15 دقيقة يوميا.. هل يمكنك إتقان لغة جديدة من خلال تطبيقات تعلُّم اللغات؟
"اللغة ليست مجرد كلمات، إنها ثقافة وتقليد، هي وحدة مجتمع، إنها تاريخ كامل يُحدِّد ما المجتمع، كل ذلك يتجسَّد في لغة".
(نعوم تشومسكي، أستاذ لسانيات وفيلسوف أميركي)
نبدأ بتعلُّم لغتنا الأم ونحن في بطون أمهاتنا، حين تبدأ آذاننا بالعمل في الشهر السابع من الحمل، ويكون صوت الأم هو أول الأصوات التي تتغلغل إلى أذهاننا ونُكوِّن من خلاله فكرة عن أصوات العالم الخارجي. تختلف اللغات في نغماتها، وهذا الاختلاف يُحدِّد أيضا طريقة بكائنا ونحن أطفال، فلحن البكاء يتوافق مع لحن اللغة الأم التي سمعها الطفل في رحم أمه، لذا حتى لو تشابهت لآذاننا أصوات بكاء كل أطفال العالم، فإن كل طفل يبكي "بلغته الأم" (1).
وكما كان البكاء في الصغر هو وسيلتك للتعبير عن نفسك وتلبية احتياجاتك الأساسية، وبعدها أصبحت لغتك الأم طريقك للتعبير عن أفكارك بطلاقة، ومن ثمّ الانفتاح على العالم من حولك، وُلدت الحاجة إلى تعلُّم لغة جديدة تكون لك نافذة على هذا العالم الشاسع، وما يُتيحه لك من فرص للاندماج مع ثقافات ساحرة وشعوب مغايرة، وتكون كذلك عونا على الترقي في حياتك العملية.
لغتك الثانية في جيبك
قبل عقدين من الزمن، كان من الشائع استخدام شرائط الكاسيت لتعلُّم اللغات، ثم تبعتها الأقراص المدمجة التي تستطيع التنقل بها وتشغيلها في أجهزة محمولة، بينما يتحدَّث المُعلِّم في أذنيك ويُعلِّمك قواعد لغتك الثانية. لم يكن الإنترنت مكتسحا في ذلك الوقت، وكانت مصادر تعلُّم اللغات المجانية مثل يوتيوب ضربا من الخيال. تطوَّر الأمر بسرعة خيالية حتى سيطرت الهواتف المحمولة على المشهد واستُبدلت أجهزة الكاسيت والراديو وحتى التلفاز، وتطوَّرت معها التطبيقات التعليمية في كل المجالات، خاصة مجال تعلُّم اللغات. ربما يكون السر في شعبية هذه التطبيقات هو أنها أحضرت العالم كله بين راحتيك دون أن تبذل جهدا في السعي وراء التعلُّم.
اليوم، يتربَّع تطبيق "دولينغو" (Duolingo) على عرش تطبيقات تعلُّم اللغات على مستوى العالم (2)، بعدد مرات تحميل وصل إلى 500 مليون مرة، وأرباح تخطَّت 160 مليون دولار عام 2020. تعني كلمة دولينغو "مزدوج اللغة"، وهي لفظة معبرة للغاية عن هدف التطبيق. رغم أن "دولينغو" لم يكن التطبيق الأول من نوعه، إذ صدر عام 2011، وسبقه للنور تطبيقا "بابل" (Babbel) و"بوسو" (Busuu) اللذان صدرا عام 2008 بفارق شهور قليلة، فإن مجانيته أولا، ثم الطريقة التي يعمل بها، جعلته المفضل على مستوى العالم. دعنا نتأمل طريقة عمل هذا التطبيق الذي يشبه اللعبة أكثر منه تطبيقا مُملا للتعلُّم.
يُقدِّم التطبيق مكونات اللغة على هيئة أسئلة متعددة الاختيارات، وبطاقات تعليمية، وألعاب توصيل، يعتمد فيها على تكرار كل كلمة وصوت وجملة عدة مرات حتى تُتقنها تماما. مع كل كلمة تتعلَّمها تكسب نقاطا، ومع كل خطأ ترتكبه تفقد "قلبا" مثل الألعاب بالظبط. يمتلئ التطبيق بالشخصيات الكرتونية الظريفة التي تُصفِّق من أجلك إذا أجبت إجابة صحيحة. يحتوي التطبيق أيضا على خاصية المراجعة المستمرة للدروس القديمة، بالإضافة إلى تعلُّم كلمات جديدة، ويرسل إليك تنبيهات لتتذكَّر استخدامه يوميا. التطبيق ليس مجانيا بالكامل، بل هناك بعض الخصائص التي لن تتوفر لك إلا بعد دفع الاشتراك، وإن كان الجزء المجاني جيدا إلى حدٍّ كبير.
تستغل تطبيقات تعلُّم اللغات نظرية التقليد والتكرار (Imitation and repetition) في التعلُّم، فكما يرى "بي.إف. سكينر" (B.F.Skinner)، عالِم النفس الأميركي الرائد في مجال علم النفس السلوكي، فإن الطفل يتعلَّم اللغة عن طريق تقليد أبويه ومَن حوله، وتبعا لرد فعل المحيطين به تتعزَّز لغته وتنمو، فإما أن يُقابَل تقليده بالاستحسان فيدفعه هذا إلى تكرار الكلمة، وإما أن يُقابَل بالتجاهل وبهذا قد لا يهتم بتكرار هذه الكلمة مرة ثانية (3). لذا، تحرص التطبيقات على إعادة اختبارك في الكلمة نفسها مرارا، وتدفعك إلى تكرار نطقها وكتابتها وقراءتها وتصحيح أخطائك، حتى تصبح الكلمة جزءا من تلافيف مخك، ويصبح التحدُّث بها أو كتابتها أمرا آليًّا لا يحتاج إلى التفكير.
أيضا تتعمد التطبيقات مثل "دولينغو" و"ميمرايز" (Memrise) استخدام نظرية التكيّف الفعّال (Operant conditioning) لسكينر، التي تستخدم "الحوافز" لجعل العملية التعليمية أكثر متعة واستمرارية. ما تُعزِّزه وتشجعه سينمو ويستمر، وما تُهمله وتنبُذه سينزوي ويموت. لذا مع كل مستوى جديد تتعلَّمه، تكسب تاجا كما في "دولينغو"، أو تزرع وردة مقابل كل كلمة وتراقبها تكبر كما في "ميمرايز". هذه اللفتات البسيطة تُعطي دافعا للاستمرار في التعلُّم، مثل الطفل الذي يحصل على نجمة من المعلمة عندما يتقن حرفا جديدا. ولكن بينما قد تنجح هذه الطريقة نجاحا كبيرا مع الأطفال، فإنها قد لا تكون كافية بالنسبة لك بوصفك بالغا لكي تلتزم بعملية التعلُّم حتى النهاية.
توفر هذه التطبيقات كذلك جزءا تفاعليا، كالاختبارات التي تقيس فهمك لسياق الكلام من خلال الاستماع لمحادثة، دون معرفة المعنى الفعلي لكل كلمة فيها. وهناك اختبار "الرد"، حيث يضعك التطبيق أمام موقف افتراضي ويطلب منك نطق الرد الأنسب بناء على ما تعلَّمته حتى تلك اللحظة. يوفر هذا بيئة تعلُّم نشطة، لا يجلس فيها المتعلم سلبيا يتلقى المعلومات ويُكرِّرها فقط، وإنما يستخدمها داخل السياق المناسب لها كما في الواقع. هناك اختلافات بين تطبيقات تعلُّم اللغات بالطبع، ولكنها في النهاية تدور حول الأهداف نفسها: أن تتعلَّم قليلا كل يوم، وأن تتعلَّم الكلمات والجمل التي قد تحتاج إليها في الحياة الحقيقية، وأن تُكرِّر الكلمات والجمل حتى تثبت في الذاكرة طويلة الأمد.
لحظة الحقيقة
الآن بعد أكثر من 10 أعوام على إطلاق أول تطبيق لتعلُّم اللغات، دعنا نُلقِ نظرة على النجاح الحقيقي الذي حقَّقته هذه التطبيقات على أرض الواقع، بناء على الأهداف التي أعلنتها تلك التطبيقات نفسها. في الدراسة المنشورة في دورية "فورين لانجويج آنالز" (Foreign language annals)، أُخضع 83 طالبا جامعيا أميركيا لدورة اللغة الإسبانية على تطبيق "بابل"، بشرط أن تكون معرفتهم باللغة أقل من المتوسط، وأن يلتزموا بالدراسة لمدة 10 دقائق على التطبيق يوميا ولمدة 3 أشهر. بالطبع هذه العينة محدودة وقد لا تُمثِّل جميع طوائف المجتمع الأميركي، ولكنها تُلقي الضوء على مدى فعالية التطبيق في "جعلك تتحدَّث الإسبانية بثقة في المواقف الحياتية الحقيقية".
تأتي نتائج هذه الدراسة مدعومة بنتائج عدة دراسات أخرى على تطبيقَيْ "بوسو" و"دولينغو"، حيث كانت المحصلة النهائية واحدة. نجحت التطبيقات نجاحا كبيرا في تعليم الطلاب الأصوات والمفردات والقواعد النحوية للغة، ومساعدتهم على فهم اللغة المسموعة والمقروءة، أي إن النجاح الأكبر كان خاصا باستقبال اللغة، بينما كانت نتائج التحدُّث الفعلي باللغة محدودة (8). يبدو أنه فيما يخص التحدُّث الفعلي، ما زال التعليم داخل الفصل له اليد العليا في الوصول إلى نتائج حقيقية، إذ إنه حتى الطلاب الذين تمكَّنوا من التحدُّث بالإسبانية بعد 3 أشهر، كانت إجاباتهم محفوظة ومحدودة للغاية.
إحدى المشكلات الأخرى التي رصدتها الدراسة هي انخفاض معدل التزام الطلاب بالتعلُّم عبر التطبيق، وهذه مشكلة ذات مصدرين؛ أولهما التحفيز الداخلي الخاص بالطالب نفسه، ودوافعه لتعلُّم هذه اللغة ومدى رغبته حقا في الاستمرار، بينما المصدر الآخر هو تصميم التطبيق نفسه، الذي لا يعطي حافزا كافيا للطلاب للاستمرار باستخدامه. من السهل أن تبدأ في استخدام التطبيق، ومن السهل أن تتوقف أيضا، لهذا بدأت التطبيقات في محاولة جذب المتعلمين عن طريق جعل الأمر يبدو مثل لعبة تكسب من خلالها النقاط وتنافس فيها أقرانك.
في دراسة أخرى أُجريت على 19 طالبا من جامعة بورنيو (Borneo University) الإندونيسية، الذين يدرسون اللغة الإنجليزية، رُصدت أهم مزايا وعيوب تطبيق "دولينغو" من وجهة نظر المتعلمين أنفسهم. اختُبرت الحصيلة اللغوية للطلاب قبل وبعد فترة الدراسة التي امتدت لثلاثين يوما، كما أُجري استطلاع رأي بين الطلبة لتقييم تجربتهم مع التطبيق. تأكيدا لنتائج الدراسة السابقة، جاءت النتائج إيجابية فيما يخص زيادة الحصيلة اللغوية للطلاب، وهو ما أثبتت التطبيقات قدرتها على فعله بكفاءة (9).
أما عن العيوب التي رصدها الاستطلاع، فقد اتفق 3% من الطلاب أن التطبيق كان مُملا أو صعب الاستخدام، وأقل فائدة وتعبيرا من الدراسة بالفصل. بالطبع عينة البحث كانت صغيرة للغاية، ومدة الدراسة قصيرة، لذا دعنا نطلع على دراسة مختلفة أُجريت حول التطبيق نفسه ولكن على عينة من الأطفال في المرحلة الابتدائية، على مدار 12 أسبوعا. لقياس كفاءة "دولينغو" في تعليم اللغة الإسبانية للأطفال المتحدثين بالإنجليزية، اختُبر مستوى الطلاب قبل وبعد استخدام التطبيق، ثم قُورنوا بعينة من الطلاب استمرت في التعلُّم في الفصل. لم تُظهِر النتائج اختلافا بين الفريقين في مستوى التحصيل وكفاءة تعلُّم اللغة، مما يُشير إلى نجاح تطبيق "دولينغو" في تعليم اللغة الإسبانية للأطفال المتحدثين باللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية (10).
صعوبات
يجب الوضع في الاعتبار عدة عوامل تمنعنا من تعميم نتائج هذه الدراسات على الجميع. بينما يتعلَّم الأطفال اللغات الثانية أسرع، بفضل المرونة العصبية التي يمتلكونها، فالبالغون يواجهون صعوبات جمة في إتقان التحدث بلغة ثانية إذا ما بدأوا التعلُّم في سن مُتقدِّمة. هناك أيضا صعوبات تتعلَّق باللغة ذاتها، فاللغة الإسبانية تُعَدُّ من أسهل اللغات بالنسبة للمتحدثين بالإنجليزية، بينما اللغة العربية ليست كذلك، فيما تُعَدُّ اللغة الصينية (الماندرين) هي أصعب اللغات على وجه الأرض تقريبا.
يرى "ستيفن كراشِن" (Stephen Krashen)، عالِم اللسانيات الأميركي، أن المرء يتشرَّب اللغة الثانية بطريقة "الاكتساب-التعلم" (Acquisition-learning hypothesis)، حيث "يكتسب" الكلمات بطريقة غير واعية من البيئة المحيطة به كما الأطفال، ويتطلَّب ذلك تفاعلات تلقائية في بيئة تتحدَّث باللغة المرغوب تعلُّمها حيث يكون الطالب هو محور الاهتمام. لاحقا، "يتعلَّم" الطالب قواعد هذه اللغة بطريقة مُمنهجة في الصف بحضور المُعلِّم، وهنا يكون التعلُّم واعيا ومقصودا ومتمحورا حول المُعلِّم لا الطالب. إذن لا يكفي التعلُّم الواعي للقواعد والكلمات وحده دون غمر الطالب في محيط كامل من اللغة الثانية، وبينما توفر تطبيقات اللغات شرط "التعلُّم" الواعي، فإنها تفتقر إلى الجزء اللا واعي الذي يتطلَّب التحدُّث مع السكان الأصليين (11).
في النهاية، سواء اخترت أن تتعلَّم لغة جديدة من خلال تطبيقات الهاتف وحدها، أو من خلال الفصل وحده، أو حتى بمزيج من الاثنين، فلا بد لك من بذل الوقت والجهد العقلي الكافي لتعلُّم هذه اللغة والسعي نحو إتقانها والاختلاط بمتحدثيها الأصليين. هذه الخطوة الأخيرة قد تكون الأهم، لتتمكَّن من تحويل القواعد النظرية التي درستها وأتقنتها إلى تطبيق عملي يُتيح لك إجراء محادثة سلِسة باللغة الثانية، فلا شيء جيد يأتي مجانا.
______________________________________________
المصادر:
- The Brain and Language: How Our Brains Communicate · Frontiers for Young Minds
- 2- Language learning apps – Statistics & Facts | Statista
- Language Acquisition Theory | Simply Psychology
- (PDF) Distinct cortical areas associated with native and second languages [Abstract–Electronic version]
- How the brain learns a second language.
- Frontiers | Second Language Word Learning through Repetition and Imitation
- Components of Language
- The effectiveness of app‐based language instruction for developing receptive linguistic knowledge and oral communicative ability
- (PDF) The Use of Duolingo Apps to Improve English Vocabulary Learning
- The effects of a mobile gamification app on elementary students’ Spanish achievement and self-efficacy: Computer Assisted Language Learning: Vol 31, No 1-2
- Stephen Krashen’s Theory of Second Language Acquisition