31 مليار دولار في يوم واحد.. ماذا تعرف عن يوم العُزاب الصيني؟
"إذا كنت لا تستطيع أن تكون مع شخص تحبه، فيمكنك على الأقل أن تكون مع شيء تحبه"
مقولة صينية
نحن الآن في العام 1993 في جامعة نانجينغ الواقعة في المدينة التي تحمل الاسم نفسه في مقاطعة جيانغسو شرق الصين، حيث شعر عدد من الطلاب بحالة من الملل لكونهم "عُزابا" أو غير مرتبطين بفتيات، فقرروا على سبيل المزاح ابتكار مناسبة لكسر الملل والاحتفاء بهذه "العزوبية"، وقد اختار الطلاب يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني لاحتفالهم الجديد نظرا لأنه يُكتب هكذا 11.11 ليعبر عن أربعة عِصيّ مجردة وحيدة ترمز إلى مجموعة من الشباب "العُزاب" (1)، وسرعان ما انطلقت الأنشطة الاحتفالية من خلال الجامعة لتشق طريقها لاحقا إلى المجتمع ويتحول الحدث إلى أحد أكثر الأحداث شعبية في الثقافة والمجتمع في الصين، ورغم اقتصاره على الذكور في بادئ الأمر فإنه توسع ليشمل الفتيات العازبات في وقت لاحق.
هكذا نشأ يوم العُزاب (Singles Day) في الصين أو يوم مكافحة عيد الحب (anti-Valentine’s Day) في النصف الأول من التسعينيات، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي خلال الأعوام الأخيرة اتخذت المناسبة بُعدا أكثر جماهيرية وتحول اليوم إلى عطلة غير رسمية يحتفل فيها الشباب الصيني "الأعزب" بوحدته قبل أن يتحول مع الوقت إلى مناسبة للاحتفال بالعلاقات والبحث عن شريك إلى درجة أن نِسب الزواج صارت ترتفع أضعافا مضاعفة في هذا اليوم تحديدا مقارنة بالأيام العادية.
لكن ما بدأ كممارسة اجتماعية وثقافية شبابية يبدو أنه لم يتوقف عند هذا الحد، ففي العام 2009 التقط "جاك ما" مؤسس شركة للتجارة الإلكترونية تُدعى "علي بابا" يقع مقرها في مدينة هانغتشو، التقط المناسبة الاجتماعية وحولها إلى فرصة تجارية ستشكل علامة فارقة في حياة شركته في وقت لاحق، حيث استغل "جاك ما" ثورة التسوق عبر الإنترنت مطلقا سلسلة من العروض المخفضة التي أسماها " Double 11″ نسبة إلى تاريخ يوم العُزاب، عروض تبدأ في منتصف ليل الحادي عشر من نوفمبر/تشرين الثاني وتستمر لـ24 ساعة فقط وتشمل تخفيضات هائلة على السلع المعروضة على المنصات المختلفة المملوكة للشركة على رأسها منصة "Tmall" الرئيسية (2).
نجح "جاك ما"، رجل الأعمال الصيني الذي لم يكمل دراسته الجامعية والذي أعلن مؤخرا نيته التنحي عن قيادة شركته الضخمة نهاية العام، نجح في التقاط طرف الفرصة مبكرا على ما يبدو، حيث رأى في يوم "العُزاب" فرصة لا تُقدّر بثمن لتعزيز مبيعات شركته، خاصة أن توقيت الاحتفال جاء في شهر تعاني فيه "علي بابا" من انخفاض معتاد في المبيعات حيث يقع شهر نوفمبر/تشرين الثاني في فترة التهدئة بين عطلة الأسبوع الذهبي في الصين في أكتوبر/تشرين الأول وبين موسم أعياد الميلاد، ويبدو أنه كان محقا بصورة لا تُصدّق.
تشير مجلة "فوربس" إلى الفلسفة الكامنة وراء التسوق في يوم العُزاب فتقول إن المنطق التجاري هنا هو أنك لست بحاجة إلى انتظار هدية للاستمتاع بشيء جديد أو مثير، فإذا كنت تتمنى أن تحصل على شاشة تلفاز كبيرة، أو هاتف خلوي حديث فهذا هو الوقت المناسب للشراء (3)، وربما يفسر لماذا أصبح يوم العُزاب أكبر وأضخم يوم للتسوق في العالم، فهو لا يُعد مجرد يوم للتسوق وحسب ينتاب الصينيين فيه هوس الغربيين نفسه في أعياد الميلاد في النصف الآخر من العالم، وإنما أصبح أكثر أيام المبيعات تأثيرا في العالم، ففي العام الماضي حققت منصة "Tmall" ومنافسها اللدود الذي دخل على الخط مؤخرا "JD.com" مبيعات بقيمة 25 مليار دولار و19 مليار دولار على التوالي، وهي معدلات أكبر من إجمالي صادرات دول بأكملها في عام كامل.
واليوم بعد مرور 10 أعوام تقريبا على إطلاق جاك ما لذلك الحدث، لا يزال نمو المبيعات يتزايد عاما بعد آخر بنسبة تتراوح من 20 إلى 30% كل عام، ولم يعد يوم العُزاب مجرد يوم عادي ولكنه تحول إلى مهرجان استهلاكي بالنسبة إلى الجماهير، وحدث محوري بالنسبة إلى الشركات والعلامات التجارية ربما يستغرق الإعداد له عدة أشهر أحيانا وتحقق فيه بعض الشركات أكثر من ربع مبيعاتها السنوية.
وفي الحادي عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، كان العالم على موعد مع يوم عزاب جديد، وكالعادة سجلت شركة "علي بابا" رقما قياسيا جديدا في المبيعات، ففي أول 85 ثانية من اليوم باعت الشركة بضائع بقيمة مليار دولار فيما بلغت مبيعات الساعة الأولى نحو 10 مليارات دولار، أما في مجمل اليوم، فيقدر أن العملاء أنفقوا 30.8 مليار دولار على الشراء في ذلك اليوم بزيادة تُقدّر بـ 27% عن العام الماضي (4) الذي سجل مبيعات قدرها 25.3 مليار دولار.
ومع هذه الأرقام المتضخمة، والزيادة المطّردة في حجم المبيعات عاما بعد عام، تحول يوم العُزاب إلى أكبر حدث سنوي للبيع والشراء عبر الإنترنت متفوقا حتى على حجم المبيعات في الجمعة السوداء (Black Friday) في الأسبوع الأخير من نوفمبر/تشرين الثاني كل عام (تُوافق 23 نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام)، والاثنين الافتراضي (Cyber Monday) وهو يوم الاثنين الأول بعد الجمعة السوداء (يوافق 26 نوفمبر/تشرين الثاني هذا العام) والذي يُعد مناسبة أخرى للشراء خاصة للهواتف والحواسيب والأجهزة الإلكترونية.
وقد تنافست أكثر من 180 ألف علامة تجارية على كعكة "يوم العُزاب" هذا العام، بما في ذلك شركات التكنولوجيا العالمية مثل شاومي وآبل ودايسون، حيث لم يعد يوم العُزاب مقتصرا على السوق المحلي الصيني بعد توسعه في منطقة جنوب شرق آسيا، ولاحقا في السوق الغربي أيضا حيث أتاحت "علي بابا" بداية من العام الماضي تنفيذ الصفقات للعملاء في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وغيرها من الدول عن طريق موقعها "AliExpress"، ويأتي هذا التوجه كشكل من أشكال استجابة الشركة للتحديات الكبيرة التي تواجهها وعلى رأسها المنافسون الجدد في السوق وتباطؤ الاقتصاد الصيني والحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة (5) وهي عوامل أدت إلى انخفاض أسهم الشركة بنسبة 16%.
في النهاية، تبدو الحقيقة الأكثر بروزا حول اليوم أن لدينا بضائع بقيمة 31 مليار دولار تقريبا تم تداولها خلال يوم واحد على منصة "علي بابا"، وهو رقم ضخم تتقزم أمامه الإحصاءات السنوية الخاصة بدول كاملة، فعلى سبيل المثال تتجاوز مبيعات "علي بابا" في يوم العُزاب إجمالي صادرات مصر غير البترولية عام 2017 التي بلغت 20.5 مليار دولار فقط، كما يمثل الرقم نفسه أكثر من نصف الإيرادات العامة المستهدفة لمصر في العام المالي الحالي 2018/2019 والبالغة نحو 55 مليار دولار (6)، ويبقى الأمر الأكثر طرافة أن مبيعات يوم العُزاب تتجاوز الناتج المحلي الإجمالي للعديد من الدول، وهي تبلغ -على سبيل المثال- ضعف الناتج المحلي الإجمالي لدول موريتانيا والصومال وجيبوتي التي يُقدّر ناتجها الإجمالي مجتمعة بأقل من 15 مليار دولار (7).
على الوجه الآخر، فإن الأرقام الضخمة يمكن أن تُثبت أنها خادعة في كثير من الأحيان، وفي هذا الصدد يجادل كاتب العمود في بلومبرغ "تيم كولبان" حول دقة الأرقام المعلنة لمبيعات يوم العُزاب كل عام، فيشير إلى أن الرقم الذي تتناوله جميع وسائل الإعلام يشير إلى إجمالي قيمة البضائع المباعة في ذلك اليوم (GMV)، وهو رقم يتغاضى عن بعض التفاصيل المهمة مثل نسب الخصومات وتكاليف الشحن والضرائب وقيم البضائع المعادة، ومن ثم فإنه لا يُعد مقياسا دقيقا لصافي المبيعات وإنما لحجمها الإجمالي، وهو ما يمكن اعتباره أمرا مضللا بشكل ما (8).
وفي هذا الصدد يؤكد كولبان أن هذه القيمة الإجمالية، أو (GMV)، لا تُترجم بالضرورة دائما إلى إيرادات أو أرباح، ومن ثم فإنها لا تعطي معيارا دقيقا حول وضع الشركات، ويضرب مثالا على ذلك بأزمة الدوت كوم، وهي فقاعة الإنترنت الشهيرة نهاية العقد الماضي، والتي كان أحد أسبابها هو تعمد الشركات المبالغة في تقدير مبيعاتها دون توليد أرباح أو تحقيق إيرادات حقيقية، حيث يرى كولبان أن شركتي "علي بابا" و"دي جي دوت كوم" من بين شركات التجارة الإلكترونية التي تشير بانتظام إلى معيار (GMV) في تقارير أرباحها، في حين أن شركة "دي جي دوت كوم" شهدت في بعض المراحل انخفاضا في الإيرادات الفعلية في الوقت الذي استمرت فيه أرقام المبيعات الكلية في النمو، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى حدوث خسائر في النهاية، كما أظهرت أرقام "علي بابا" انفصالا مماثلا في أكثر من مناسبة خلال العامين الماضيين حيث كانت أرقام المبيعات الكلية وأرقام الإيرادات يسيران في اتجاهين متعاكسين (9).
ومع تجاوز الجدل حول دقة المعايير الربحية المستخدمة، تبقى الحقيقة التي لا جدال حولها هي أن إمبراطورية "جاك ما" للتجارة الإلكترونية تحولت إلى أخطبوط مبيعات يلتهم مساحات جديدة يوما بعد يوم، غير أنه وبتجاوز نجاحات "علي بابا" نحو صورة بانورامية أكبر للاقتصاد الصيني، يتكشّف لنا أن هذه السياسة الأخطبوطية الاستهلاكية تنسجم بشكل كامل مع الإستراتيجية الاقتصادية الكلية للدولة الصينية. فمع وجود مؤشرات على تباطؤ النمو من معدلات فاقت 10% إلى أرقام تتراوح بين 6 إلى 7%، يبدو أن الحكومة الصينية قررت معالجة ذلك البطء بالاعتماد على إستراتيجيات مختلفة لتعزيز النمو الاقتصادي، ويأتي يوم العُزاب وشركات التجارة الإلكترونية في قلب الإستراتيجية الصينية الجديدة لدفع النمو، التي يبدو أنها تتحول للاعتماد على الاستهلاك كرافعة للنمو بشكل أكبر من الاستثمار.
فعلى سبيل المثال، وبين عامي 2007 و2017 ارتفع الحجم الكلي لاستهلاك الأُسر الصينية من 13% إلى 34% من الناتج المحلي الإجمالي (10)، وفي مارس/آذار الماضي قال رئيس أكبر هيئة للتخطيط الاقتصادي في الصين إن إنفاق المستهلكين الكبير سيساعد الصين على تحقيق هدفها للنمو الاقتصادي البالغ 6.5% هذا العام، حيث يمكن للاستهلاك المحلي أن يُسهم بنسبة أكبر من 60% من النمو المستهدف وهي نسبة أعلى من العام الماضي (11).
يعزز يوم العُزاب إذن، بتلك النزعة الاستهلاكية التي يخلقها، الإستراتيجية الصينية في التحول إلى اقتصاد يقوده الاستهلاك، حيث تدرك الصين جيدا أن المصادر التي لطالما كانت تعتمد عليها لتحقيق النمو الاقتصادي المذهل في العقود الماضية كالاستثمار والصادرات الرخيصة والهجرة من الريف للحضر؛ لم تعد قادرة على دفع النمو الاقتصادي بالوتيرة السابقة نفسها، ولحسن حظ صانعي السياسة الاقتصادية الصينية فإن الإنفاق الاستهلاكي الصيني لا يُظهر أي علامات على التراجع، ويتخطى معدلات الإنفاق الاستهلاكي في الاقتصادات الأخرى المتقدمة بنسب كبيرة (12)، ويكفي إعادة النظر إلى التسارع المتزايد في مبيعات يوم العُزاب منذ تدشينه عام 2009 للتأكد من هذه الحقيقة.
بناء على ما تقدم، يمكن القول إن "جاك ما" قد خلق تدفقا استهلاكيا لم ير العالم مثله من قبل يتم إطلاقه يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني كل عام مع أكثر من مليار شخص يتدفقون على اثنين من المراكز الاستهلاكية الإلكترونية خلال يوم واحد من أجل ممارسة التسوق. ومع ذلك، فإن تأثير يوم العُزاب لا يبدو أنه يقف عند حدود اليوم نفسه فقط، لكنه يمتد على مدار العام، ليس فقط على مستوى المستهلكين الذين يعدون عُدّتهم له منذ أشهر طويلة، ولا على مستوى الشركات والعلامات التجارية سواء المحلية أو الأجنبية فحسب، وإنما حتى على المستوى الوطني حيث يمكن لمهرجان الشراء الملياري أن يساعد الصين في تجاوز الآثار السلبية المحتملة لحربها التجارية مع الولايات المتحدة وأن يعزز نمو الاقتصاد الذي تباطأ بشكل ملحوظ خلال الأعوام الأخيرة.