قرية "معركة" حيث قاومت النساء الاحتلال الإسرائيلي بالزيت المغلي
قرية معركة إحدى أكبر القرى اللبنانية شرق مدينة صور في محافظة جنوب لبنان، تبعد عن العاصمة بيروت نحو 97 كيلومترا، وكانت تسمى قديما "نجمة الصبح"، ثم تغير اسمها إلى "معركة" بسبب ما شهدته أرضها من معارك وصراعات.
ويُشهد للقرية بأسها الشديد في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي ومن قبله الفرنسي والحملات الصليبية، ومن المشهور في هذا الصدد أن نساء القرية كن يقاومن الجنود الإسرائيليين الذين يقتحمون بيوتهن بسكب الزيت المغلي عليهم في ثمانينيات القرن الـ20.
الموقع والمساحة
تقع قرية معركة في محافظة جنوب لبنان، شرق مدينة صور وتبعد عنها نحو 10 كيلومترات، وتبعد عن بيروت نحو 97 كيلومترا، وعن صيدا 55 كيلومترا.
ترتفع عن سطح البحر من 200 إلى 285 مترا، وتبلغ مساحتها 18 ألفا و360 دونما (الدونم يساوي ألف متر مربع).
تحيط بها الأودية والوديان من الجهتين الشمالية والجنوبية، مما أعطاها موقعا إستراتيجيا.
كانت معركة حتى سبعينيات القرن العشرين عبارة عن حارتين: شمالية وتسمى "الفوقا"، وجنوبية تسمى "التحتا"، وتصل بينهما الساحة العامة وشارع رئيسي يصل البلدة بغرب مدينة صور وشرق قرية جويا.
لاحقا توسعت مساحتها وأصبحت تمتد على أراضي القرى المجاورة لها، منها قريتا طورا ويانوح.
التسمية
كانت القرية قديما تسمى "نجمة الصبح"، ولكن تغير اسمها إلى "معركة" لكثرة المعارك التي شهدتها أرضها، أبرزها معركة خاضتها الجيوش العربية ضد الروم في فترة خلافة عمر بن الخطاب، كما كانت مسرحا لمعارك أثناء الحروب الصليبية أيام حكم الدولة الأيوبية.
وقيل أيضا إن اسم معركة باللاتينية يعني المخبأ والملجأ، إذ كانت ملاذا للسكان الفارين من صور وضواحيها هربا من الصليبيين، كما كانت ملجأ للثوار ضد الجيش الإسرائيلي.
وعرفت البلدة بأسماء وألقاب عدة، منها "ساحل معركة" عندما كانت إحدى مقاطعات جبل عامل، كما لقبت بـ"أم القرى وبوابة التحرير"، و"أم المقاومة" للدور الذي لعبته في مقاومة الانتداب الفرنسي والاحتلال الإسرائيلي.
الاقتصاد
اشتهرت معركة منذ مطلع القرن الـ20 بوفرة إنتاج زيت الزيتون، فقد افتتحت أول معصرة فيها عام 1910، وكانت تعتمد على الخيل والأيدي العاملة.
وفي عام 1936 توسعت زراعة الزيتون بشكل كبير لتوازي أعداد كروم التين المنتشرة في البلدة.
وبدأ أهل معركة بزراعة التبغ في خمسينيات القرن العشرين، بعد منح الحكومة اللبنانية تراخيص للقرى في جبل عامل، وحصلت القرية على 97 دونما من الأراضي الزراعية.
وأسهمت زراعة التبغ في إنعاش الاقتصاد المحلي، وفي تحويل المعاملة الاقتصادية في القرية من نظام المقايضة إلى النقد، مما أدى إلى تحسين الوضع العمراني، فبدأ السكان تغيير سقوف البيوت القديمة المصنوعة من الخشب والتراب وتحويلها إلى أسقف حديدية وأسمنتية.
وازدهرت زراعة الخضراوات في معركة، وبلغت ذروتها عام 1965، إذ غطّت الأراضي الزراعية معظم مساحة القرية، وحققت أرباحا كبيرة، وحظيت بشهرة واسعة في أسواق بيروت.
كما أصبحت شاحنات الخضار تتجه يوميا من معركة إلى بيروت، محملة بمختلف المحاصيل، مما أسهم في انتعاش اقتصاد القرية. لكن مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية ودخول القوات الإسرائيلية جنوب لبنان عام 1982، تراجعت إنتاجية الزراعة.
وانتعشت القرية مرة أخرى بعد عودة المغتربين إليها ومساهمتهم برؤوس أموالهم لاستصلاح الأراضي البور وتحويلها إلى بساتين مزروعة بأشجار ومحاصيل مثمرة، مما دعم الزراعة والعمران مجددا في القرية.
التاريخ
أظهرت الاكتشافات الأثرية في قرية معركة وجود مقابر فينيقية تؤكد أن البلدة شهدت استقرارا بشريا منذ عصور قديمة، مما عكس عمق ارتباطها الحضاري بمدينة صور الفينيقية المجاورة.
وفي الحقبة الرومانية شهدت القرية تطورا في بنيتها التحتية، فقد استثمر سكانها في الأراضي الخصبة لتصبح مركزا زراعيا مزدهرا، وانتشرت كروم التين والزيتون.
وتشير الدراسات الأثرية إلى وجود شواهد تعود إلى الحقبة الرومانية في المنطقة، أبرزها بقايا معمارية رومانية من أعمدة ونقوش حجرية، كما عثر في أواخر ستينيات القرن الـ20 على رأس تمثال قيل إنه يعود للقائد القرطاجي حَنبَعل.
وعقب احتلال الإسكندر الأكبر للمنطقة عام 332 ق.م، أُلحقت المدن الفينيقية، بما في ذلك صور والقرى المحيطة بها، بالإمبراطورية اليونانية، وقيل إن القرية لقبت بمعركة في هذه الفترة، لمقاومتها هجوم الإسكندر على مدينة صور.
وفي العصور الوسطى، ومع دخول الإسلام إلى المنطقة في القرن السابع الميلادي، أصبحت معركة جزءا من الجغرافيا الإسلامية، فانتشر فيها الإسلام وترك آثارا دينية وثقافية واضحة في تاريخها.
ومع انطلاق الحملات الصليبية، تأثرت القرية بالمعارك التي دارت جنوب لبنان بين الصليبيين والسكان المحليين، مما عزز ارتباط اسمها بالأحداث القتالية التي شهدتها أراضيها، وأكسبها دلالة رمزية تعبر عن المقاومة والصمود.
وفي عهد الدولة العثمانية، كانت معركة جزءا من ولاية صيدا التي ضمت معظم مناطق جنوب لبنان، واتبع العثمانيون نظام إدارة قائم على الإقطاعيين المحليين لجمع الضرائب، مما أثقل كاهل القرى الجنوبية، بما فيها معركة، بالضرائب الباهظة التي شكلت عبئا اقتصاديا على سكانها، ودفعتهم إلى رفض الوجود العثماني.
وبعد سقوط الدولة العثمانية عام 1920، وُضعت لبنان تحت حكم الانتداب الفرنسي، فانخرط أهالي معركة في الحركات المناهضة للاحتلال، تعبيرا عن رفضهم للاستعمار ودعما لحركات التحرر الوطني.
الانتداب الفرنسي
مع بداية الانتداب الفرنسي على لبنان عام 1920، شهدت معركة تغييرات سياسية وإدارية كبيرة أثّرت على حياة سكانها، إذ فرضت السلطات الفرنسية سياسة المركزية (تركيز السلطة والقرارات في يد الحكومة المركزية)، الأمر الذي انعكس سلبا على إدارة المناطق المحلية.
واقتصاديا، واجه سكان القرية، وخاصة الفلاحون، تحديات كبيرة نتيجة فرض ضرائب جديدة وإعادة توزيع الأراضي والسيطرة عليها، مما زاد من معاناتهم، فقد كانت الزراعة مصدر رزقهم الأساسي.
وعسكريا، عززت السلطات الفرنسية وجودها في الجنوب اللبناني، مما أدى إلى تصاعد التوترات بين السكان المحليين والقوات الاستعمارية.
وسياسيا واجتماعيا، تأثرت معركة بظهور الحركات الوطنية والقومية التي دعت للاستقلال عن الانتداب الفرنسي، كما شارك عديد من سكان القرية في دعم هذه الحركات والمطالبة بالحرية.
المواجهات ضد إسرائيل
تعرضت معركة لاعتداءات عسكرية إسرائيلية استهدفت البنية التحتية والسكان تحت ذريعة مواجهة الأنشطة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية.
وكانت القرية عام 1984 شاهدة على انطلاق شرارة المواجهات الأولى بين اللبنانيين والجيش الإسرائيلي فيها. ورغم انتشار القوات الإسرائيلية في الجنوب اللبناني والبقاع الغربي، عجز الاحتلال عن فرض سيطرته على معركة.
وانطلاقا من قرية معركة، توسعت رقعة التحرير لتشمل 6 قرى مجاورة، وهي طورا وبدياس وبرج رحال والعباسية ويانوح وطيردبا، مما عزز من زخم المقاومة اللبنانية في مواجهة الاحتلال.
وكانت معركة في تلك الفترة رمزا للصمود والتحدي أمام الوجود الإسرائيلي، وأسهمت في تعزيز الروح الوطنية بين اللبنانيين رغم محاولات إسرائيل القضاء على المقاومة.
ولعبت نساء القرية دورا في التصدي للاعتداءات الإسرائيلية، إذ استخدمن الزيت المغلي للدفاع عن منازلهن وأحيائهن من الجنود الذين اعتادوا اقتحام البيوت والتضييق على السكان لفرض سيطرتهم بالقوة.