سماء بديا
على الطريق الترابية بنادق ورشاشات على أكتاف رجال اتّشحوا بمعاطف شتوية موحدة، وعلى رؤوسهم حطّة أهل البلاد.
مقدمة
انتهت حرب 1947-1949 باحتلال معظم فلسطين، وبمجرد أن هدأ الرصاص، حتى بدأت محابر المستعمرين الجدد في تدوين سردياتهم للحرب.
أحد أبرز تلك السرديات في حينها، كانت بطولة مدّعاة لأحد "المستعربين"، والذي حاول أن ينسب لنفسه مجموعة من الصور التي كانت تعرض صور وأسماء مجموعة من قادة المقاومة وقتها، وفي طليعتهم عبد القادر الحسيني. وهي صور ثبت أن من صوّرها هو المصور المقدسي خليل إبراهيم رصاص، والذي تصدّرت صوره عن الأعمال العسكرية الصحافة المحلية والعربية.
لكن هذا "المستعرب" -الذي سنكشف قصته في هذا المقال- قام بتوظيف تلك الصور، التي ادّعى ملكيتها، بوصفها جزءا من عملية أمنية قادها لاختراق المجتمع الفلسطيني ومقاتليه، والتجسس عليهم، وهو ما لم يثبت تاريخيا.
هذه المقالة تتبع حكاية هذه الصور التي تحكي جانبا من مشاهد الحرب، مشهد البطولة، مشهد النهب، وتخرق بعض المعرفة الاستعمارية المتعلقة بالحرب وتبرز زيفها. وفي مقابل تلك الرواية، نحاول إبراز قيمة المعرفة المحلية وصدقها وتجسيدها للتاريخ كما كان.
على الطريق
سماء متلبدة بغيوم يناير/كانون الثاني، وفي الأفق بيوت يبرز منها بيت مميز سقف عليته بقرميد، وعلى الطريق الترابية بنادق ورشاشات على أكتاف رجال اتّشحوا بمعاطف شتوية موحدة، وعلى رؤوسهم حطّة أهل البلاد.
على الطريق ذاته سار عبد القادر الحسيني ومسدسه على وسطه، وإلى يمينه قاسم محمد الريماوي، أمين سره، يحمل أوراقا طويت في يده، وعن يساره أحد قادة كتائب الجهاد المقدس المعلنة حديثا، مالك الحسيني. سبقهم كامل عريقات، أحد قادة منظمة الشباب العربية سابقا، وقادة الجهاد المقدس، وفي أقصى يسار الحسيني الشهيد رجال الجهاد المقدس، ومقابلهم حشد من الأهالي شبانا وشيبا.
لم يكن هذا إلا جزءا من صور لقادة ورجال الجهاد المقدس خلال الأسابيع الأولى من حرب أهل فلسطين الكبرى ضد المشروع الصهيوني في ديسمبر/كانون الأول 1947. هذه الصور كانت منطبعة في ليلة من ليالي أكتوبر/تشرين الأول 1972 في ذهن قاسم الريماوي في أحد أيام أكتوبر/تشرين الأول 1972، بينما كان جالسا بين يدي آلة طباعة محبرا مقالته الحادية عشرة، ضمن سلسلة مقالات أتت في ظاهرها ردا على صدور كتاب "O Jerusalem".
بدأتْ المقالة الجديدة بالحديث عن الجري وراء السلاح في دمشق، أيام الاشتباك الأولى في ديسمبر/كانون الأول 1947. ثم بوصف طريق تهريبه ليصل إلى المخزن رقم 4 في بلدة بيرزيت، وكان رفيق الرحلة الدكتور رفعت محمود عودة، والشيء بالشيء يذكر، فوداع عودة بعد إيصال السلاح إلى بيرزيت استدعى ذكر اللقاء الجديد به، فبعد أسابيع قليلة كانت جولة المصالحة الوطنية التي قام بها الشهيد عبد القادر الحسيني في لواء نابلس.
تحدث الريماوي عن الجولة بوصفها تصحيح "خطأ"، وتعلم من تجربة ماضية، إذ كانت الجولة لتجاوز ثغرة نفذ منها البريطانيون لإفشال ثورة أهل البلاد الكبرى 1936-1939. وللاستعارة هنا غرضها البعيد. وعلى أهميتها وقيمتها لفهم سبب تدوين الريماوي لنصوصه الجديدة، لم تكن هذه المرة أهم ما لفتَ انتباهي، فذكرُ "بديا" -بلدة رفعت عودة، موضع لقاء الحسيني الشهيد بأهالي قرى الزاوية وكفر الدين وبروقين ورافات ودير بلوط- استدعى ذكر قصة أول وأبرز صور للجهاد المقدس قادة وجندا.
استطرد الريماوي في مقالته، فكتب:
"وفي قرية بديا، حضر المصور السيد رصاص من القدس موفدا عن مجلة المصور وبعض المجلات المصرية، وطلب التقاط بعض الصور لنا، فسمح له عبد القادر بذلك، وأذكر أننا قمنا باستعراض عام للمجاهدين، وقد سار كاتب هذه السطور والسيد كامل عريقات في مقدمتهم، كما التقطت إلينا صورة أخرى ونحن نحيط بالقائد الشهيد.
نشرت مجلة المصور والمجلات الأخرى هذه الصور وأبرزتها، وقد عممت بشكل واسع قبل وفاة الشهيد عبد القادر وبعد وفاته. كما أن بعض الصحف اليهودية قد نشرتها، فلقد وقعت في يدها نسخ منها في معركة باب الواد".

وأضاف الريماوي، مخاطبا لحظته -1972- بأن خطتهم كانت تقوم على العمل الصامت، دون ضجة أو تهويل ومبالغة، فالعمل يتوجب أن يتكلم عن نفسه. إلا أن هذه الصور كانت استثناء، وإن أصر أصحاب الصور أن لا تُذكر أسماؤهم عند نشرها. إلا أن هذه الرغبة بالعمل الصامت كانت لها سلبيتها، كتب الريماوي: من المؤسف أن يستغل البعض هذه الناحية فيتقمصون شخصيات المجاهدين، بل وأبطال الجهاد، ويزورون الحقائق ويزعمون أمجادا لا ناقة لهم فيها ولا جمل ويشوهون الحقائق.

خواطر وظنون
صُدمتُ بقصة المستعرب الذي سبق الناس لجثة عبد القادر الحسيني الشهيد، وسرّب أسرار مقاتليه وصورهم إلى الهاغاناه.
بكل تأكيد لم يكن قاسم الريماوي في هذه اللحظات يطالع صورته مفترشا والشهيد عبد القادر الحسيني وقادته كامل عريقات ومالك الحسيني الأرض يطالعون خريطة ما بين صخور احتضنت رشاشات وبنادق بضعة مقاتلين من الجهاد المقدس، التي تصدرت بمعية صورة الشيخ ياسين البكري على أسوار البلدة القديمة معظم الصفحة السادسة عشرة من إصدار أسبوعية "ليشاه (le'isha)" العبرية يوم 3 سبتمبر/أيلول 1973. كما لم يكن قادرا على مطالعة مقالة يعقوب إيدن "إيلي كوهن سنة 1948، في شهري "بمعرخاه (bema'arka)" في مايو/أيار 1974.

هذا ما يخطر لي الآن وأنا أخط هذه الحروف محاولا استدعاء مشهد قاسم وحسرته على تزييف التاريخ وسرقة الأمجاد. أما خاطري الأول يوم قرأت قصاصات مقالة الريماوي في الدستور، خط على هامشها العلوي "الدستور، ص 4، العدد 1880، تاريخ 16/10/1972"، قبل عقد من الزمان؛ فكان "هل يسرائيل نيتح سارق؟، وإن كان كذلك فماذا عن حقيقة بطولة المستعرب؟!".
هذا الخاطر دفعني لغوغلة سريعة، فقبل سنوات من وقوع نص قاسم بين يدي كنت قرأت احتفاء الصحافة العربية بكتاب لمن قيل إنه مستعرب صهيوني يدعى يسرائيل نيتح، بعنوان "وطني إسرائيلي"، يحكي فيه قصته كـ"إبراهيم السيد" خلال حرب 1947-1949.
وصلت لإحدى مقالات الاحتفاء، والصدمة بقصة المستعرب، الذي سبق الناس لجثة عبد القادر الحسيني الشهيد، وسرّب أسرار مقاتليه وصورهم إلى الهاغاناه. ووجدت صورة لنيتح العجوز يستعرض ألبوم صور فيه مجموعته من مقاتلي الجهاد المقدس، لم تكن الصور غريبة عني يومها، إذ سبق أن نشر جزء منها إلكترونيا من قبل أرشيف البالماح، الذي أهداه نيتح بعض الصور. وكان أول البحث، هل سرق نيتح الصور من جثة شهيد باب الواد؟

طلبتُ سريعا من أحد الأصدقاء استعارة نسخة الكتاب لقرصنتها، ولما وصلت هالني أن كل الصور الأيقونية لمقاتلي الجهاد المقدس خصوصا، ولعموم المقاتلين العرب خلال الحرب، تحتل -بإخراج بصري جميل- صفحات الكتاب، ويبرز نيتح ما يقول أنه مناسباتها. يومها لم أكن أعرف من العبرية شيئا، أعجبتني الصور، وقررت استخدامها في مقبل الأيام، إذ كان بحثي عن نصوص قاسم الريماوي في أوله.
ركنتُ المشروع قليلا، إذ لم أعثر على ما كنت أبحث عنه، لم أوفق في الحصول يومها على كامل مقالات الريماوي في الدستور، التي دلني عليها سليمان الموسى في هامش ترجمته لكتاب يا قدس، ولم أوفق في إيجاد جواب متصل بمخطوط كتبه الريماوي بعد خروجه من فلسطين نهاية الحرب عن الشهيد عبد القادر الحسيني، وكنت قرأت في هامش كتاب أنه حفظ لدى أسرة الشهيد في القاهرة. وانشغلت يومها في البحث عن قوت العيال، وفي حكاية أخرى من حكايا سلاح أهل البلاد وأهله، حكاية حماة الأقصى، أو من صاروا بعد ذلك حامية يافا.
مضى الزمن، وصرتُ أفك الحرف العبري، وأتسلى بمطالعة بعض ما كتب في "وطني إسرائيل"، قرأت التعقيبات التوضيحية على بعض الصور، وعناوين صحف تحتفي بـ "مصور العصابات العربية اليهودي"، وأحاول تحري الوجوه بحثا عن هوية من لم أعرف يومها من مقاتلين. يومها عرفت قاسم الريماوي وعرفت عبد القادر الشهيد وكامل عريقات، وظننت أن رابع الناظرين في الخريطة المفروشة على التراب الشهيد إبراهيم أبو دية، فالوجه قريب من وجه مقاتل ممتلئ قالت صفحة أرشيف البالماح أنها تعود للشهيد أبو دية.
تركت الكتاب الذي لم تسعفني عبريتي يومها لاستكمال النظر فيه، وأبحرت في يافا، وبعد شهور قادتني الرحلة إلى بيروت، لأنقب مجلة فلسطين، لسان حال الهيئة العربية العليا، صدمت بالأرشيف المصور لمقاتلي البلاد المنشور على صفحات المجلة، وجدت صورة لإبراهيم أبو دية بمعية عدد من المقاتلين وهو على سرير الشفاء في بيروت، شاب ضعيف، لا تشبه الصورة المنسوبة لأبو دية في أرشيف البالماح، والتي كانت تتداولها كثير من الصفحات العربية على وسائل التواصل الاجتماعي يومها.
قلت لعله أثر المرض، فالصورة بعد سنين من العلاج إثر إصابته في معارك القدس، وما إن تصفحت أعدادا أخرى حتى وجدت صوره لأبو دية بمعية الشهيد الحسيني أثناء الحرب، فعلمت أن صورة البالماح بالتأكيد غير دقيقة، وأن من افترض أنهم يعرفون لا يعرفون، وإنما يهرفون. خلال ذلك كنت قد وصلت إلى نصوص قاسم الريماوي التي كنت عارفا بها والتي لم أعرف، وكان البحث عن صور تعزز محتوى كتابي عنها. وكجزء من ذلك، وصلت لنسخة من كتاب رونا سيلع لمعاينة الجمهور -ترجم إلى العربية في 2018 عن مركز مدار- والذي ضم عددا من صور الجهاد المقدس.
كتبت سيلع عن نيتح بأنه مصور التقط صورا للمقاومة الفلسطينية العسكرية أواخر الأربعينات، وتحكي قصته مستشهدة بكتابه، وبمقابلة أجرتها معه قبل وفاته عام 2008، وتضيف أنه أتلف النيجاتيف الخاص بصوره خشية أن تضبط، ولم يتبق معه إلا صور مطبوعة.
وعقّبت سيلع في هامش أخير، متسائلة عن كيفية وصول الصور إلى نيتح، مع أنه نقلها وفقا لشهادته إلى الهاغاناه، ولماذا لم ينقل لأرشيف البالماح إلا عدة صور. وأضافت سيلع: "التشابه وأحيانا التطابق بين صور نيتح التي وجدت في بيته، وصور المصور الفلسطيني خليل رصاص؛ تثير بعض الأسئلة. وقد شهد نيتح بأنه قام بتحميض الأفلام في دكان صغير في البلدة القديمة، ومن الممكن أن نيتح حمض الأفلام في أستوديو رصاص، وحدثت بلبلة بين صوره وصور رصاص عن طريق الخطأ. أي أن جزءا من الصور لنيتح والجزء الآخر لرصاص. ومن الممكن أيضا أن نيتح كان مستعربا واشترى الصور من أستوديو رصاص (التي صورها رصاص)، وأعطى الصور للهاغاناه كمعلومات استخباراتية".
شكّت سيلع في رواية نيتح، وحاولت التوفيق بين قصته بوصفه "مستعربا"، وتناقضات الصور التي بدأت تظهر.
الرواية التي تتبدّل
مضى الزمان، ونشرت هآرتس خبرا في ديسمبر/كانون الأول 2018 يتحدث عن الكشف عن مئات من الصور، في 4 ألبومات، "أنقذها" موشيه كارمل في "حرب الاستقلال"، لم يكن الأخير إلا عضوا في منظمة إيتسل الصهيونية، وأخذ الصور التي كان بعضها من قسم التصوير الفوتوغرافي في الأميركان كولوني في القدس، والآخر ختم بأختام إبراهيم رصاص وخليل رعد. تبرعت أسرة كارمل لمعهد يتسحاق بن تسفي في القدس، حيث تم رقمنتها وإتاحتها للباحثين.
تصفحتُ الصور سريعا على موقع الأرشيف، بعضها كان قد نشر في كتاب سيلع، ونسب إلى نيتح، وكان لفتَ انتباهي في هذه المجموعة التي نشرتها سيلع أن أزياء المقاتلين في الصور متشابهة جدا، كأنها التقطت في يوم واحد، لكن وصف الصور أحال بعضها لاستعدادات معركة غوش عتصيون في يناير/كانون الثاني 1948 وأحال أخرى إلى الاستعدادات السابقة لمعركة القسطل في أبريل/نيسان 1948.

اشتريتُ من المجموعة الجديدة، التي رقمنت في أرشيف صور معهد يتسحاق بن تسفي، 20 صورة من صور الجهاد المقدس، بجودة تأذن بتفحص عناصر الصورة. وجدتُ عددا من الأبنية في خلفية المقاتلين، قلتُ لعلها بيوت "بديا" التي أشار قاسم الريماوي إلى أن صورا للجهاد المقدس التقطت فيها.
تواصلتُ سريعا مع صديق من بلدة بديا، وأرسلت له صورا للأبنية الظاهرة في خلفية الصور، لم يعرف أول الأمر المنازل، ووعد بالسؤال، عاد لعدد من كبار البلدة فدلوه على البيوت الظاهرة في الصور سريعا.
انقطعتُ عن الصديق لاعتقاله، إلى أن تواصلت مؤخرا مع المهندس سامر أبو زر، إذ كان اعتقادي بأن إمكانية بقاء أحد المباني الظاهرة في الصور ما زالت قائمة، خصوصا المبنى المتفرد بسقفه، إذ يظهر وكأن المبنى حديث مقارنة بالمباني القائمة.
عاد لي سامر بمجموعة من الصور للمبنى الذي اتضح أنه يعود لصادق الحاج محمود أبو حجلة، ووفقًا لبيانات سجل رواق للمباني التاريخية في فلسطين، فإن المبنى بُني على مرحلتين، أولى في عام 1850، والثانية التي بني فيها طابق علوي مكون من علية وشرفة فقد بُنيت عام 1920. وظهر أن جميع الصور التقطت في شارع بديا الرئيسي، من أمام معصرة دار موسى شحادة.

بدأت تاليًا التواصل الأول مع صديق من بلدة بديا، وقبل الحديث مع سامر وحسم موضع الصور بدليل مادي ملموس، قمتُ بتحرٍّ لصور رصاص المنشورة في الصحف المصرية، الأهرام والمصور، فوجدت أنها نشرت مبكرا ولم يكن أي من صور الحسيني الشهيد ورجال الجهاد المقدس التقط في أبريل/نيسان 1948. ووجدت إحدى هذه الصور وقد تحولت لملصق الشهيد الحسيني الأبرز، وتصدرت غلاف المصور المصرية يوم 30 أبريل/نيسان 1948.
آمنت سيلع بما كتبه نيتح، وحاولت أن تبرر تناقض ما قدم، مع مطابقته بعض صوره لصور رصاص، ولم تكن صور رصاص المنهوبة من كارمل قد نشرت بعد. رغم أن نيتح أصر على أنه المصور، وأنه من جهز الصور، وأصر على إتلافه للنيجاتف، وهذا يمكن اعتباره مؤشرا على عدم دقة روايته عن الصور. لكن من قد يختلق في نسبة الصور إلى نفسه، يُرجّح أن يختلق في كل القصة! هنا عدت مجددا لنيتح بعدما صرت موقنا بأن جميع الصور الخاصة بمقاتلي الجهاد المقدس وقائدهم الحسيني الشهيد التقطت في بلدة بديا، وأن الصور الأخرى التي التقطت لمقاتلين آخرين في القدس أو في شمالي فلسطين لم تكن إلا لخليل رصاص.
وبدأتُ بتتبع روايات نيتح، إذ لم يكن نصه "وطني إسرائيلي" إلا رواية من روايات تبدلت بعض عناصرها بتبدل الزمان وموضع النشر.
تفكيك حكايا
يحكي نيتح في كتابه أنه ولد عام 1918 لأسرة يهودية في عكا، ولظروف العائلة الصعبة انتقلت عام 1920 للاستقرار في دمشق حيث نشأ وترعرع، قبل أن يعود ليستقر في مستوطنة تل أبيب. في روايته هذه يحاول نيتح أن يضع نفسه في كل نشاط مركزي من الأنشطة المؤسسة لمجتمع المستعمرة، فأولا يتحدث عن مشاركته عمه في تهريب يهود دمشق إلى فلسطين، قبل أن يلتحق عام 1935 بالهاغاناه، المنظمة العسكرية الصهيونية الأبرز.
أثناء ذلك، يتعرف على شخص يسمى محمود الحسيني في الحمة، ادعى الحسيني أنه ناشط في مخابرات الهاغاناه، وأنه يعرف ويعرف، فتشكك نيتح، إلى أن جاء يوم حادَث فيه الحسيني موشيه شاريت هاتفيا طالبا لقاءه بمعية نيتح في أحد مقاهي تل أبيب، قدم شاريت مسؤول الملف السياسي في الوكالة اليهودية، وأحد أبرز أركانها، ختم شاريت اللقاء بحديث لنيتح: "إنه منا، ثق به".
وفي أجواء الغروب، تآخى نيتح ومحمود الحسيني بالدم على شاطئ يافا. وبعد حين، وبينما كان محمود ونيتح في زيارة للقدس، بدأت المواجهات، واضطرا للبقاء فيها. تواصل محمود مع قيادة الهاغاناه في تل أبيب، وأخبر نيتح بقرار القيادة ببقائهما في القدس للتجسس، فتوجها إلى السوق واشتريا كاميرا وزيّا يشبه زي "العصابات" العربية، وفي الشيخ جراح التقى في أحد منازل عائلة الحسيني بعبد القادر الحسيني الذي سيصير زعيمها.
قصة محمود وقصة التآخي هنا، ومركزية محمود في نشاط نيتح التالي في الهاغاناه، والتي حضرت في قصته المنشورة في "ليشاه (le'isha)" يوم 3 سبتمبر/أيلول 1973، واستعادها بحرفيتها تقريبا في كتابه؛ تختلف وقصة أخرى نسبت إلى نيتح في 2 مايو/أيار 1974.
فإيلي كوهن سنة 1948 هو بطل المشهد المتفرد، نشأ في بيئة عربية، ولما هاجر إلى فلسطين عاشر العرب، وكان له علاقته التجارية بهم، ولما بدأت معركة يافا استدعي من مقر الهاغاناه في تل أبيب ليذهب في مهمة جريئة متسللا بين صفوف اللاجئين العرب المغادرين يافا، فحصل على بطاقات هوية مزورة، ومعدات تصوير متطورة، وقدم له محمود، بوصفه عربيا من مواليد يافا عمل سابقا مع الهاغاناه ليكون مساعده.
يمضي إيلي كوهن 1948 المسير في موكب لاجئي يافا إلى أن يصل القدس، فيطلب لقاء عبد القادر الحسيني ليستأذن منه بالعمل مصورا صحفيا في المنطقة. وافق بشرط أن يعطوه نسخة من صور معاركه لأنه يريد الاحتفاظ بها في ألبومه، وافقا على الشرط وأعطوا الحسيني ألبوما احتوى صورهما الأولى.
في هذا اللقاء بالحسيني، سمعوا عن خططه للهجوم على القسطل، فطلبوا المشاركة، وكان لهم ما أرادوا، شهدا مقتل الحسيني، وحزن محمود على ابن عمه، وأخبرا قيادتهما التي كان التواصل معها بنقاط ميتة بالأمر، وفي إحدى معارك الشيخ جراح أصيب محمود بجروح خطرة، خشي نيتح من أن يفشي محمود سره، فجاوره في المستشفى إلى أن مات. لينتقل نيتح إلى منطقة الخليل ويشاهد سقوط غوش عتصيون، وخلال هذه المعارك فقد الاتصال بالهاغاناه.
غوش عتصيون، الحاضرة في الرواية هذه، كانت حاضرة في الرواية الأولى -رواية الكتاب- بوصفها موضع نشاط نيتح ومحمود الأول، إذ كلفوا بالتجسس على القوات العربية في الخليل، ولما علموا حاولوا الاتصال بقيادتهم وفشلوا لأن قوات الحسيني الشهيد قطعت الطريق. ويبدي نيتح أسفه على أنه كان سببا في معركة غوش عتصيون الأولى، إلا أنه أعطى صورا للهاغاناه مكنتها من التعرف على تفاصيل الحديث والأسلحة التي بيد القوات العربية. وليخفي عمله، أعطى نسخا من الصور للصحف العربية، صارت توزع كصور تذكارية أيضا.
وبالكاميرا كسب نيتح -وفقا لهذه الرواية- القلوب. وفي روايته هذه يحول نيتح هزائم صهيونية في معارك القدس للحديث عن بطولة مزعومة، ففي معارك الشيخ جراح، ورامات راحيل والقطمون، وعندما يعجز عن مساندة القوات اليهودية؛ يبدأ ومحمود بالصراخ بأننا نخسر المعركة، فيصاب العرب بالذعر وتقل خسائر اليهود. وليبرر صور فوزي القاوقجي التي في مجموعته، يقول بأنها التقطت في مقر القاوقجي في بيسان -وهذا لم يكن، إذ كانت الصورة في بلدة جبع- يوم طلب منهما الحسيني الشهيد التوجه إلى بيسان لطلب مساعدة القاوقجي، فعادا مع المقاتلين. ولما سمعا بدير ياسين صورا الضحايا ونشرا أخبارا مزورة عن وصول عدد القتلى لـ600 امرأة و500 رجل و400 طفل.

وفي صباح اليوم التالي، جمع الحسيني قادته حول خريطة نشرت على الأرض، ومن الاستماع إلى حديثهم فهم يسرائيل بأن الحديث عن هجوم وشيك، فأخذ صورا من زوايا قريبة للخريطة، ليرسلها لقادته. ولما رآه الحسيني طلب التقاط صورة له، كانت صورته الأخيرة. وبعد معركة القسطل، وتحريضه العرب للنزول عن الجبل لحضور جنازة الحسيني الشهيد، لم يجد نيتح بعد كل ذلك اعترافا من قيادته بجهده، فغضب وقرر العودة إلى أسرته التي لم تكن تعرف عنه شيئا، وصدم بزوجته وهي ترتدي السواد ظنا منها أنه قتل.
أما محمود فيحكي بأنه قتل برصاص اليهود في مواجهات في حي مئهشعاريم، وبفقده لمحمود شعر بأنه فقد جزءا من جسده. وبعد وقت قصير غادر أسرته إلى غوش عتصيون ليشهد سقوطها وليعود من جديد إلى أسرته. في الفصل الأخير من هذه الرواية، يتحدث عن استدعائه للخدمة في الجيش في شهر يونيو/حزيران 1948، ومشاركته في منطقة القدس مجندا في لواء عتصيوني، حيث شهد احتلال عين كارم. ولم يكن يعلم قادته الجدد عن جهده السابق، الذي لم يكن يعرفه سوى عدد محدود من القادة كشاريت وقائد الهاغاناه في القدس دافيد شلتئيل.
تناقض روايتي نيتح يثير الشك في مجمل روايته المتصلة بدوره كمستعرب، فإذا أضيف إلى ما اكتشف عن أن الصور ما هي إلا صور رصاص، وأن بيان نيتح لم يكن صحيحا، يمكن التأكد من أن كل القصة التي احتفي بها في الصحافة العبرية لم تكن دقيقة على أفضل الأحوال وربما مزيّفة برمّتها.
ويتكشّف ذلك بعد بث لقاء لنيتح في برنامج تلفزيوني "هذا سري" عام 1973، إذ كان المضيف أحد زبائن بائع الفلافل نيتح، وكما يبدو فإن نيتح بنى الحكاية، أو بنيت له، على ألبوم صور مسروق، من صور رصاص، وصله بطريق ما، إما أثناء خدمته في منطقة القدس أو بعد ذلك، كما وصل لكارمل، وكما وصل لصفحات مجلة الجيش الصهيوني "بمحنيه"، التي نشرت جزءا من هذه الصور في تقريرها: في الطريق إلى الاستقلال، حرب القدس، صور من الجانب العربيّ، في مايو/أيار 1951. وبهذا الظهور والاحتفاء التالي، الذي بقي في مجمله محدودا ولا يليق ببطولة نيتح المدعاة، اشتهر بعد مقابلات نيتح المصورة والصحفية مطعمه وحقق ما أراد.
تاريخ لبيع الفلافل
يوم إعلانه عن سره المزعوم، برر نيتح صمته خلال السنوات السابقة بخشيته على أسرته التي بقيت في دمشق، ولذلك لم يشتهر دوره في الحرب المؤسسة، التي اعتنى كل صهيوني على إثرها بإبراز دوره فيها وإن كان هامشيا، لأن إثبات المشاركة في هذه الحرب لم تكن غايته يومها التأريخ لها، وإنما الاستثمار في المشهد السياسي التالي لها.
ولهذا اشتد الصراع على رواية تاريخ الحرب صهيونيا، وسعى كل شخص لإثبات دور ما في الحرب، ونفيه عن الآخرين. لكن كما يبدو من عناصر روايات نيتح، فإن التأخر في كشف السر المزعوم لم يكن إلا لغياب الرواية.
ولما أتى من يحبكها، حرص على قتل الشهود، فكل من كان يمكن أن يكون مرجعا ليدقق الرواية قتل أو مات، فعنصر الرواية المركزي محمود الحسيني قتل ولم يعرف قبره، ولم تشر لوجوده في يوم من الأيام أي رواية صهيونية أخرى، رغم أن إعلان وجوده كان سيكون قصة نجاح كبرى للمخابرات الصهيونية، زمن العصابة، وزمن الجيش، لصلته المزعومة بالحسيني الشهيد.
أما شهود الرواية الصهاينة، موشيه شاريت ودافيد شلتئيل، فكانا قُبرا قبل زمن. ولو كان لشاريت أو رجاله مثل هذا الإنجاز في اختراق الجبهة العربية لكان أول المحتفين به.
إذن، يمكن القول بأنه لم يوجد مستعرب يوما باسم إبراهيم السيد، ولم يوجد جاسوس كمحمود الحسيني، ولم توجد إلا صور خليل رصاص المبثوثة في ثنايا الصحف أيام المعارك، والمنهوبة بعدها.
هذا الاستنتاج أثار في نفسي السؤال مجددا عن كثير من الحكايا المبثوثة في المصادر الاستعمارية عن المستعربين خصوصا، ومخابرات الهاغاناه عموما، في حرب 1947-1949، والتي ستكون جزءا صغيرا من أدبيات "التسحيج" لمخابرات الصهاينة التالية، خصوصا أن التاريخ هنا لا يزيد من مبيعات الفلافل فقط، وإنما هو مصدر رئيس لشرعية السياسي التالية للحرب.
ولعل الصراع على التاريخ هذا أحد أبرز المصادر التي يمكن من خلال تتبع أوجهه بيان كثير من ثغرات، أو تخاريف، بعض الروايات المبثوثة في أدبيات الحرب الصهيونية، فمثلا ستجد حديثا من مؤرخ كأوري ميلشتاين للحديث عن إخفاق الهاغاناه ومخابراتها يوم تفجير مقر الوكالة اليهودية في القدس بيد رجال الجهاد المقدس، وأن الإخفاق قاد أحد أبرز مؤرخي الهاغاناه في القدس، يتسحاق ليفي في كتابه الصادر عن وزارة الأمن "تسعة أقواب: القدس في معارك حرب الاستقلال"، لحذف كل ما قد يؤشر إلى إخفاقه في هذا، وأن الأمر تجاوز التأليف فيما يبدو نحو حذف كل مصدر أولي في الأرشيف يمكن أن يدينه.
لكن النظر في تناقضات المصادر الاستعمارية لتعرية هذا التاريخ قد يكون خيار المؤرخ الثاني، فأهل البلاد أدرى بدروبها، وكما حكى الريماوي قصة صور بديا، حكى فوزي القطب قصة الإخفاق الصهيونية يوم تفجير الوكالة في القدس.