الكتب الصوتية أم المقروءة.. مَن يزيح الآخر من على عرش المعرفة؟
يحدث أن يسافر بك كتاب إلى متحف اللوفر لتشهد جريمة قتل تناثرت فيها الدماء على لوحة موناليزا، وتقصَّت أثرها فتاة قادتها خطوط دافنشي إلى عالم مُظلِم، أو أن يمارس كاتب ما عليك السحر حتى يُخيَّل إليك أنك تقف في زاوية متجر يتوسَّط شارعا متوهِّجا، حيث يختلط عبق اللحظة الدافئة مع أريج الخزامى الممزوج بطِيب العود.
يحدث أكثر من ذلك حين نقرأ ونلمس صفحات الكتب بأناملنا، لكن ماذا لو نزع أحدهم هذه الكتب من يديك، وعرض أن يقرأ عليك ما فيها؟ نعم، ربما يشبه ذلك قليلا قصة ما قبل النوم حين كنت طفلا، أو ربما ما ترويه إحدى موجات المذياع، أو غير ذلك. في عالم اليوم، بات هناك فريقان من جمهور القراءة وليس فريقا واحدا، الأول يرغب في قراءة الكتاب بنفسه، والآخر يُفضِّل الاستماع إليه مقروءا بصوت غيره، ولكل فريق حجته ومنطقه.
غزو الكتب الصوتية
على مدار سنوات طويلة، وُصِفت الكتب الصوتية بأنها مُنتَج ثانوي لعملية إنتاج ونشر الكتب، يُسهِّل القراءة على أولئك الذين يجدون صعوبة في الحصول على الكتب المطبوعة، أو لا يستطيعون قراءتها بسبب مشكلات النظر، أو الأُمية، أو عُسر القراءة، لكن المشهد تغيَّر حين تطلَّب السوق أن تُنتَج الكتب الصوتية وتُنشَر بالتزامن مع طباعة الكتب ورقيا وإلكترونيا (1)، وحين استخدم المُسوِّقون التكنولوجيا وسيلة لإقناع المستهلكين باستخدام الكتب الصوتية لتحقيق تعددية المهام وزيادة الإنتاجية (2).
تُظهِر الاتجاهات في السنوات الأخيرة نموا مزدهرا لسوق الكتب الصوتية في دول مختلفة، وصعودا مستمرا في أرباح مبيعات هذه الكتب، ففي الولايات المتحدة مثلا، ارتفعت مبيعات الكتب الصوتية في عام 2019 بنسبة 18% مقارنة بعام 2018، مُسجِّلة 1.2 مليار دولار أميركي، فيما ارتفع عدد الكتب الصوتية التي يقرؤها الفرد الواحد من 6.8 في عام 2019 إلى 8.1 في 2020. وفي كندا، شكَّلت مبيعات الكتب الصوتية عام 2019 نسبة 5% من إجمالي مبيعات الكتب مقارنة بنسبة 3.6% في عام 2018، أما المملكة المتحدة فقد سجَّلت الفارق الأكبر بزيادة معدلها 43% في مبيعات الكتب الرقمية لعام 2019 مقارنة بعام 2018، وقُدِّرت أرباح هذه الكتب بنحو 69 مليون جنيه إسترليني (3).
يعود هذا التوجُّه الصعودي للكتب الصوتية إلى بدايات العقد الماضي، لكن الوباء العالمي ساهم في تعزيزه بعدما تسبَّب في تعطيل صناعة النشر وتأخُّر الدور عن طباعة الكتب، وإغلاق الكثير من المتاجر، وما سبَّبه ذلك من صعوبة حصول القراء على الكتب لعدة أشهر. ومع فرض العزل المنزلي وبحث الناس عما يستغلون به أوقاتهم، كانت الكتب الرقمية إحدى وسائل النجدة، خاصة مع توفُّر الأجهزة الإلكترونية والتطبيقات المختلفة التي تُتيح تحميل الكتب الصوتية وشراءها دون قيود (4).
سوق المستقبل
تتمتع الكتب الصوتية بكثير من المزايا التي سهَّلت انتشارها وتداولها، كتحسين مهارات النطق والمحادثة، فخلال الاستماع للكتاب سيتمكَّن الشخص من ملاحظة النطق الصحيح لكلمات مختلفة، ونبرة الصوت، ومواضع التوقُّف والتشديد، وهي أمور لازمة في تعلُّم أي لغة، كما تساعد الكتب الصوتية في إدارة الوقت عبر تعددية المهام، فمن السهل أداء مهام مختلفة خلال الاستماع للكتاب الصوتي كغسل الأطباق أو أداء التمارين الرياضية أو قيادة السيارة (5).
تُسهم الكتب الصوتية أيضا في تطوير مهارات الاستماع النقدي، التي تتضمَّن تحليل المادة المسموعة وتقييمها، كما تُحسِّن الانتباه والتركيز نظرا لصعوبة العودة واستدراك ما فات خلال الاستماع، إضافة إلى مزايا القراءة التقليدية مثل المتعة وتحسين الصحة النفسية وتعزيز المشاعر، وبناء التعاطف مع الأحداث والقصص (6).
ساعدت الكتب الصوتية أيضا في جذب المزيد من الأشخاص لفضاءات القراءة والمعرفة، فقد أظهر تقرير بحثي لمؤسسة "ناشيونال ليتراسي ترست" (National Literacy Trust) البريطانية، المسؤولة عن تعزيز محو الأمية في المملكة المتحدة، أن 25% من الأطفال والمراهقين الذين شملهم المسح أكَّدوا أن الاستماع للكتب الصوتية أو البرامج الصوتية زاد من استمتاعهم بالمحتوى، ومقارنة بأفراد العينة الذين لا يحبون الاستماع للمواد الصوتية، أظهر أنصار الاستماع نهما أعلى لاستهلاك الكتب مقارنة بأقرانهم، كما عبَّر عدد من المشاركين عن إحساسهم أن الاستماع يساعدهم على الاسترخاء والتخلُّص من القلق وبالتالي يُحسِّن صحتهم النفسية (7).
أشار تقرير آخر للمؤسسة نفسها إلى أن الكتب الصوتية نجحت في استثارة ردود فعل عاطفية بين الأطفال تجاه النصوص، وهذا لم يُلاحَظ مع الكتب المطبوعة، تحديدا بين مَن يعانون من صعوبة القراءة، وأن ذلك قد ينتج لوجود صوت بشري يروي القصة المكتوبة، إضافة إلى كون الكتب الصوتية مفيدة أيضا للعائلات حيث تُمكِّنهم من الاستماع للكتب خلال المشاركة في تنفيذ أنشطة جماعية، أو قبل النوم خاصة مع الآباء والأمهات الذين لا يثقون في قدرتهم على القراءة لأطفالهم، أو يواجهون صعوبة في ذلك (8)، لكن ماذا إن قورنت فوائد الكتب الصوتية بتلك الخاصة بالكتب المقروءة؟
رغم وجود بعض الأبحاث العلمية التي حاولت المقارنة بين تأثير الاستماع والقراءة على الفهم لدى الكبار، أظهرت تلك الأبحاث تضاربا في النتائج. أحد هذه الأبحاث نفَّذته ثلاث باحثات، هنّ "بيت روجوفسكي" من جامعة بنسلفانيا، و"باربرا كالون"، و"باولا تالال" من جامعة كاليفورنيا، على مجموعة من الأشخاص بهدف اختبار قدرتهم على الفهم وتذكُّر المعلومة بعد القراءة أو الاستماع. قسَّمت الباحثات المشاركين إلى ثلاث مجموعات، مجموعة للقراءة، ومجموعة للاستماع، ومجموعة للقراءة والاستماع معا، وأظهرت نتائج البحث عدم وجود فرق بين المجموعات الثلاثة، ناهيك بصعوبة تعميم النتائج بسبب اختلاف العديد من العوامل (10) مثل نوع المادة المقروءة (خيال علمي، كتب دراسية، مقالات صحفية…)، ومواصفات أفراد العينة (المستوى التعليمي، التحصيل الأكاديمي، القدرة على استخدام التكنولوجيا…)، وحتى نوعية الكتب المتوفرة للقراءة (كتب ورقية أم إلكترونية).
كيف يرد فريق الكتب المقروءة؟
داخل الدماغ، تعمل الكتب الصوتية والمقروءة بطريقة مختلفة نسبيا. تُنشِّط قراءة الكتب مناطق الدماغ الخاصة بالمعالجة البصرية، وهذا يختلف عن تنشيط مناطق المعالجة السمعية الذي يُحقِّقه الاستماع للكتب الصوتية، رغم أن أخصائيي علم اللغة يتفقون على أن النشاط العقلي المُتعلِّق بالاندماج في فهم الرواية والحبكة وغير ذلك لا يختلف باختلاف طريقة تناول الكتاب. وهنا يأتي دور نظرية أخرى تُدقِّق في القدرة على حفظ المعلومات وتذكُّرها، فلكي يتذكَّر الشخص المعلومات لفترة أطول ينبغي أن يندمج ويتفاعل معها لوقت أطول، وهو ما يتحقَّق عند قراءة الكتاب، خاصة في المجالات العلمية والأكاديمية. (11)
تُبقيك الكتب المقروءة منشغلا بها، فيصعب القيام بمهام أخرى في الوقت نفسه، وقد يكون هذا سبب تفوُّق الكتاب المطبوع على الكتاب الصوتي في تمكين الشخص من حفظ وتذكُّر المعلومات المعروضة. لاختبار ذلك، أجرى الباحثون "دانيل سمايلك" من جامعة "واترلو"، و"جوناثان كارير" من جامعة "بيشوب"، و"تريش سوسا" من جامعة "بريتش كولومبيا"، بحثا لتحليل تأثير نمط قراءة المواد على الشرود الذهني، وتذكُّر المادة، وتقييم الاستمتاع بها، وطبَّقوا على المشاركين ثلاثة أنماط لتناول نص مُحدَّد: قراءة النص بصوت مرتفع، والاستماع له مقروءا بواسطة شخص آخر، وقراءته بصمت، ثم أخضعوهم لاختبار لتقييم تحصيلهم المعرفي، وأظهرت النتائج أن قراءة النص بصوت مرتفع أحدثت أقل قدر من الشرود الذهني، بينما حقَّق الاستماع للنص الحد الأعلى من الشرود الذهني، والحد الأدنى من التذكُّر والاستمتاع بالمادة.
كان هذا البحث برهانا جديدا على أن تجربة القراءة التقليدية تُحقِّق اندماجا أكبر للقُرّاء وشرودا ذهنيا أقل، وأداء أفضل للذاكرة مقارنة بالاستماع للمواد الصوتية، وفسَّر الباحثون ذلك بمقدار النشاط الجسدي الذي تتطلَّبه كل وسيلة، فقراءة المواد يتطلَّب نشاط العين الحركي ونطق المفردات، وبالتالي يتطلَّب تركيزا أعلى فيقل الشرود الذهني. هناك تفسير آخر لذلك، وهو أنه مع زيادة اندماج الجسم في المهمة (القراءة) تكثر العلامات الظاهرة عند حدوث شرود ذهني، وتسهل ملاحظة ذلك، والعودة للمتابعة سريعا (12).
ولهذا علت الكثير من الأصوات التي تؤكِّد أن الكتب الصوتية لن تحل محل المقروءة، خاصة إذا كانت المعلومات متخصصة وعملية وصعبة، لأن ذلك يعني أنها تتطلَّب الكثير من الاندماج الذي يتحقَّق بقراءة الكتب فقط (13)، إضافة إلى وجود فئة من الأشخاص الذين لا يحبون الاستماع للمواد أو النصوص الصوتية، وهؤلاء سيتوجَّهون دوما للكتب المقروءة وسيصعب فرض الكتب الصوتية عليهم، خصوصا في أماكن التعلُّم (14).
تساعد قراءة الكتب أيضا في تعزيز مهارات الاستماع، وتحديدا عند تعلُّم اللغات الأجنبية، فإحدى نصائح خبير اللغات "ستيف كوفمان"، الذي أتقن عشرين لغة، أن تحسين مهارات الاستماع لأي نص يتطلَّب قراءة هذا النص، فهو يعتقد أن النظر إلى الكلمات يقوي قدرة الشخص على تذكُّر الكلمة واستخداماتها (15).
ولمحبي السرعة في القراءة، يبدو أن الكتب المقروءة تتفوَّق على الكتب الصوتية في هذا الجانب أيضا، ففي حين أن معدل قراءة النص للشخص يتراوح بين 250-300 كلمة في الدقيقة، فإن سرعة التحدُّث الموصى بها لتحقيق فهم عند المستمع تتراوح بين 150-160 كلمة في الدقيقة فقط (16).
يبدو الأمر إذن خاضعا للتفضيلات الشخصية ونوع القراءة والهدف منها في نهاية المطاف، فالقراءة لمجرد التسلية مع الرغبة في الاستماع عند تنفيذ مهام مختلفة أو عند مواجهة صعوبة في الحصول على الكتب الورقية أو تحمُّل تكلفتها تناسبها الكتب الصوتية، أما القراءة بهدف التحليل أو التعلُّم، مع الرغبة في العودة للصفحات السابقة، أو استخدام عدد أكبر من الحواس بهدف الانغماس التام في الكتاب، فهذه تنتظر كتابا مطبوعا، ويمكن بلا شك الجمع بين الكتب الصوتية والكتب المقروءة في مكتبتك، فلا ضير في ذلك.
—————————————————————————————
المصادر
- Reading Audiobooks
- The Audiobook Market and Its Adaptation to Cultural Changes
- Audiobook Trends and Statistics for 2020
- The Audiobook Market and Its Adaptation to Cultural Changes
- 10 Amazing Benefits of Audiobooks Every Book Lover Should Know
- المصدر السابق.
- A National Literacy Trust research report
- Audiobooks and literacy
- Does Modality Matter? The Effects of Reading, Listening, and Dual Modality on Comprehension
- المصدر السابق.
- Does listening to audiobooks still count as reading?
- The way we encounter reading material influences how frequently we mind wander
- Why Listening to a Book Is Not the Same as Reading It
- Audiobooks and literacy
- Reading vs. Listening – Which is More Effective for Learning and Remembering
- المصدر السابق.