليص التعويضات المدفوعة في حالات الفصل التعسفي، وهي الإجراءات التي أطلقت موجة من التظاهرات نظمتها النقابات في سبتمبر/أيلول من العام الماضي في جميع أنحاء فرنسا للاعتراض على التغييرات المقترحة في قوانين العمل (12).
ورغم كل ذلك، جاءت مؤشرات الأداء الاقتصادي لماكرون خلال الفترة الماضية مخيبة للآمال مقارنة بالوعود التي قطعها لاسيما في التوظيف، فمنذ وصوله إلى السلطة عام 2017، تعهد بتخفيض معدل البطالة من 9.4% إلى 7% بحلول عام 2022، لكن الرقم الآن لا يزال مرتفعًا بشكل كبير عند 9.1% ما يعني وجود 3.4 مليون عاطل عن العمل(13) وهي ضعف النسبة في ألمانيا وبريطانيا، في الوقت الذي تعاني في باريس أيضا من موجة تباطؤ النمو التي تجتاح أوروبا.
بخلاف ذلك، فإن هناك شعورا عاما وسط الطبقات المتوسطة والفقيرة في فرنسا بالتعالي والغطرسة في خطابات ماكرون تجاههم والتي تبلغ حد الإهانة في بعض الأحيان، فعلى سبيل المثال، وأثناء زيارة رسمية للدنمارك أواخر أغسطس/آب الماضي قال ماكرون إن "الغال" مقاومون للتغيير بعكس الدنماركيين أو "اللوثريين" في إشارة لمقاومة الفرنسيين لمحاولاته لتغيير قوانين العمل، وغالبا ما يطلق لقب "الغال" على الشعوب التي سكنت أوروبا الغربية خلال العصر الحديدي وتشمل حاليًا فرنسا ولوكمسبورج وبلجيكا.
تسببت تصريحات ماكرون في موجة من الانتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي بين المعارضين الذين اتهموه بـ "ازدراء" شعبه (14) ما دفعه لتوضيح تصريحاته لاحقا، غير أن تلك لم تكن المرة الأولى التي يتهم فيها ماكرون الشعب الفرنسي بمقاومة التغيير والكسل، ففي زيارة لليونان قال إنه لن يتخلى عن أرضه "للكسالى". ويبدو أن هذا الشعور بالتعالي من قبل ماكرون لم يقتصر على الفرنسيين العاديين فحسب ولكنه وصل إلى الحكومة نفسها وتحديدا وزير الداخلية جيرار كولومب الذي برر استقالته مطلع الشهر الماضي بالقول إن ماكرون وحكومته "ربما يفتقرون إلى التواضع" (15).
في تلك الأثناء تتهاوى شعبية الرئيس الشاب بشكل حاد حيث بلغت نسبة قبوله 25% فقط وفقا لاستطلاع أجري قبل أسبوع واحد فقط (16)، وفي استطلاع آخر أجرته مجموعة "أودوكسا" للأبحاث لصالح صحيفة لوفيجارو هذا الأسبوع، فإن 77% من المشاركين وصفوا احتجاجات السترات الصفراء بأنها مبررة، في حين أظهر استطلاع آخر أجرته شركة "إيبسوس" بأن 70% يؤيدون تلك الاحتجاجات (17).
ومع كون ماكرون لم يعط أي إشارة على التراجع عن إصلاحاته حتى الآن، فمن المتوقع أن يظل الرئيس الفرنسي في مرمى المتظاهرين لفترة من الوقت، مع سؤال مفتوح حول مدى قدرة إصلاحاته على الصمود في وجه الرفض الشعبي، ومدى قدرة الاحتجاجات على التوسع لتشكل تهديدا لماكرون وحكومته، أو لمستقبله السياسي وحظوظه في انتخابات 2020 على المدى الأوسع، في ظل شعور عام بأن أداء الرئيس الشاب قد أصاب معارضيه ومؤيديه معا بقدر كبير من الخذلان.