إلغاء الجمارك الأوروبية.. هل ينهار سوق السيارات في مصر؟
مع الإعلان عن إلغاء التعريفات الجمركية على السيارات الأوروبية القادمة إلى السوق المصرية اعتبارًا من يناير/كانون الثاني المقبل، تتزايد التكهنات حول التأثير المحتمل لذلك القرار على أسعار السيارات الأوروبية في السوق المصرية بداية من العام المقبل، وإذا ما كانت تلك السيارات ستشهد انخفاضا ملحوظا في أسعارها، أم أن الحكومة المصرية ستلجأ إلى أدوات أخرى لمعادلة تأثير ذلك الانخفاض المتوقع في الأسعار.
تصاعدت تلك التكهنات مؤخرا مع إعلان سفير الاتحاد الأوروبي لدى مصر "إيفان سوركوش" في 8 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي أن مصر ستخفض التعريفة الجمركية على السيارات الأوروبية إلى صفر بداية من أول يناير عام 2019 بناء على الجدول المتفق عليه في اتفاقية الشراكة بين مصر والاتحاد الأوروبي.
ويعود توقيع الاتفاقية المشار إليها إلى 25 يونيو/حزيران عام 2001 حينما وقعت مصر في بروكسل مع الدول الخمسة عشر الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حينها اتفاقية شراكة (1) تقضي بإنشاء منطقة تجارة حرة تدريجيًا خلال فترة انتقالية لا تتجاوز 12 عاما من بدء تنفيذ الاتفاقية التي دخلت حيز التنفيذ فعليا مطلع عام 2004 بعد مصادقة مجلس الشعب المصري والبرلمان الأوروبي وبرلمانات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
تسري الاتفاقية المذكورة على بعض المنتجات الصناعية، والزراعية، والزراعية المصنعة التي يتم إنتاجها لدى الطرفين، والتي تم تحديدها في ملحقات خاصة بالاتفاقية. وبالنسبة للمنتجات الصناعية، فقد نصت الاتفاقية على أن يستفيد الطرفان من فتح التجارة المتبادلة بينهما دون قيود على حجم السلع المتدفقة ومع اشتراط عدم فرض أي رسوم جمركية، أو تخفيضها بشكل فوري أو تدريجي على المنتجات الخاضعة لها بالفعل.
وبالنسبة للسيارات على وجه الخصوص، نصت الاتفاقية على أن تبدأ مصر في خفض الرسوم الجمركية على السيارات الأوروبية بنسبة 10% سنويًا بعد مرور 6 سنوات على بدء نفاذ الاتفاقية أي بداية من عام 2010، على أن يتم إلغاؤها بشكل كامل مطلع عام 2019، في حين منحت الاتفاقية ميزة تفضيلية لصادرات المنتجات الصناعية والسيارات المصرية إلى أوروبا حيث منحتها إعفاء كاملا من الرسوم الجمركية منذ اللحظة الأولى لنفاذ الاتفاقية عام 2004 مراعاة للفوارق الاقتصادية بين مصر وأوروبا، بما يعني أن مصر كانت قادرة – من الناحية النظرية – على تصدير سياراتها إلى أوروبا بأي كمية ودون أي رسوم جمركية منذ ذلك التاريخ.
ونظرا لأن الاتفاقية تجيز لمصر -وفقًا للفقرة السادسة من المادة التاسعة- تعليق الجدول الزمني الخاص بالتخفيض الجمركي لمدة مؤقتة لا تتجاوز سنة واحدة، وكذلك تجيز في مادتها الحادية عشر اتخاذ إجراء استثنائي حول تطبيق التخفيضات الجمركية في القطاعات التي تعاني من وجود صعوبات بالغة مثل قطاع السيارات؛ فقد قامت مصر بتأجيل تطبيق الرسوم خلال عام 2012 بحجة الظروف السياسية التي تمر بها مصر والتراجع الاقتصادي الكبير الذي عانت منه البلاد في أعقاب ثورة يناير 2011، كما قامت بتأجيل التطبيق لعام آخر في مطلع العام الحالي 2018 (2) بدعوى وضع استراتيجية جديدة للنهوض بصناعة السيارات في مصر وحتى لا تتعثر الصناعة بعد رفع جميع الرسوم الجمركية، وقد وافق الجانب الأوروبي في المرتين، بما جعل مصر متأخرة عن جدول التخفيضات المقررة بنسبة 20% بسبب تعليق تخفيض الرسوم في هذين العامين.
هذه هي المعضلة التي تواجهها الحكومة المصرية مع مطلع العام المقبل 2019، وهو الوقت المقرر لإلغاء جميع الرسوم الجمركية بشكل نهائي وفقا للاتفاقية، حيث ستكون مصر مطالبة بتخفيض نسبة الـ10% المعتادة عن العام الحالي والأخير للتخفيضات، إضافة إلى نسبة الـ20% المتراكمة بفعل تعليق التخفيض خلال عامي 2012 و2018، لذا فقد سعت الحكومة فيما يبدو في أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي لطلب إرجاء الدفعة الأخيرة من التخفيضات لمدة عامين، ليأتي الرد الأوروبي الحاسم برفض التأجيل، ومن ثم فقد بات إلغاء جميع الرسوم الجمركية على السيارات الأوروبية واقعًا لا محالة بحلول يناير المقبل، ما لم يطرأ أي جديد من المفاوضات القائمة بين مصر وأوروبا.
تتركنا الحقائق السابقة مع سؤال رئيسي ملح هو إذا ما كانت أسعار السياسات الأوروبية ستنخفض مع إلغاء الرسوم الجمركية مطلع العام المقبل، وما هو حجم الانخفاض المتوقع في أسعارها، وتشير الدلائل هنا أنه من المنتظر بالفعل حدوث انخفاض في أسعار السيارات الأوروبية في مصر، ولكنه سيكون انخفاضا محدودا بنسبة تتراوح بين 3 إلى 10% من قيمة السيارة، وليس ثلث أو ربع قيمة السيارات كما يتخيل الكثيرون.
يمكننا أن نعزو هذا التقدير المتدني للانخفاض المحتمل في الأسعار للكثير من العوامل، أولها هو أن الرسوم الجمركية ليست سوى أحد عوامل عديدة تشارك في تحديد تكلفة السيارة بجوار تكاليف الإنتاج والتجميع والنقل وغيرها، لذا فإن انخفاض الرسوم الجمركية على السيارات بنسبة ما، ولتكن 30% في حالتنا، لا يعني مطلقا أن أسعارها ستنخفض بالنسبة للمستهلكين بنفس النسبة أو بنسبة قريبة منها.
الأمر الآخر هنا أنه وبخلاف الظن الشائع، فإن الرسوم الجمركية المفروضة حاليا على السيارات الأوروبية تقل بشكل واضح عن سائر السيارات المستوردة في الأسواق المصرية وخاصة السيارات الأسيوية حيث بدأت عملية خفض الرسوم الجمركية على المنتجات الأوروبية بالفعل بشكل تدريجي منذ عام 2010 وقد تم خفض 70% من هذه الرسوم بالفعل خلال الأعوام التسعة الماضية (3)، وبنسبة 10% كل عام كما سبق أن أِشرنا.
أضف إلى ذلك ما تعارف عليه السوق من قيام شركات السيارات الأوروبية برفع الأسعار على سيارتها الجديدة بداية كل عام بنسبة تصل إلى 5%، وهي زيادة ستبتلع حصة كبيرة من الرسوم الجمركية الملغاة وتجعل تأثيرها محدودا. على سبيل المثال، وفقًا لصحيفة المال، فقد توقع مدير قطاع سيارات بنتلي – شركة تابعة لمجموعة فولكسفاجن الألمانية – لدى MTI أوتوموتيف، وكيل السيارة في مصر، توقع أن تتراجع أسعار سيارات بنتلي في مصر بنسبة تتراوح بين 5 إلى 7% مع بداية العام الجديد حال إلغاء جميع الرسوم الجمركية، وأوضح أن طرازات العلامة التجارية تشهد في بداية كل عام ارتفاعا بأسعارها بنسبة تتراوح بين 2 إلى 4% ما يجعل الإعفاء الجمركي محدود الأثر مع الزيادات التي تقرها الشركة الأم (4).
وهناك مسألة أخرى أيضا قد يتم إغفالها في هذا الصدد، وهي استمرار وجود بعض أنواع الرسوم والضرائب الأخرى التي تفرضها الحكومة المصرية بعيدًا عن الرسوم الجمركية المنصوص عليها في اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، فعلى سبيل المثال، تستمر الحكومة المصرية في تحصيل ضريبة القيمة المضافة البالغة 14%، ورسم التنمية بنسبة 3% وضريبة الجدول بنسبة 1% حتى بعد يناير/كانون الثاني 2019 كما تستمر في تحصيل جميع الرسوم الأخرى داخل الميناء مثل رسوم تفريغ السيارة من الميناء، ومن ثم فتظل هناك مبالغ إضافية تحملها الحكومة فوق تكلفة السيارة خلاف ثمن السيارة الأصلي ومصاريف الشحن، وذلك حتى بعد إزالة جميع الرسوم الجمركية.
وقبل هذا وذاك، يبقى أن تحرير سعر صرف الجنيه المصري في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016 قد أجهض الفائدة التي كان يُنتظر أن تعود على المستهلكين المصريين من تلك الاتفاقية، فقبل تحرير سعر الصرف كان سعر اليورو يساوي 10 جنيهات مصرية تقريبًا، وبعد تحرير السعر انخفض الجنيه بنسبة 100% ليصل إلى 20 جنيها لكل يورو واحد. وبالتالي فالسيارة التي كان يمكن استيرادها من أوروبا قبل تحرير سعر الصرف بقيمة 25 ألف يورو مثلًا أو 250 ألف جنيه مصري، ارتفع سعرها الآن إلى الضعف لتصل إلى 500 ألف جنيه، ومن ثم فإن تحرير سعر صرف الجنيه مثل ضربة موجعة للمستهلكين المصريين الراغبين في اقتناء السيارات الأوروبية بصورة تتجاوز مجرد إلغاء نسبة من التعريفة الجمركية التي تمثل جزءا ضئيلا من قيمة السيارة نفسها.
بتجاوز مسألة الأسعار، تظهر أمامنا معضلة أخرى وهي أن هناك طوفان من السيارات الأوروبية يقف على الحدود المصرية في انتظار الساعات الأولى من شهر يناير/كانون الثاني القادم، وسوف يكون لذلك أثر لا يمكن تجاهله على صناعة السيارات المصرية والاقتصاد المصري بوجه عام.
يمكننا القول هنا أنه على الرغم من وجود هامش انخفاض سعري ضئيل سيستفيد منه المستهلك المصري بعد الإلغاء المنتظر للرسوم، فإن الحكومة المصرية وصناعة السيارات المحلية ستتضرران بشكل لا يتناسب مع تلك المنافع المحدودة، وتشمل قائمة تلك الأضرار أضرارا مباشرة مثل حرمان الحكومة من بعض العائدات الجمركية حيث تشير البيانات إلى أن الإيرادات الجمركية المحصلة بالإدارة العامة للسيارات بجمارك الاسكندرية، وهي المعنية بدخول السيارات الأوروبية، قد بلغت 7.7 مليار جنيه خلال العام المالي 2016/2017(5)، وهو رقم من المتوقع أن ينخفض بشكل ملحوظ مع سريان الإلغاء الكامل للرسوم.
أما الأضرار غير المباشرة فتتمثل في التأثير السلبي لتدفق السيارات الأوروبية على الصناعة المحلية وأوضاع العاملين فيها، خاصة أن صناعة السيارات في مصر متأخرة بشكل كبير حيث لا تحوي مصر سوى 17 مصنعا تقوم بتجميع السيارات محليا ولا يتم إنتاج أي سيارة بشكل كامل في مصر وهذا هو السبب في أن الحكومة المصرية قامت بتأجيل تطبيق الخفض المقرر في الرسوم العام الحالي، 2018، لمنحها فرصة لتطبيق استراتيجية لإعادة هيكلة صناعة السيارات المحلية لتتمكن من مسايرة نظيراتها الأوروبية، ولكن استراتيجية إعادة الهيكلة تلك لم ترى النور حتى الآن نظرا لاعتراض مُصنعي السيارات على بعض بنودها باعتبارها منحازة لأطراف بعينها حد وصفهم ما دفع الحكومة للجوء إلى خدمات مكتب ألماني للمساعدة في إعداد تلك الاستراتيجية التي تهدف إلى جذب الشركات الأم لصناعة السيارات في العالم وإنشاء مصانع لها في منطقة قناة السويس.
وفي مواجهة هذه المشكلة، ربما لا ينبغي لمصر أن تلوم إلا نفسها، فالاتفاقية الأوروبية منحت مصر ميزة تفضيلية حيث لم تفرض أي رسوم جمركية على صادرات السيارات المصرية لأوروبا منذ دخولها حيز التنفيذ في يناير/كانون الثاني عام 2004 وهو ما يعني أن مصر كان لديها مهلة كافية نسبيا لتقوم بتطوير وتهيئة صناعة سيارات محلية قوية للاستفادة من ذلك الامتياز، ولكن ذلك لم يحدث لتصحو مصر فجأة على أصداء الحقيقة المزعجة: سيارات أوروبية هناك على الأبواب بلا أي رسوم جمركية، وصناعة سيارات محلية لم ترق لمستوى التصنيع الحقيقي أساسا، ناهيك عن الجودة والمنافسة السعرية، مطلوب منها أن اليوم أن تتنافس مع عمالقة أمثال بي إم دبليو، ومرسيدس، وفولكس فاجن، ورينو ، وبيجو، وفولفو، وفيات، وسيات، وأودي، وسيتروين، علاوة على السيارات الصينية واليابانية والأمريكية والكورية التي تصنع في الاتحاد الأوروبي بنسبة مكون أوروبي 40% ومن ثم تستفيد فإنها من الجمارك الصفرية أيضًا (6).
هي أزمة كانت متوقعة على ما يبدو، ولكنها تترك الحكومة المصرية مع خيارات سيئة للتصرف، فمن ناحية، تخشى الحكومة من اللجوء للتحايل على الاتفاقية وإبطال أثرها بتصرف متهور كفرض ضريبة جديدة مثلًا خوفا من أن يفسد ذلك علاقات القاهرة مع الاتحاد الأوروبي الذي يعد الشريك الاقتصادي والتجاري الأول ويمثل سوق التصدير الأهم لها، حيث يلتهم وحده 22.7% من الصادرات المصرية للأسواق الخارجية، وفي العام الماضي وحده بلغت قيمة الصادرات السلعية المصرية لأسواق الاتحاد الأوروبي 8.1 مليار يورو(7)، وهي رقم لا يمكن المخاطرة بالمساس به بسياسات متهورة غير محسوبة.
ومن ناحية أخرى، أدركت الحكومة المصرية أيضا، وبالتجربة الصعبة، أن أسلوب فرض الحماية المؤقت كان غير فعال بأي حال للنهوض بصناعة السيارات المحلية، فلم تشفع 14 عاما كاملة كانت البوابات الأوروبية مفتوحة على مصراعيها أمام السيارات المصرية في دفع الصناعة للأمام ولو قليلًا، كما لم تستفد مصر من الواقعتين السابقتين لتأجيل تطبيق الرسوم، ومن ثم لا يعد التحايل على الاتفاقية استراتيجية فعالة للحكومة التي ينبغي عليها أن تركز جهودها سريعا على إصلاح قطاع السيارات بشكل حقيقي من خلال سن التشريعات ووضع التسهيلات الكاملة أمام المصنعين المحليين وأرباب الصناعة العالميين على السواء.