أدمغتنا تتطور باستمرار.. كيف تُحسِّن قدرات عقلك على التعلُّم؟
"تخيَّل مهاجرين يأتون إلى دولة جديدة يستطيعون استيعاب لغتها الجديدة بسهولة وبدون لكنة مختلفة، في غضون بضعة أشهر فقط، وتخيَّل أيضا كيف ستتحوَّل حياة الناس الأكبر سِنًّا الذين سُرِّحوا من وظائفهم إذا أصبحوا قادرين على تعلُّم مهارة جديدة بالنشاط نفسه الذي كان لديهم في الطفولة". (1)
لا يبدو هذا التخيُّل ضربا من الخيال في رأي بعض الباحثين الذين يعتقدون أن عقولنا تمتلك إمكانات أكبر بكثير مما نستغله بالفعل في بناء قدراتنا، فتتبَّعوا قدرات الدماغ المذهلة واكتشفوا كثيرا من أسراره. وربما يصبح أحد إنجازات علماء الأعصاب يوما ما أن نمتلك القدرة على التعلُّم في الكِبَر بالقدر ذاته الذي حُزناه في الطفولة، وبالسهولة نفسها، وأن نُطوِّر باستمرار قدرات عقولنا على التعلُّم لنستغلها بأفضل طريقة ممكنة.
لا يتوقَّف دماغنا عن التغيير، خاصة في الفترة الحرجة من النمو، وهي مرحلة يكون الجهاز العصبي فيها حساسا بوجه خاص للمحفزات البيئية، وتكون قشرة الدماغ لدنة جدا بحيث تتغير بنيتها بسهولة بمجرد تعريضها لمنبهات جديدة، وهذا هو ما يُتيح للرُّضَّع والأطفال الصغار تطوير اللغة في فترة وجيزة، وتعلُّم الكلمات بمجرد سماعها من آبائهم، صحيح أنه بعد مرور تلك الفترة الحرجة سوف يظل بإمكان الراشدين تعلُّم لغات أخرى، لكن سيكون عليهم بذل جهد أكبر من أجل الحفاظ على الانتباه.
الفرق بين لدونة الدماغ في الفترة الحرجة ولدونة الراشدين، كما يُخبرنا نورمان دويدج في كتابه "الدماغ وكيف يُطوِّر بنيته وأداءه"، هو أن خرائط الدماغ في الفترة الحرجة يمكن تغييرها بمجرد تعريضها للعالم، لأن آلية التعلُّم مستمرة بلا انقطاع، فالرُّضَّع لا يعرفون ما سيكون مهما بالنسبة لهم وما لن يكون مهما، ولذلك فهم ينتبهون لكل شيء.
يكون التعلُّم في الفترة الحرجة سهلا لأن النواة القاعدية (Basal ganglia) تكون دائما في حالة عمل، وهو ما فعله ميشال ميرزنيتش، أبرز اختصاصيي اللدونة العصبية، في تجربته التي شغَّل خلالها النواة القاعدية لجرذان بالغة اصطناعيا، ليُلاحظ توسُّعا هائلا في خريطة الدماغ لديهم، وعملا يُشبه عمل الدماغ في الفترة الحرجة، وبهذا استطاع إيجاد طريقة لاستعادة كفاءة الدماغ في الفترة الحرجة لدى البالغين، من خلال استخدام قطب كهربي أو الحقن المجهري لمواد كيميائية معينة أو من خلال العقاقير، وهكذا يصبح بالإمكان أن يتعلَّم الناس حقائق العلوم أو التاريخ والحِرَف بمجرد التعرُّض لها لفترة وجيزة.
بفضل تجاربه، استطاع ميرزنيتش تسجيل عدة براءات اختراع لتقنيات تَعِدُ بإتاحة الفرصة للراشدين لتعلُّم مهارات اللغة دون استذكار مُجهِد، ومُؤكِّدا أن ممارسة مهارة جديدة يمكن أن يُغيِّر الملايين وربما المليارات من الاتصالات بين الخلايا العصبية في خرائط الدماغ، إن ما يؤكده ميرزيتش أن الدماغ يُكيِّف نفسه وفقا لما نقوم به، ودائما "يتعلَّم كيف يتعلَّم". (2)
تُعرَّف اللدونة على أنها المطاوعة والقابلية للتغيير والتعديل، وهو مصطلح يُشير إلى ليونة الخلايا العصبية في أدمغتنا وأجهزتنا العصبية وقابليتها للتغيير، لقد أظهر العلماء أن القدرات العقلية التي نُولد بها ليست ثابتة، وأن الدماغ التالف يستطيع أن يُميِّز نفسه بحيث يحل جزء مكان آخر إذا فشل هذا الجزء في أداء وظيفته. ونتيجة لذلك، تسمح اللدونة العصبيّة بتجدُّد الدماغ، وتدعم قدراته على التذكُّر وإعادة التركيب، وتحدُّ من تأثير الاختلالات التركيبيّة التي تؤدّي إليها أمراض مثل التصلُّب المتعدِّد، باركنسون، والزهايمر واضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط وغيرها.
إن فكرة أن الدماغ يمكن أن يُغيِّر تركيبه من خلال التفكير والنشاط هي إحدى الثورات ذات التأثيرات العميقة التي ستزيد فهم البشر للحب والحزن والعلاقات والتعلُّم والإدمان والثقافة والتكنولوجيا، بل وسيمتد الأثر ليشمل جميع العلوم الاجتماعية والإنسانية والفيزيائية. (3) – (4)
غالبا ما نعتقد أنّ كوننا أشخاصا بالغين نعيش حالة من الاستقرار بعد أن توقَّفت أجسادنا عن التغيُّر في فترة المراهقة، وصرنا مَهَرَة في عملنا، يعني أننا فقدنا قدرتنا على تعلُّم أي أمر جديد بكفاءة، لكن الحقيقة على الأرجح هي أننا نواصل العمل لسنوات عديدة في أعمال لم تعد تتطلَّب انتباهنا بعد أن صرنا نُتقنها، ونتحدَّث بلغتنا الأم ونُعيد استخدام مهارات تعلَّمناها، ولا نحاول تعلَّم أي جديد بمحض إرادتنا، لنكتشف في سن السبعين أننا ربما لم نُشغِّل الأنظمة التي تُنظِّم اللدونة منذ خمسين سنة تقريبا.
"تمارين الدماغ تكون مفيدة بقدر العقاقير لمعالجة أمراض وخيمة مثل الفصام، واللدونة موجودة من المهد إلى اللحد، والتحسُّن الجذري في الوظيفة المعرفية -كيف نتعلَّم وكيف نُفكِّر ونفهم ونتذكَّر- ممكن حتى لدى المسنين".
إن إهمالنا للتعلُّم مع تقدُّمنا في السن هو ما يُضعف أنظمة الدماغ التي تُعدِّل اللدونة وتضبطها، وليس الضعف الطبيعي لهذه الأنظمة هو ما يعوق قدرتنا على التعلُّم كما اعتقدنا سابقا، وقد استطاع علماء الأعصاب تطوير تمارين دماغية لعلاج الانحدار المعرفي المرتبط بتقدُّم العمر. وكما يُخبرنا ميرزنيتش، فإنّ تعلُّم نشاطات تتطلَّب التركيز أو حل ألغاز تنطوي على تحدٍّ لعقولنا، أو تغيير مهنتنا بما يتطلَّب إتقان مهارات جديدة، يُنبِّه جهاز التحكُّم في اللدونة ليواصل عمله، وهو يؤكد أن كل شيء يمكن للدماغ الشاب أن يفعله يمكن أن يحدث في الدماغ الأكبر سِنًّا، شرط أن ينال الشخص من المكافأة أو العقاب ما يكفي ليُثير انتباهه ويُجنِّبه الملل. (5)
يعني التعلُّم الفائق استمرار التدريب على المهارة بعد تحقيق مستوى معياري في الإنجاز، فمثلا حين يكون المعيار هو 10 رميات حرة ناجحة في كرة السلة خلال 10 محاولات، فإن استمرار اللاعب في التمرين حتى وصوله إلى تحقيق 15 رمية ناجحة خلال 15 محاولة يعني تحقيقه لـ 50% على معيار التعلُّم الفائق.
ووفق آراء أخرى، يُشير مصطلح التعلُّم الفائق أحيانا إلى استمرار اللعب في التمرين على المهارة بصرف النظر عن حدوث تحسُّن في النتيجة من عدمه، فحتى مع وصول الفرد مثلا إلى الكفاءة المطلوبة وهي 10 رميات ناجحة خلال 10 محاولات، فإنه يستمر في التدريب الإضافي على المهارة لتعزيز التعلُّم، وجعل المهارة أقل عُرضة للنسيان، مع إمكانية أدائها بسهولة في أي وقت مهما كانت معقدة. (6)
المهم هنا هو ملاحظة أن معدل التحسُّن في الأداء يقلّ تدريجيا وبوضوح كلما وصل الشخص إلى حدٍّ معين، فهناك حدود للإنجاز يمكن الوصول إليها، وتبدأ درجة التعلُّم في التناقص كلما وصلت كفاءة الشخص إلى المستوى الأعلى، أي إنه كلما أصبح أكثر كفاءة في المهارة التي يتعلَّمها يكون مجال تحسُّنه وتقدُّمه أقل، ويستغرق وقتا أطول لدفع حدود الإنجاز، فمثلا إذ استمر في التدريب بحيث استطاع أن يُحقِّق مستوى كفاءة 20 رمية حرة ناجحة من 20 محاولة، فالتدريب التالي لن يزيد تقدُّمه، أو قدرته على الاحتفاظ بالأداء، بمعدل يتناسب مع الوقت المستغرق في التدريب الإضافي.
وبمرور الوقت، تصبح قدرة الإنسان على دفع حدود إنجازاته الخاصة أقل، ويبدأ غيره في تحقيق إنجاز أفضل فيكسر الرقم الذي لا يستطيع هو أن يُحقِّقه، لهذا يفقد الناس رغبتهم في التعلُّم الفائق لأسباب منها أن عملية التعلُّم تُصبح مُملة، وأن الاستمرار لا يؤدي إلى تحسُّن كبير.
يُرجِّح بعض الباحثين أن التعلُّم الفائق يُفيدنا أكثر في تعلُّم المهارات الحركية السريعة مثل لعبة كرة السلة أو الباليه، أما بالنسبة للمهارات الأخرى التي نعتمد فيها عادة على الذاكرة، مثل تعلُّم اللغات أو الحقائق، فلم يُختبَر التعلُّم الفائق فيها بدقة، إذ تستخدم نوعية أقل تخصُّصا مع معالجة المعلومات داخل الدماغ. (7)(8)
كان عالم الأعصاب ماركوس رايشل هو مَن اكتشف الطاقة الفريدة في دماغنا عام 1990 أثناء إجرائه سلسلة من التجارب باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي، راقب خلالها أشخاصا في فترات الراحة أثناء جلوسهم دون فعل شيء، وربما خلال فترات استغراقهم في أحلام اليقظة، وقد أظهر الدماغ حياة خاصة ووظائف مذهلة يقوم بها في هذه اللحظات.
حتى في تلك الأوقات التي لا نقوم فيها بأي شيء أو نظن أننا لا نفكر فيها، يكون دماغنا لا يزال مُنغمسا في أنشطته شديدة التعقيد، ففي لحظات الخمول الإدراكي الظاهري والانفصال عن العالم، تنشط ما تُسمى بالشبكة العصبية الافتراضية التي تسمح للدماغ بمواصلة القيام بعمله، والدخول في أنشطة معقدة لا نهاية لها. (9)-(10)
تُشير الأبحاث إلى أهمية النوم في ترسيخ الذكريات، وتحقيق نتائج لدعم التعلُّم الحركي بالطريقة نفسها التي يُحقِّقها التعلُّم الفائق في تحسين التعلُّم البصري، فقد استطاع المشاركون في التجربة الذين حصلوا على قيلولة مدتها 90 دقيقة بين جلسات التدريب تحقيق نتائج مشابهة لما يُحقِّقه التعلُّم الفائق، ومع أنه لا يمكن للغالبية الحصول على قيلولة لمدة 90 دقيقة في كل مرة يتعلَّمون فيها شيئا، فقد يكون المزج بين النوم والتعلُّم الفائق خطة جيدة للتعلُّم وحفظ الذاكرة، أما إذا لم تتمكَّن من ممارسة التعلُّم الفائق أو تنظيم نومك تنظيما مناسبا، وكان عليك أن تتعلَّم أكثر من مهارة في الوقت نفسه، فإن أهم ما ينصحك به المتخصصون هو أن تتجنَّب تكديس تعلُّم المهارات المتشابهة في وقت واحد لكي تتمكَّن من الحفاظ عليها كلها. (11)
وأخيرا، ينصح الخبراء ببعض التمارين والحِيَل التي يمكن بها تحفيز العقل ليصل إلى أقصى قدراته، وتحسين المرونة العصبية لدماغنا، وهذه أبرزها:
رؤية أشياء جديدة، مثل القراءة والاستماع إلى الصوتيات التي تحتوي على معلومات لم نعرفها من قبل، والذهاب إلى معرض، أو الوجود مع أشخاص يخبروننا بأشياء جديدة. باختصار؛ أن تُقابل عقولنا أمورا جديدة، كل هذا يساعد على تنشيط الدوائر العصبية وأنماط عمل الدماغ وبالتالي يزيد المرونة العصبية لديك.
- ممارسة الرياضة
المرونة العصبية أمر يمكن اكتسابه باستمرار، وليس هناك سِنٌّ يمكننا القول عنده إننا لن نتمكَّن من تدارك الأمر، فدماغنا يستطيع توليد روابط جديدة دائما، في دراسة أُجريت على أشخاص تتراوح أعمارهم بين السبعين والثمانين عُقدت مقارنة بين استجابتهم لألعاب المهارات العقلية مثل السودوكو والكلمات المتقاطعة، والتمارين البدنية مثل المشي، والمدهش أن ما جعل هؤلاء الأشخاص أكثر ذكاء وحفَّز نمو مناطق معينة من الدماغ هو الذهاب في نزهة على الأقدام أكثر من التمارين العقلية.
- اكتشف مسارات جديدة
إحدى الحِيَل البسيطة جدا لتحسين مرونة دماغنا هي السير في مسارات أو طرق جديدة. لدينا هذا الميل دائما للذهاب من الطريق نفسه إلى العمل وصالة الألعاب الرياضية، لكن السير في طريق آخر، أو على الأقل عبور شارع يُشعرنا بعدم الراحة وبعض التحدي بسبب الخوف من المجهول، يمكنه أن يُحفِّز عقولنا. (12)
________________________________________________________________________________________
المصادر
- الدماغ وكيف يطور بنيته وأداءه
- المصدر السابق.
- اللدونة العصبية والإدراك
- الدماغ وكيف يطور بنيته وأداءه
- المصدر السابق.
- التعلم الفائق
- المصدر السابق
- قوة التعلُّم الفائق
- La red neuronal por defecto, nuestro "piloto automático" cerebral
- 8 maneras de aumentar tu poder mental
- قوة التعلُّم الفائق
- Neuroplasticidad: 5 trucos para mejorar nuestro cerebro