ذاكرة مدينة التهمتها النيران.. هبّة شعبية لإنقاذ سوق الحناء بقابس التونسية
تونس- قابس – اعتاد عادل مرابط صباح كل يوم فتح دكانه في سوق الحناء التقليدي بمحافظة قابس التونسية (جنوب شرقي العاصمة) بتحية زملائه وجيرانه التجار في هذا السوق العتيق، فينفض الغبار عن معروضاته ويرتبها ويرصفها بعناية شديدة تسرّ الزوّار والناظرين.
دأب عادل منذ 30 سنة في سوق جارة (نسبة إلى منطقة جارة) على بيع المنتجات التقليدية التي تختص بها قابس عن بقية المحافظات والمصنوعة يدويا وأساسا من سعف النخيل؛ من قفف ومظلات ومراوح إضافة إلى مرقوم (مفروشات) قابس الأصيل.
اقرأ أيضا
list of 1 itemلم يمر صباح يوم عيد الفطر الموافق للثاني من مايو/أيار الجاري سعيدا على تجار السوق وسكان قابس ولا على أبناء الشعب التونسي الذين فُجعوا بكارثة حرق السوق حيث أتت النيران على 23 دكانا والتهمتها بالكامل وحولتها في رمشة عين إلى رماد منثور.
مصاب جلل
كان عادل محظوظا لأن دكانه نجا من هذه المأساة ولكن الألم مشترك والمصاب جلل؛ فالسوق تراث جماعي والمصلحة عامة والضرر واحد نظرا للتعاملات المتبادلة بين التجار، كما يؤكد للجزيرة نت.
بحسرة شديدة، يسترجع مرابط (56 سنة) حركة السوق الكثيفة قبل شهر رمضان الكريم باعتباره مصدرا جاذبا للسياحة الداخلية ومقصد المواطنين من كل المناطق التونسية يأتونه أفواجا بعد تمتعهم بفوائد المياه الحارة والاستشفائية المشهورة بها منطقة الحامة في قابس.
سُمّي وعُرف كذلك بسوق الحناء، ففيه تُعرض أجود أنواع الحناء الطبيعية والصحية التي تنتجها قابس وهو مقصد الفتيات المقبلات على الزواج وأمهاتهن حيث يجدن ضالتهن وحاجاتهن من كل أنواع البخور والمفروشات التقليدية و"كنسترو" (نوع من الصناديق) حفل الخطوبة.
تراث وطني
يشدد عادل على أن احتراق معلمهم الأثري خلّف حرقة ولوعة عميقتين في نفوس التجار والمواطنين على حد سواء لأنه تراث وطني وليس جهويا فحسب، مطالبا السلطات بالتسريع في إعادة ترميم السوق وإصلاحه وفقا لمواصفاته العمرانية التقليدية للمحافظة عليه وجهة ثقافية وسياحية للمنطقة.
كما دعا عادل إلى توفير مصادر السلامة لتدخل أعوان الإسعاف والحماية المدنية في السوق عند حدوث مخاطر وإلى تنظيمه "لأن السوق كان يعاني من الاكتظاظ والانتصاب الفوضوي بشدة"، حسب تأكيده.
ويتكون سوق الحناء من جزأين اثنين: الأول داخلي أُحدث في العهد العثماني سنة 1820 على طريقة العمارة العثمانية ويمتاز بأقواسه الأثرية وبدكاكينه الصغيرة الشكل والحجم، والثاني خارجي أحدث في السبعينيات بعد استقلال تونس، كما يوضح عبد المنعم مرابط نائب رئيس اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية بقابس للجزيرة نت.
مصدر رزق
يضم السوق الأثري قرابة 43 دكانا وهو مصدر رزق وعمل لكثير من الأسر في المدينة، وكان قديما مسرحا لتجارة العبيد وهو مركز تسوق لإقليم الجنوب الشرقي كله، وفق المصدر نفسه.
ويحتل سوق جارة المرتبة الثانية وطنيا من حيث عدد الدكاكين المتخصصة في الصناعات التقليدية بعد المدينة العتيقة في العاصمة تونس.
يصف عبد المنعم سوق الحناء بأنه فسيفساء من الصناعات التقليدية لأنه يعرض كل ما تنتجه الواحة في قابس ومعتمدياتها (13 منطقة)، إذ تنفرد كل منطقة بصناعاتها التقليدية الخاصة بها ويعرضها تجارها في هذا السوق الجامع العابق بروائح الماضي.
وتجد في سوق جارة النسيج الجبلي من مطماطة والفضة من قابس المدينة وشط السلام والقفة والمروحة من الحامة و"الكنسترو" من شنني والسمار من المطوية ووذرف.
هبّة شعبية
احترق السوق واحترقت معه قلوب سكان قابس والتونسيين كافة، فتجمّعوا وتوحّدوا تحت شعار واحد يقول "سيعود أحسن مما كان"، وتطوع خبراء من أبناء المنطقة وأنهوا الاختبارات الضرورية لحصر الأضرار، وأعلن رسامون مصممون في هندسة العمارة تطوعهم للمساعدة في إعادة ترميم السوق.
كما فتحت بعض الجمعيات حسابات لقبول التبرعات للإسهام في إعادة تهيئة سوق الحناء، في حين توافد أهل الثقافة والفن من العاصمة تونس على مهرجان "قابس سينما فن" السنوي الذي تحتضنه المحافظة من السادس حتى 12 مايو/أيار الجاري وزار عدد منهم السوق وشجعوا على التبرع لإنقاذ هذا التراث العريق.
يذكر أن وزارة الشؤون الثقافية التونسية أعلنت تكوين خلية أزمة خاصة بالحريق لتقدم نتائجها يوم السادس من مايو/أيار الجاري، كما أعلنت "تعهد مصالح المعهد الوطني للتراث بإعداد الدراسة الفنية التي ستراعي طابع العمارة التقليدي وشروط المحافظة الوقائية للمعلم والإشراف على الترميم".