حسن التهامي.. رجل عبد الناصر والسادات الغامض الذي بنى برج القاهرة
في عام 1882، حطَّت الجيوش البريطانية رحالها في القاهرة بعد انتصارها على الجيش المصري بقيادة أحمد عُرابي باشا زعيم الثورة العرابية، وأحد أهم المطالبين بالإصلاح الدستوري والعسكري في مصر في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر.
كانت هزيمة عرابي واحتلال الإنجليز للقاهرة في سبتمبر/أيلول 1882 بداية لتحولات دراماتيكية في المشهد السياسي والعسكري والثقافي في مصر؛ فسرعان ما سيطر البريطانيون على القيادة العليا للجيش المصري، وقلَّصوا عدد قواته، وأصبحت الحكومة المصرية في ظل وجودهم العسكري والسياسي عاجزة ومُستضعَفة تحت سلطة الاستبداد والاحتلال بقيادة المعتمدين الساميين مثل كرومر وأمثاله، ورغم ظهور حركة وطنية قومية قوية على يد الحزب الوطني الجديد بقيادة "مصطفى كامل" و"محمد فريد" وغيرهما من شرفاء مصر؛ فإن وفاة هذين الرجلين في بدايات العقد الأول من القرن العشرين رسَّخت بقاء الإنجليز واستبدادهم.
وقعت مصر تحت سلطة الانتداب البريطاني رسميا سنة 1914، لكن ثورة عام 1919 أجبرت الإنجليز على قبول بعض الإصلاحات السياسية وكتابة دستور للبلاد ومناقشة مسائل الجلاء وغيرها، وكان من جملة هذه الإصلاحات التي تكلَّلت باتفاقية عام 1936 وما تلاها إعادة قبول المصريين في الكليات العسكرية دون نظر إلى مكانة اجتماعية أو ثقافية، فكان جيل الضباط الأحرار الذين قاموا بانقلاب يوليو/تموز 1952 في مجمله من المتخرجين من دفعات 1937 وما بعدها.
وقصة الضباط الأحرار في مصر مما تحتاج إلى مجلدات لروايتها، فكلٌّ منهم يحتاج إلى تدوين قصته الذاتية، وتتبُّع مناصبه القيادية، سواء ممَّن خالفوا مجلس قيادة الثورة فأُبعدوا وأُقصوا من المناصب الحكومية كافة واضطهدوا وعلى رأسهم اللواء "محمد نجيب" و"يوسف صديق" و"أحمد شوقي" وغيرهم، أو ممَّن عملوا في مفاصل مصر السياسية والعسكرية والحكومية والدبلوماسية.
ضمن الفريق الأخير، يطل الفريق "حسن التهامي" بوصفه واحدا من المنتمين لطلائع الضباط الأحرار ممَّن لعبوا أدوارا محورية داخل مصر وخارجها، في عصرَيْ عبد الناصر والسادات، وقد تسبَّبت شخصيته الجدلية، وأدواره الغامضة، وتصرفاته الغريبة، في إحداث بلبلة لأقرب الناس إليه، فمَن هو حسن التهامي؟ وما علاقته بحركة الضباط؟ ولماذا اختلف مع عبد الناصر؟ ثم لماذا قرَّبه السادات وجعله مبعوثه الخاص ومنحه في النهاية منصب "الفريق الشرفي"؟
النشأة والتأثر بالفريق "عزيز المصري"
في إبريل/نيسان من عام 1924، وفي قرية "أجهور الرمل" مركز قويسنا بمحافظة المنوفية، وُلد حسن التهامي لأسرة ميسورة الحال من فلاحي مصر، وعاش طفولته وفتوته في المرحلة التي تلت ثورة عام 1919 حيث انتفض المصريون ضد الظلم الإنجليزي، وفي ظل حكومة الوفد برئاسة "سعد زغلول" ثم خليفته "مصطفى النحَّاس" باشا، وبعد اتفاقية عام 1936، سُمح للمصريين بالالتحاق بالكليات العسكرية، ولمّا كان حسن التهامي شابا متقدا قوة وحيوية، محبا للمصارعة والقتال، تقدَّم عام 1940 إلى الكلية الحربية وتخرَّج فيها بعد عامين فقط عام 1942 أثناء الحرب العالمية الثانية.
بعد تخرجه، انضم التهامي إلى سلاح المشاة، وكانت قيادة الجيش المصري آنذاك وطنية مخلصة للقضية المصرية، ناقمة كل النقمة على الممارسات البريطانية وتحكُّمها في السياسة والجيش، وعلى رأسها "صالح حرب" وزير الدفاع والفريق "عزيز المصري" (1880-1965). وقد اتبعت مصر آنذاك نهج الحياد في الحرب العالمية، وحاولت مرارا الابتعاد عن المعسكر البريطاني حتى تتجنَّب البلاد ويلات تلك الحروب مع الألمان والإيطاليين، لكن الإنجليز مارسوا ضغوطا لإجبار مصر على الانضمام لهم في نهاية المطاف.
لهذا السبب، وكما يقول المؤرخ الدكتور "جمال الدين المسدّي" في كتاب "مصر والحرب العالمية الثانية": "إن تلك الفترة شهدت تدهورا حادا في العلاقات (المصرية البريطانية)؛ ذلك أن صالح حرب، وزير الدفاع، وعزيز علي المصري، رئيس أركان حرب الجيش، واصلا سياسة تمكين السيطرة المصرية على الجيش، والحدِّ من سيطرة البعثة العسكرية البريطانية عليه، لذلك لم تكن توصياتهما تُقابل دائما بترحاب، يُضاف إلى ذلك أن عزيز المصري، كما يقول كلٌّ من لامبسون (السفير البريطاني في القاهرة) وويلسُن قائد القوات البريطانية (في مصر)، كان يُعبِّر دائما أمام ضباط الجيش المصري عن إعجابه بالعسكرية الألمانية، ويُقلِّل من شأن الجيوش البريطانية والفرنسية"[1]. ولهذا السبب عزله الإنجليز، بل وحبسوه فيما بعد عدة مرات.
شكَّل تمصير الجيش ركنا أصيلا لسياسة الفريق عزيز المصري وفقا للتقارير البريطانية آنذاك، وقد أدرك الضباط المصريون المتخرِّجون في الكلية الحربية حديثا هذه الحقيقة عيانا في الفترة التي تولى فيها عزيز المصري قيادة أركان الجيش، ورأوا مدى الوطنية ومحاولة الاستقلال العسكري عن التبعية البريطانية من قِبَل هذا الرجل، وكان معظم، وربما كل، الضباط الأحرار مؤمنين بدور الفريق عزيز المصري وقوته ومكانته، ومنهم حسن التهامي الذي يقول: "بعد خروج عزيز المصري من المُحاكمة حُبس حبسا انفراديا في سجن مصر، ولإعجابنا بشخصيته كنا نزوره مرة كل أسبوع وهو في حبسه، ويُسهِّل لنا الدخول ضابط صديق من مصلحة السجون"[2].
وبقدوم عام 1940، أزاح البريطانيون الفريق عزيز المصري عن قيادة الجيش، وعاملوه باستهانة وسجنوه، وكان هذا التاريخ هو البداية الحقيقية لتشكيل الخلايا داخل الجيش لمقاومة البريطانيين، وهو ما يؤكِّده "عبد اللطيف البغدادي" أحد أشهر الضباط الأحرار الذي يقول في مذكراته: "لم نجد أمامنا من وسيلة إلا عمل تنظيم سري بين ضباط الطيران والجيش لمقاومة الاحتلال البريطاني، وكان ذلك في بداية عام 1940، وبدأنا في وضع تلك الفكرة موضع التنفيذ"[3].
ثورة يوليو 52 وصعود التهامي
طوال السنوات الاثنتي عشرة التالية، شهدت مصر أحداثا مفصلية بزيادة قمع القوات البريطانية وتدخُّلها سياسيا وعسكريا، وصولا إلى نكبة عام 1948، ومع المرارة التي تجرَّعها الجيش المصري على الجبهة الفلسطينية، نشطت خلايا الضباط الأحرار على اختلاف توجُّهاتهم الفكرية من الشيوعيين والاشتراكيين والإخوان المسلمين وحتى غير المنتمين في تنظيمات سرية لإزاحة الملكية عن مصر، وهو ما تكلَّل بنجاح في انقلاب يوليو/تموز 1952، لتدخل البلاد حقبة جديدة كان فيها العديد من الإنجازات والكثير من الإخفاقات والتحديات والنكسات.
يعترف حسن التهامي في مذكراته الشخصية أن علاقته بعبد الناصر وعبد الحكيم عامر ويوسف صدِّيق وغيرهم من قادة الصف الأول من تنظيم الضباط الأحرار تعود إلى عام 1947، وأنها توثَّقت أثناء حرب 48 حيث كانت كتيبته قريبة من الكتيبة السادسة التي قادها جمال عبد الناصر في قطاع الفالوجة بفلسطين. وكان التهامي منذ ذلك الوقت كما نراه في مذكراته غير مُتهيِّب لجمال عبد الناصر، ويعترف أنه عشية القيام بالانقلاب وبينما عبد الناصر ورفاقه يقرؤون عليه في بيته مبادئ الثورة احتدَّ عليهم واستشاط غضبا.
يقول: "ذات يوم جاء عبد الناصر وعبد الحكيم عامر إلى منزلي في مصر الجديدة، وكانا قد حضرا قبل ذلك عدة مرات، وأخرجَ عبد الحكيم ورقة مكتوبا فيها اقتراحات لمبادئ الثورة، وكان معي في البيت كمال رفعت (أحد الضباط الأحرار) ينتظرهما، وقال عبد الحكيم جئنا نتشاور معكما أولا قبل أن نعرضها على مجموعة الضباط، ولما قرأ عبد الحكيم عامر مبادئ الثورة ثرتُ في وجهه"، بل تعدَّى الأمر كما يقول في مذكراته إلى "الزعيق".
لكن قراءة مذكرات حسن التهامي التي أملاها على الصحفي "محمد سعد العوضي" في القاهرة عام 1996 بعد وفاة كثير من الضباط الأحرار وخروج الكثير من مذكراتهم إلى النور، لا سيما "سامي شرف" و"عبد اللطيف البغدادي" و"جمال حماد" وغيرهم، تحتاج إلى كثير من الهدوء وعدم الانجراف وراء البروباغندا التي يُقدِّمها التهامي عن نفسه، إذ يقول إنه كان "يقلب الطاولات في وجه عبد الناصر" عند أي اختلاف بينهما.
ورغم ذلك، فإن ما يهمنا، بعيدا عن هذه البروباغندا ومحاولات الغموض التي يتصنَّعها الرجل في حديثه، هي أدواره السياسية والدبلوماسية التي قام بها في حقبة ما بعد يوليو/تموز 1952 وحتى نهايات عصر السادات، فقد كان التهامي من المقربين من عبد الناصر، حتى إنه في أزمة مارس/آذار عام 1954، التي وقعت بين عبد الناصر ومحمد نجيب، كان هو مَن كبَّل يد عبد الناصر وعبد الحكيم عامر حتى لا يسمحا بعودة الديمقراطية أو الأحزاب القديمة التي حُلَّت، وقد اتفق الجميع على إزاحة نجيب عن المشهد بأي شكل.
لم يقف دور التهامي في تلك الأزمة عند ذلك الحد، حيث تولَّى مهمة استجواب محمد نجيب وهو رهن الاعتقال في مبنى قيادة المدفعية بألماظة بالقاهرة. يقول نجيب في مذكراته: "فوجئت باليوزباشي حسن التهامي ومعه خمسة من الضباط لا أعرفهم أمامي، قال لي التهامي: لقد اكتشفنا أن خالد محيي الدين ورفاقه الشيوعيين يدبرون انقلابا شيوعيا أنت مشترك فيه. وضحكتُ وقلتُ: أقترح عليك أن توجِّه لي أيضا تُهمة الخيانة العُظمى وأن تُطلق الرصاص. وأحسَّ حسن التهامي بسخرية كلامي فقلتُ له في عنف: إن تصرفكم نحوي الآن يُعدُّ خروجا عن حدود الالتزام بمبادئ الثورة وأهداف الشعب. فإذا به يتراجع ويقول: إنك لست محل شك على الإطلاق. وأحسستُ أن من العبث الاستمرار في الكلام معه، فهو لا يعرف ما يقوله، وهو ضيق الأفق ويُردِّد ألفاظا لا معنى لها"[5].
في تلك الأثناء، كان جهاز المخابرات العامة المصرية قد أُنشئ من بقايا المخابرات الحربية القديمة، وكان من جملة مؤسسيه من الضباط الأحرار "خالد محيي الدين" و"سعد بلبل" و"عبد الفتاح أبو الفضل" وآخرون منهم "حسن التهامي" الذي ينسب تأسيس هذا الجهاز إلى نفسه دون غيره في مذاكرته، لكن سامي شرف مدير مكتب عبد الناصر وكاتم أسراره يذكر فوق العشرين اسما ممَّن ساهموا في وضع اللبنات الأولى لهذا الجهاز منذ يوليو/تموز 1952 وحتى إعلان قيامه رسميا عام 1954[4].
التهامي وبرج القاهرة!
فرضت هتافات الجماهير المصرية وقتها، وقوة سلاح الفرسان المؤيدة للواء نجيب، إعادة الرجل إلى رئاسة الجمهورية قبل الإطاحة به أخيرا في نهايات عام 1954 نفسه، لكن التهامي الذي عمل قائدا من قيادات المخابرات العامة المصرية آنذاك اتجهت به الأقدار إلى مهمة أخرى لا تزال شاهدة على هذا الرجل، وهو إشرافه على بناء برج القاهرة الذي عُدَّ أطول بناء في القاهرة عند الانتهاء منه.
يعترف التهامي أن بناء هذا البرج يُعَدُّ أحد أهم الإنجازات التي قام بها في حياته، فيقول: "فكرتُ وقتها في بناء صرح يفوق في ارتفاعه الهرم الأكبر رمزا لسموّ العهد الذي تعيشه مصر، على أن يكون هذا البرج الشامخ صاحب رسالة، وكنا في وقتها نفكر في تطوير أدوات الحكم في مصر، وكانت إحدى زوايا الركود في العمل مستوى الاتصالات بين مصر والخارج، والاتصالات المباشرة بين أدوات الحكم؛ بين الجيش والوزارات ومراكز العمل الرئيسية في الحكم"[6].
بدأ المشروع عام 1955 وانتُهيَ منه عام 1961، وأصبح برج القاهرة ولا يزال واحدا من أهم مراكز القاهرة السياحية، وأحدث مبنى للاتصالات السلكية واللا سلكية بين مصر والعالم الخارجي حينها. يقول التهامي: "ومن توفيق الله أننا نجحنا في إقناع الشركة الألمانية لإعطائنا أجهزة التشفير والحل غير القابلة للكسر"، أي كسر الشفرة[7].
لكن اللافت أن بناء هذا البرج كان بأموال أميركية قُدِّمت هدية لمصر قيمتها 3 ملايين دولار، وهو مبلغ ضخم للغاية في ذلك الحين، وكان التهامي هو المسؤول عن تسلُّم هذه الأموال وإنفاقها على مشروع البرج، وهنا يأتي السؤال الذي طالما حيَّر الكثيرين وهو: لماذا قدَّمت الولايات المتحدة آنذاك هذا المبلغ الضخم لمصر؟ ولماذا كان التهامي على رأس المشرفين على هذا المشروع ماليا وإداريا؟
أجاب العديدون عن هذا السؤال المحوري الذي يتخطى مسألة البرج إلى الكشف عن العلاقات المصرية الأميركية في ذلك التوقيت، وكان "مايلز كوبلاند"، عميل وكالة المخابرات الأميركية في مصر ومسؤول ملف الشرق الأوسط فيها، قد ذكر في كتابه "لعبة الأمم" أن دائرة ضيقة من تنظيم الضباط الأحرار، وعلى رأسهم عبد الناصر وحسن التهامي، كانوا على اتصال بالأميركيين في مصر، وأن هذا الاتصال أثمر عن شلِّ أركان القوات الإنجليزية عن التدخُّل لحماية الملك والملكية إبَّان انقلاب يوليو/تموز 1952، وأن أميركا هدفت من وراء هذا الأمر إلى إزاحة النفوذ البريطاني عن الشرق الأوسط في ظل إستراتيجيتها المتبعة آنذاك بعد الحرب العالمية الثانية.
كان مجموعة من الضباط الأحرار على رأسهم ضابط المخابرات حسن التهامي قد تواصلوا مع الأميركيين وعملائهم في القاهرة، بعدما أدرك جمال عبد الناصر قوة الولايات المتحدة ونفوذها بعد الحرب العالمية الثانية. وقد وثَّق كوبلاند العديد من هذه اللقاءات التي حدثت عامَيْ 1953-1954 في كتابه السابق الإشارة إليه، منها لقاء خاص في بيته بالقاهرة في مارس/آذار 1954، تُطرِّق فيه إلى حلف بغداد وإستراتيجية الولايات المتحدة وبريطانيا تجاهه[8].
يدَّعي مايلز كوبلاند أن المساعدة الأميركية التي قُدِّمت لمصر وُجِّهت بواسطة عبد الناصر لبناء برج القاهرة ليكون رمزا للعصر الجديد، وتطويرا لمنظومة الاتصالات اللا سلكية بين مصر والعالم، ونظرا لأن الدعم كان أميركيا خالصا، أطلق كوبلاند على برج القاهرة "وقف روزفلت"[9].
بيد أن حسن التهامي يدحض هذه الادعاءات في مذكراته، ويعتبر كتاب كوبلاند في معظمه نوعا من الدعاية الأميركية السوداء، دون أن ينفي أن مبلغ الـ3 ملايين دولار سُلِّم لعبد الناصر بالفعل، ولكنه خُصِّص كما يقول "من أجل تنفيذ خطة تأمين عبد الناصر بشراء السيارات المصفَّحة والأسلحة الصغيرة الخاصة بطاقم الحراسة، وشبكة الاتصالات الداخلية المركَّبة في السيارات"[10].
قلعة الأسرار
افتُتح البرج رسميا في إبريل/نيسان 1961، ويخبرنا التهامي أنه عمل طوال هذه الفترة على راحته دون تدخُّل من أحد، بل "كان عبد الناصر دائما يقول لأعضاء مجلس قيادة الثورة: مالكوش دعوة بحسن التهامي لأنه لن يغيّره أحد، وليفعل ما يراه دون اعتراض أحد منكم ولا الوزراء، حسن التهامي ليس مشكلة بالنسبة لي لأن وطنيته هي هدفه الحقيقي في حياته وليس له مطالب". هكذا يخبرنا التهامي في مذكراته بافتخار وسرور.
لكن وطنية التهامي التي ادّعاها في مذكراته لم تمنع عبد الناصر من الانقلاب عليه، بل والسعي لقتله بحسب اعترافه في المذكرات ذاتها "لأن بعض المغرضين أوقعوا بينهما بالكذب والتضليل"، وقد اضطر بالاتفاق مع عبد الناصر فيما بعد أن يترك مصر ويُعيَّن مُمثِّلا للقاهرة لدى منظمة الطاقة الذرية في فيينا بالنمسا في الفترة بين عامَيْ 1961-1968، وهي الفترة التي شهدت زيادة نفوذ الفريق عبد الحكيم عامر على حساب عبد الناصر، لكن حقيقة الخلاف يكشفه اللواء عبد الفتاح أبو الفضل ونائب مدير المخابرات العامة وقتها.
يخبرنا أبو الفضل أن حسن التهامي، بعد الانتهاء من بناء برج القاهرة، خصَّص لنفسه الدور الأول فيه، وأحاطه بالسرية والحراسة المُشدَّدة والأسوار العالية، ويقول إن ضباط جهاز المخابرات المصري لم يكونوا على علم بما يقوم به التهامي في "قلعة الأسرار" كما وصفها، لكن بعد العدوان الثلاثي على مصر وارتقاء "علي صبري" إلى رئاسة الجهاز، وصلت أخبار إلى عبد الناصر بأن التهامي كان يتجسَّس عليه شخصيا مما أثار نقمته فأمر بإخراجه بالقوة المسلحة من برج القاهرة، وقد اكتشفوا أن التهامي سجَّل لجميع كبار الشخصيات والوزراء بتكليف من عبد الناصر[11].
يتساءل أبو الفضل في اندهاش واستغراب: "كان من المفروض أن يُجازى حسن التهامي على الأقل بإبعاده عن المراكز الحساسة بعد كشف تجسُّسه على مكالمات رئيس الجمهورية، ومع ذلك فقد نُقل حسن التهامي مُعزَّزا مُكرَّما للعمل برئاسة الجمهورية وفي أعمال لا يعلمها أحد، وفي هذه الفترة تظاهر بالتدين الشديد وأطلق لحيته ثم أرغمه عبد الناصر على إزالتها"[12].
سافر التهامي إلى فيينا ثم عاد إلى القاهرة بعد النكسة بطلب من عبد الناصر الذي عيَّنه في عدة وظائف منها وزير الدولة، وسكرتير عام منظمة المؤتمر الإسلامي، وقرَّبه منه بشدة، وقد اندهش "أمين هويدي" مدير المخابرات المصرية (من أغسطس/آب 1967 إلى إبريل/نيسان 1970) في مذكراته من تعيين التهامي وزيرا بعد النكسة وهو الذي ادَّعى الدروشة والتواصل مع سيدنا الخضر، بل وهو الذي تجسَّس على عبد الناصر، فيقول: "ولا تسألوني لـمَ استوزره عبد الناصر؟ فهذا سؤال يُضاف إلى عشرات الأسئلة التي تحيِّرني ولا أجد لها جوابا، وعزائي أنني لست وحدي في حيرتي"[13].
الدرويش وموشى ديان والنهاية
عند وفاة عبد الناصر في سبتمبر/أيلول عام 1970، يذكر حسن التهامي أنه شكَّل عضدا وسندا لأنور السادات في مواجهته لمراكز القوى، وهو مصطلح يُقصد به رئيس الوزراء "علي صبري"، ووزير الداخلية "شعراوي جمعة"، ووزير الحربية "محمد فوزي"، وآخرون ممَّن سيطروا على مراكز القوى في البلد آنذاك. وقد زعم أنه هو صاحب الفضل الأكبر في حسم مسألة الرئاسة لصالح السادات بُعيد وفاة عبد الناصر بساعات، ولعله لهذا السبب عيَّنه السادات قاضيا في محاكمة "مراكز القوى" تلك، التي انتهت بالقضاء عليهم وسجنهم، بل إن السادات قرَّبه أكثر من ذلك ليصبح المسؤول الأهم عن إدارة علاقته مع الأميركيين والتواصل مع الإسرائيليين بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
يقول عبد الفتاح أبو الفضل، نائب مدير المخابرات المصرية الأسبق، مندهشا ومُستفسرا: "والأخطر من كل هذا أن يعين أنور السادات حسن التهامي ذا الشخصية المهزوزة في الظاهر والغامضة في الباطن في الوفد المصري للتفاوض مع إسرائيل في قلعة ليدز في بريطانيا، ثم يعينه في وفد المفاوضات الرسمي في كامب ديفيد، وكان له مكانة عند السادات أثناء المفاوضات الجانبية تفوق صلاحيات وزير الخارجية المصري محمد إبراهيم كامل الذي استقال من قبل إبرام اتفاقية كامب ديفيد"[14].
تواصل التهامي مع موشى ديان، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، شخصيا، كما التقى بوفد إسرائيلي قُبيل اتفاقية كامب ديفيد في المغرب، وفي عام 1977 منحه السادات رتبة الفريق الشرفي، بل وعيَّنه نائبا لرئيس الوزراء قُبيل وفاته، وفي أوائل عصر مبارك استُغني عن خدمات الدرويش الغامض حسن التهامي الذي لعب فيما يبدو دور أداة الاتصال المصري بالأميركيين في أشد لحظات الناصرية قوة وعنفوانا، ثم عاد في عصر الانفتاح ملكا متوَّجا مقرَّبا من السادات لا يكاد يخفت الضوء عنه، قبل إحالته للتقاعد في عهد مبارك، وقد توفي بالقاهرة عام 2009 عن عمر ناهز السادسة والثمانين عاما.
——————————————————————————————
المصادر
- مصر والحرب العالمية الثانية ص190.
- محمد العوضي: حسن التهامي يفتح ملفاته ص23.
- مذكرات عبد اللطيف البغدادي 1/12.
- مذكرات سامي شرف ص20
- محمد نجيب: كنت رئيسا لمصر ص234.
- مذكرات حسن التهامي ص36.
- السابق ص38.
- مايلز كوبلاند: لعبة الأمم ص124.
- السابق ص145.
- مذكرات التهامي ص40.
- عبد الفتاح أبو الفضل: كنت نائبا لرئيس المخابرات ص174.
- السابق نفسه.
- أمين هويدي: مع عبد الناصر ص80.
- عبد الفتاح أبو الفضل: السابق ص176.