"سبيس إكس".. استيطان المريخ يمر عبر إيلون ماسك!
ولتأكيد ذلك الشغف تحدّث "إيلون ماسك" (Elon Musk)، الرئيس التنفيذي للشركة، في المؤتمر الدولي للملاحة الفضائية (International Astronautical Congress) الذي جرى نهاية (سبتمبر/أيلول) كاشفا عن مشاريع جديدة وطموحات عالية لا يُمكن لعاقل أبدا أن يقف خلفها.
يرى ماسك أن المُستقبل سيكون أكثر إثارة لو وضع البشر في مُخيّلتهم فكرة العيش في الفضاء إلى جانب الكُرة الأرضية، وهذا يعني بطريقة أُخرى أن المُستقبل يجب أن يكون أفضل من الماضي. وانطلاقا من هذا يسعى العاملون في شركة "سبيس إكس" إلى أن يكون الكوكب الأحمر مُلائما للحياة مع حلول عام 2024، على أن يتم تجهيزه في 2022 تقريبا من خلال بناء وحدات للعيش فيها ولدراسة الكوكب عن قرب(1).
تلك الفكرة لم تأتِ من فراغ، أو هي ليست مُجرّد حلم من ملياردير آخر يعيش على سطح الكرة الأرضية، بل هي نتاج لتجارب مُختلفة تقوم بها الشركة منذ فترة طويلة أعلن عنها "ماسك" منذ عام 2011 تقريبا. فالشركة قامت بتطوير أكثر من صاروخ فضائي منذ ذلك الوقت كل واحد منها بمزايا تختلف عن الآخر.
"فالكون 9" (Falcon 9) يُعتبر أكثر صاروخ فضائي قامت الشركة باختباره ليظهر في الصفحات الأولى لوسائل الإعلام على مدار الأشهر القليلة الماضية. تبلغ تكلفته 62 مليون دولار أميركي تقريبا، وهو قادر على حمل 23 ألف كيلوغرام تقريبا في رحلات ضمن المدار الأرضي المُنخفض، أي على ارتفاع لا يزيد عن 2000 كيلومتر تقريبا، أو أربعة آلاف كيلوغرام تقريبا إلى المرّيخ. "فالكون هيفي" (Falcon Heavy) في المُقابل يأتي بشكل مُشابه لـ "فالكون 9" لكن مع وجود كبسولتين مُرفقتين على الأطراف لتصل تكلفته إلى 90 مليون دولار أميركي وترتفع حمولته إلى 64 ألف كيلوغرام تقريبا ضمن المدار الأرضي المُنخفض، أو 17 ألف تقريبا وصولا إلى المرّيخ(2).
وإلى جانب تجاربها المُختلفة كشفت الشركة عن بذلة روّاد الفضاء الذين سيذهبون يوما من الأيام باستخدام المركبات السابقة، وهي بذلة أفضل من ناحية المظهر من تلك التي اعتدنا على مشاهدتها في أفلام الخيال العلمي، أو تلك التي يظهر بها روّاد الفضاء في وكالة "ناسا" (NASA)، التي وبالمناسبة تتعاون مع "سبيكس إكس" لإرسال أقمار صناعية إلى الفضاء باستخدام صواريخ الفضاء الخاصّة بها. البذلة تبدو خفيفة جدا من ناحية الوزن، فهي دون انتفاخات أبدا، حالها حال الحذاء، وكأن الشركة تحرص على ظهور روّاد فضائها بأبهى حلّة مُمكنة.
أما عن الاستخدامات الحقيقة لتلك التجارب والصواريخ الفضائية فهي لأكثر من غاية، تبدأ بتلك التجارية التي تقوم بموجبها شركة "سبيس إكس" بإرسال الأقمار الصناعية إلى الفضاء وكأنها شاحنات لنقل البضائع فقط. كما ستقوم بنقل الطرود من وإلى المركبة الفضائية العالمية (International Space Station)، وذلك يتضمّن مثلا أبحاثا يقوم بها العُلماء هناك على أدوية وعلى تأثير الفضاء على جسم الإنسان للتخلّص من تلك الآثار، ليكون بذلك كل شيء جاهزا عند السفر للعيش في كواكب أُخرى(3).
|
لا ينحصر التفكير بإعادة التدوير في الكرة الأرضية فقط للحفاظ عليها من التلوّث، بل تُركّز "سبيس إكس" على هذا الأمر بشكل رئيس في خططها الحالية والمُستقبلية، وهذا يجعل جميع التجارب السابقة ذات معنى أكبر وأعمق. وإلى جانب نقل الحمولة من وإلى الأرض تبذل الشركة كافّة جهودها في سبيل إعادة استخدام جميع الصواريخ التي تقوم بتطويرها.
وبناء على ذلك، فإن صواريخ "فالكون 9" هي الأنجح حتى الآن على الإطلاق في تاريخ الشركة بعدما سجّلت 16 حالة إقلاع وهبوط كامل دون أية مشكلات(4)، الأمر الذي يعني أن الصواريخ التي تُرسل إلى الفضاء ستكون مُتاحة لإعادة الاستخدام، وبالتالي تقليل تكاليف إنتاج مركبات الفضاء التي كانت عائقا في السابق، فتكلفة "فالكون 9" البالغة 62 مليون دولار ستُصبح مقبولة بالنظر إلى إمكانية إعادة إطلاقه أكثر من مرّة إلى الفضاء والاستفادة منه في أكثر من مهمّة. ونفس الأمر بالنسبة لـ "فالكون هيفي" الذي ما زالت الاختبارات تجري عليه حتى اللحظة بعد سلسلة طويلة من التأخير.
بالأرقام فإن "فالكون 9" يُمكن إعادة استخدام 80٪ إلى 90٪ من أجزائه تقريبا، وهي نسبة لا بأس بها بالنظر إلى حجم الحمولة التي يُمكنه نقلها، وعدد الرُكّاب الذي يصل إلى 100 تقريبا، فهو جزء أساسي من طموحات الشركة للوصول إلى المرّيخ، أو إلى بقيّة الكواكب أيضا، فالقمر يُعتبر هدف مُعظم وكالات الفضاء حول العالم كالروسية والأوروبية والأميركية. لكن حتى تلك النسبة لم تُرض لا "ماسك" ولا العاملين في الشركة الذين سبق وأن تحدّوا بنجاح قوانين الجاذبية، وقرّروا من جديد العودة إلى التحدّي وكأن شيئا لم يكن.
|
أخذ "ماسك" كافّة الخبرات والأرقام والإحصائيات التي قام بجمعها خلال السنوات الماضيّة وقام بعزلها عن المركبات التي جلبت تلك الأرقام، راغبا في البدء من الصفر من جديد لأكثر من غاية، بداية لإنشاء مركبة فضائية يُمكن إعادة استخدامها بشكل كامل بنسبة 100٪، ولتقليل تكلفة الإنتاج من جهة أُخرى لتحقيق رؤية الشركة الجديدة التي كشف عنها بنفسه خلال حديثه في المؤتمر(1).
|
"نظام الانتقال بين الكواكب" (Interplanetary Transport System) أو ما يُعرف اختصارا بـ (ITS) هو الاسم الجديد للمركبة الفضائية التي بدأت شركة "سبيس إكس" بتطويرها لتتماشى مع رؤية الشركة ومع الأهداف التي قامت بوضعها. ولتحرّي الأمانة العلمية فإن تسميتها الحقيقية هي "الصاروخ الضخم"، واختصارا (BFR)، إشارة إلى ضخامتها من ناحية الأداء والسعة أيضا(5).
يبلغ طول المركبة الجديدة 106 متر تقريبا، وهي مؤلّفة من ثلاثة أقسام رئيسة: واحد لنقل الرُكّاب مؤلّف من 40 وحدة تتّسع الواحدة منها لـ 3 أشخاص، ليكون مجموع الرُكّاب 120 شخصا تقريبا، أما القسم الثاني فهو لخزانات الوقود المسؤولة عن دفع المركبة، وأخيرا قسم سُفلي فيه المُحرّكات القادرة على الهبوط بمُحرّكين لضمان الأمان، أو بمُحرّك واحد في الحالات الطارئة، وهذا بعد التجارب التي قاموا بها على "فالكون 9". أما المُفاجأة الأكبر، أو السبب الحقيقي لاستخدام كلمة الضخم فهو في الحمولة، إذ يُمكن للمركبة الجديدة السفر بـ 150 إلى 250 طنا تقريبا من الحمولة والوصول بها إلى المرّيخ دون مشكلات، مع إمكانية العودة إلى كوكب الأرض بحمولة تُساوي 50 طنا تقريبا(6).
وبحسب "ماسك" فإن تكلفة إطلاق المركبة الجديدة ستكون أرخص من تكلفة إطلاق جميع المركبات التي قامت الشركة في السابق بإطلاقها، ليس هذا فحسب، بل جميع المركبات الفضائية التي سبق لها السفر مثل "ساترن فايف" (Saturn V) المُستخدم من قبل وكالة "ناسا" في الفترة ما بين 1967 و1973 تقريبا(7).
ستُغري تلك الأرقام، وتُثير حماسة، أي شخص مُهتم بالفضاء وبعلومه وبآخر ما توصّل إليه العلم في هذا المجال، لكن بالنسبة للشخص العادي فإن الفكرة الرئيسة هي أن السفر إلى الفضاء بمركبات مثل الطيّارات حلم يتحوّل إلى حقيقة بالتدريج. ولأن "ماسك" يرغب بالحصول على إشادة الجميع قرّر العودة إلى الأرض والتفكير بقاطنيها وتطويع التقنية التي وصل إليها لإفادتهم، فبعد سيّارات "تيسلا" الكهربائية، وقطارات "هايبر لوب" (Hyperloop) السريعة، قرّر أن تلك المركبة الضخمة المُخصّصة للسفر نحو المرّيخ، أو أي كوكب آخر كالقمر، ستكون متوفّرة للاستخدام داخل الكرة الأرضية للسفر بين القارّات بفترة لا تتجاوز 30 دقيقة وسطيا(8).
الفكرة الأساسية هي أن تقوم الشركة ببناء مركز لإطلاق تلك المركبات من البحر، بحيث يتم نقل الُركّاب إليها باستخدام قارب خاص، بعدها ستكون المركبة قادرة على الطيران بسرعة تصل إلى 27 ألف كيلومتر في الساعة الواحدة. وعلى سبيل المُقارنة يبلغ وسط سرعة طيران الطائرات المدنية 950 كيلومتر في الساعة تقريبا، وهذا يختلف من طائرة لأُخرى.
وبناء على تلك السرعة يُمكن مثلا الانتقال من مدينة نيويورك إلى باريس خلال 30 دقيقة، أو من نيويورك إلى شنغهاي خلال 39 دقيقة. لتحقيق هذا الأمر ستقوم المركبة بالسفر في مجال جوّي لا توجد فيه مقاومة هواء أبدا، أو بمقاومة شبه معدومة إن صحّ التعبير، وبالتالي ستسير المركبة بسرعة كبيرة جدا تسمح لها بقطع تلك المسافات بأقصر فترة زمنية. كما ذكرت الشركة أن صاروخ دفع المركبة سينفصل عنها وسيعود من جديد إلى الكرة الأرضية بينما ستُكمل المركبة رحلتها إلى وجهتها النهائية والهبوط باستخدام أحد المُحرّكات الموجودة عليها. ولرفع مستوى الحماسة ذكر "ماسك" أن تكلفة السفر عبر تلك المركبة لن تتجاوز تكلفة السفر بالدرجة السياحية على الطائرات العادية، وبالتالي وسيلة سفر أسرع توفّر ساعات على المُسافر بنفس التكلفة.
بهذه الطريقة أنهى "إيلون ماسك"، الرجل الحالم الذي نجح في تخيّل وتطوير سيّارة كهربائية بتصميم جذّاب وبسعر في متناول الجميع، والذي يستعد لتسليم أكبر بطارية في العالم تقوم بتحويل الطاقة الشمسية إلى طاقة كهربائية تُخزّن في بطاريّة من الليثيوم لحل مشكلات أُستراليا في الطاقة الكهربائية(9)، عام 2017 بعد سلسلة طويلة من الإنجازات منها إطلاق الفئة 3 من سيّارات تيسلا بسعر 35 ألف دولار أميركي فقط، دون نسيان نجاح منظّمة "أوبن إيه آي" (OpenAI) للذكاء الاصطناعي في تطوير برمجية آلية ذكية تغلّبت على أبطال العالم في ألعاب الحاسب الإستراتيجية(10)، الأمر الذي جعل الجميع يُشيد بمستوى الذكاء وتعلّم الآلة الذي وصلت إليه الشركة مفتوحة المصدر التي تضع آخر ما توصّلت إليه في أيدي الجميع.
وبطبيعة الحال فإن "ماسكماسك" وطموحاته لن تتوقّف ولن ينخفض سقفها مع مرور الوقت، ففي كل عام يُفاجئ الجميع بطموحات وتحدّيات أكبر لم تكن على البال أبدا، فلا أحد يشتكي من الطائرات المدنية والجميع مُتماشٍ مع سرعتها ومع الفترة الزمنية التي تستغرقها للانتقال من وجهة إلى الثانية، لكنه جاء وقرّر تغيير كل شيء بمشروع حالم آخر قد يتحوّل إلى حقيقة كاملة، أو قد تُنقل نتائجه وتؤخذ بعين الاعتبار في مركبات فضائية وأحلام جديدة ستكشف عنها الأشهر المُقبلة، لكن تلك المحاولات، أيا كان مصيرها، بكل تأكيد ستُخلّد في صفحات التاريخ.