مغالطة التخطيط.. لماذا تفشل في الالتزام بخطتك كل مرة؟
بدءا من الخطط البسيطة كإعداد وجبة طعام، ومرورا بالتجهيز لامتحانات آخر العام، ثم وصولا إلى مشاريع كبرى الشركات حول العالم، كثيرا ما يقع أصحاب الخطط في مأزق الفشل في إنجاز المهمة في الوقت المحدد لها، وبالبحث عن أسباب ذلك التأخر يبرز مصطلح "مغالطة التخطيط" بوصفه أحد الأسباب الرئيسية لهذا الفشل، وقد حظي باهتمام علمي ويتطلَّب تسليط الضوء عليه لمعرفة كيفية التعامل معه.
ما هي مغالطة التخطيط؟
وثَّقت الأوساط العلمية تأثير مغالطة التخطيط على نجاح المؤسسات والأفراد في أكثر من مجال، مثل الأعمال التجارية والمشاريع التقنية والتعليمية، ففي الولايات المتحدة مثلا كشف مسح على المشاريع المنفذَّة فيها عن نجاح تنفيذ ثلث هذه المشاريع فقط وفق الخطة والميزانية المحددة، وفشل ربع المشاريع في تحقيق ذلك، بينما تأخر البقية عن الجدول المُحدد بسبب صعوبة التنفيذ خلال الزمن أو بالميزانية المحددين.
أما في المؤسسات الأكاديمية فقد قام الباحثون في تجارب علمية مختلفة بإسناد مهام متنوعة لطلاب المدارس والجامعات، مثل العمل على مشروع جماعي، أو واجب مدرسي، أو تعبئة ملفات، أو كتابة مقالة، أو قراءة قصة، أو كتابة مقترح بحثي، أو تنفيذ مشروع، أو إنهاء مجموعة من الدروس، وطلبوا منهم التخطيط لهذه المهام بتحديد الوقت اللازم لتنفيذها، ولاحظوا أن مَن استطاع تنفيذ المهمة في الوقت الذي تنبَّأ به أو توقعه عدد قليل مقارنة بمَن لم يستطع. (1)
في ضوء هذه "الظاهرة" المتكررة، قرر الباحثون استخدام مصطلح "مغالطة التخطيط" للتعبير عن اقتناع الطالب مثلا بأن المشروع أو المهمة الحالية ستسير كما هو مخطط لها، حتى لو واجه مشكلة أو فشل في تحقيق هذا الهدف سابقا مع مهام أخرى كان قد خطط لها أيضا، أي رغم أن الطالب لديه دليل من الماضي على أنه يتنبأ بوقت أقل لتنفيذ مهمة دراسية كالوقت اللازم للدراسة لاختبار معين، فإنه عندما يريد التخطيط للدراسة لاختبار جديد يضع في خطته الدراسية وقتا أقل من اللازم لتنفيذ هذه المهمة الجديدة، فيجد نفسه أمام المشكلة نفسها وليس لديه الوقت الكافي لإنهاء المادة أو المقرر الدراسي قبل الاختبار، ويتكرر الخطأ، بلا نهاية.
ويُعرَف ذلك بالمغالطة لسبب وجيه، فالطالب أو المهندس أو الحرفيّ استند إلى معلومة خاطئة وهي الوقت المقدَّر لتنفيذ المهمة وتجاهل الدليل الموجود بأنه أخطأ سابقا في تقدير الوقت اللازم لتنفيذ خططه. فسّر الباحثون ذلك بأن الناس عادة ما يكونون أكثر تفاؤلا وطموحا بخصوص خططهم المستقبلية بصرف النظر عن إخفاقاتهم الماضية، لكنه طموح غير مبني على أساس واقعي دقيق. (2)
الحقيقة إذن هي أننا -نحن البشر- نبالغ في تقدير الوقت الذي نملكه أو الوقت المتوفر قبل مواعيد تسليم المشاريع أو مواعيد الاختبارات، ونستهين بالوقت الحقيقي اللازم لأداء هذه المشاريع، ويرجع ذلك إلى كوننا نصب كل تركيزنا على خططنا المستقبلية وهو ما يعوق نظرنا إلى الماضي، أو لعلنا نسيء تفسير أو معرفة سبب فشل تنفيذ المهام في الوقت الذي حدَّدناه، مثلا بدلا من أن يعتبر أحدنا أنه أخطأ في تقدير الوقت اللازم لكتابة مقالة وأن هذا تسبَّب في تأخره عن موعد التسليم أو استغراق وقت أطول من الذي حدَّده لزملائه أو أستاذه، فإنه يعتبر أن التأخر قد حدث بسبب عوامل خارجية كزيارة صديق أو مرض مفاجئ. (3)
دليلك العملي للتعامل مع مغالطة التخطيط
يمكن تلخيص أسباب الوقوع في خطأ مغالطة التخطيط أو الفشل في التخطيط للمهام الدراسية في سبب واحد وهو سوء تقدير الوقت أو التنبؤ به، لذا فإن التعامل مع هذا التحدي سيركز على علاج السبب، ويُنصح هنا باتباع مجموعة من الخطوات لتحقيق ذلك، وتتمثَّل في تجزئة المهمة، وتعزيز نِيَّات التنفيذ، والاستفادة من إستراتيجيات إدارة الوقت ومن التجارب السابقة.
يرى بعض المتخصصين أن أهم وسيلة للحماية من الوقوع في فخ "مغالطة التخطيط" هي تجزئة المهمة التي يخطط الشخص لتنفيذها (4)، خاصة إذا كانت المهمة معقدة، فتقسيم المهمة الواحدة إلى عدة مهام مُصغَّرة يزيد إدراك الشخص لحجم الوقت الذي سيحتاج إليه لتنفيذ كل مهمة مصغرة، وبالتالي يزيد كم الوقت الذي سيخصصه لتنفيذ تلك المهمة، فمثلا إذا كانت المهمة كتابة مقالة أكاديمية، وعند التخطيط لها قدَّر الطالب أنه سيحتاج إلى أسبوعين لكتابة المقالة، فإنه إذا جزَّأ تلك المهمة إلى المهام المتفرعة كالبحث في المجلات العلمية، وجمع المقالات والكتب التي سيقتبس منها، وقراءة هذه المصادر، وكتابة المقالة، ومراجعتها، وتدقيقها لغويا، سيتمكَّن من التركيز على كل مهمة وتخصيص الوقت المتوقع، وسيلاحظ في النهاية أنه سيضع في خطته فترة أربعة أسابيع أو أكثر بدلا من أسبوعين كما خطط قبل تقسيم المهمة.
سيساعد ذلك الطالب على تفادي خطأ التنبؤ بالوقت اللازم، فكل مهمة فرعية ستُنبِّه الطالب إلى حجم العمل اللازم لتحقيقها، وبالتالي الوقت الذي ينبغي تحديده لذلك، لكن هذا قد يكون غير كافٍ إذا لم يدرك الشخص نوع وطبيعة المهام الجزئية التي ينبغي له تنفيذها لإتمام المهمة كاملة، مثلا إذا تجاهل أو لم يعرف أهمية التدقيق اللغوي فلن يخصص وقتا لهذا العمل، وسيؤثر هذا على إتمام المهمة الرئيسية إذا اكتشف ضرورة التدقيق اللغوي متأخرا، أو سيؤثر ذلك على أدائه وجودة عمله المُنفَّذ.
- نِيَّات التنفيذ
الخطوة التالية هي نِيَّات التنفيذ. ويُقصد بها العناصر الرئيسية للخطة التي يضعها الطالب، أو أي شخص آخر، لتنفيذ مهمة ما وتُسهِّل نجاحه، وذلك بناء على نية الطالب تنفيذ المهمة والوصول إلى هذا الهدف، وتتمثَّل هذه العناصر في مكان ووقت تنفيذ المهمة، والأنشطة اللازمة، والفرص الجيدة، واللحظات الحرجة، والعمل بقاعدة "إذا – سوف". (5)
لتوضيح ذلك لنفترض أن طالبا يعمل على تنفيذ مشروع في مختبر علمي، إذا قسَّم الطالب هذه المشروع "المهمة الرئيسية" إلى مهام فرعية صغيرة كجمع العينات، وفحصها، وحفظها، وتوثيق خطوات التجربة العلمية اللازم تنفيذها، وقراءة مصادر مساعدة، وتدوين الملاحظات، وحل المعادلات، وتعبئة نموذج المشروع، ثم حدَّد الوقت اللازم لتنفيذ كل خطوة بالأيام أو الساعات، فسيحتاج الطالب أيضا إلى تحديد الوقت الذي سينفذ فيه كل مهمة خلال اليوم، ومكان تنفيذها، فبعض المهام كفحص العينات يجب القيام به في مختبر الجامعة، وخلال ساعات العمل الرسمية، في حين أن مهام أخرى كقراءة المصادر التوجيهية يمكن تنفيذه في المنزل أو في مكتبة الجامعة وفي أوقات المساء.
أما بالنسبة للفرص الجيدة، فقد تكون الفرص الجيدة لهذا الطالب هي المعامل المخبرية المخصصة لباحثي الدراسات العليا، حيث يقل فيها عدد الطلاب، فيتمكَّن هذا الطالب من التركيز في المهام التي يؤديها، أو توفر الكهرباء أو الإنترنت عالي الجودة للدراسة وتفقد المصادر الإلكترونية بشكل أفضل.
إذا كنت مثلا تريد استذكار دروسك في سياق هادئ، فيمكن أن تبدأ في تأخير موعد نومك قليلا، بحيث تقضي أربع ساعات بعد نوم العائلة، وبذلك تحصل على وقت كافٍ غير مشتت، فتتجنَّب مغالطة التخطيط، وربما تتغلَّب كذلك على مشكلة المواقف الحرجة، التي يجب أن تضعها في حسبانك بينما تفكر في التخطيط لمهمة ما، فقد يقاطعك أحدهم أو تحدث مشكلة في المكان الذي جهزته لاستذكار دروسك، فعادة ما نخطط لمهامنا ولا نلتفت لتلك المشكلة.
في هذه الحالة تحتاج إلى تنفيذ قاعدة "إذا – سوف" في التخطيط للمهمة الرئيسية، سيقول الطالب مثلا: "إذا" فشلت التجربة وأردت عملها مرة أخرى ولم أجد المواد اللازمة كافة، "فسوف" أستخدم هذا الوقت في تنفيذ مهمة فرعية أخرى من المهام المحددة سابقا كقراءة مصدر تعليمي، أو "إذا" قاطعني شخص بزيارته "فسوف" أعتبر هذه الفترة هي الاستراحة وسأكمل بعد ذهابه إن لم أتمكن من تقليل وقت زيارته.
ما يحدث هنا هو استثمار الوقت المتاح بمرونة أكبر، بالتبديل بين المهام لمواصلة العمل باتجاه تحقيق الهدف وهو تنفيذ المشروع البحثي خلال المدة المحددة، وكل ذلك اعتمادا على رغبة الطالب بالوصول إلى هدفه وتنفيذ خطته.
- إدارة الوقت
تساعد بعض الإستراتيجيات المخصصة لإدارة الوقت (6) في التغلب على "مغالطة التخطيط"، كالتركيز على إنجاز وأداء مهمة واحدة خلال الوقت المحدد، ليجمع الشخص تركيزه في مهمة واحدة فينفذها بسرعة، ثم ينتقل إلى المهمة التالية، وتساعد أيضا إستراتيجية تقسيم المهام حسب أهميتها وضرورة الإسراع بتنفيذها، فيبدأ الطالب بالمهام المهمة والعاجلة كإكمال واجب دراسي لتسليمه خلال الساعات أو الأيام القادمة، فيعطيه الأولوية في وقته الحالي، ويحدد جدولا لتنفيذ المهام المهمة وغير العاجلة كالدراسة للاختبارات القادمة خلال الشهر الحالي أو الذي يليه، أما بالنسبة للمهام غير المهمة العاجلة كاتصال صديق فيمكنه تأجيلها أو تأخيرها، وفي حالة المهام غير المهمة وغير العاجلة كتصفح مواقع التواصل الاجتماعي للتسلية، فهذه المهام يمكن إلغاؤها إذا لم يجد الطالب الوقت لها.
يمكن أيضا الاستفادة من الأدوات المتاحة لتوفير الوقت اللازم لأداء المهام الدراسية أو الشخصية عبر إنجاز المهام عن بُعد، كاستبدال الاجتماع الوجاهي بأفراد المجموعة الدراسية باجتماع إلكتروني عن بُعد، لتوفير وقت المواصلات، أو استخدام التسوق الإلكتروني لشراء المواد التموينية بدلا من الذهاب إلى البقالة.
تساعد أيضا بعض تقنيات إدارة الوقت كتقنية الطماطم في الالتزام بالخطط وتفادي المقاطعات وتحسين التركيز عند تنفيذ المهام الدراسية، وفي هذه التقنية يتم العمل على أداء المهمة لمدة 25 دقيقة ثم أخذ استراحة لمدة 5 دقائق، ثم متابعة العمل، وهناك بعض المواقع التي يمكن استخدامها مُنبها يطلق الجرس بعد انتهاء وقت المهمة وفترة الاستراحة كموقع "pomodoro-tracker" الذي يساعد الشخص في تتبع الوقت الذي يستغرقه للعمل على مهمة ما.
- التجارب السابقة
حسنا، هنا يأتي دور الماضي الشخصي الخاص بك. عبر النظر إلى التجارب السابقة في التخطيط لأي مهمة أو مشروع، سيلاحظ الشخص حدوث مفاجآت أو أحداث غير متوقعة أو غير مخطط لها، ومن خلال تحليل كل واحد منا لكيفية تعامله مع تلك الأحداث في السابق سيُمكنه استخلاص الدروس لتطوير سلوكه إذا واجه هذه الأحداث مستقبلا، فمثلا إذا قاطعه صديق بزيارته ولم يوضح انشغاله، أو خجل من الاعتذار عن استقبال هذا الصديق، وأثَّر هذا الموقف على إنجاز مهمة ما، فعليه أن يغير سلوكه إذا تعرَّض لموقف مشابه مستقبلا، حتى لو كانت المهمة مختلفة.
كذلك الحال بالنسبة للخطط الحالية، عليه أن يدقق ويلاحظ مستوى تقدُّمه في تنفيذ الخطة، وذلك من حيث قدرته على تقدير الوقت الذي يملكه قبل الموعد النهائي للامتحان أو تسليم المشروع، وتقدير الوقت اللازم للمهمة الواحدة والمهام الجزئية التي تتبعها، والمقارنة بين الوقت المتوقع والوقت الفعلي الذي استغرقه تنفيذ الخطة، وكيفية تعامله مع الفرص الجيدة التي تُسرِّع أو تُسهِّل تنفيذ الخطة، وحلوله التي اتبعها للتعامل مع المواقف الحرجة التي تعرقل أداءه للمهام المخطط لها، ثم البناء على كل هذه الملاحظات من أجل تحسين قدرته وأدائه للمهام المستقبلية.
يساعد التخطيط للمهام الواجب إنجازها في التغلب على العوامل الذاتية التي تعوق وصول الشخص إلى النجاح كغياب الدافع وضعف الإرادة، ويُسرِّع تحقيقه للمهام إذا تمكَّن من تجنُّب مغالطة التخطيط. لكن ما يجدر الإشارة إليه هنا هو أن مغالطة التخطيط ليست السبب الوحيد لفشل إنجاز المهام، فأحيانا ما تكون المشكلة خارجية في المهمة ذاتها أو في الموارد اللازمة، وهنا سيتعين علينا البحث في السبب الحقيقي من أجل تفادي الإخفاق في أداء المهام مستقبلا. (7)
—————————————————————————————
المصادر:
- Advances in Experimental Social Psychology
- المصدر السابق
- المصدر السابق
- If you don’t want to be late, enumerate: Unpacking reduces the planning fallacy
- Implementation Intentions: Strong Effects of Simple Plans
- مشكلة رمضان الكبرى.. كيف تنظم وقتك بفاعلية بين العبادة والتعلم والعمل؟
- Advances in Experimental Social Psychology