انقلابات الجيش التركي.. من الإطاحة بمندريس إلى محاولة يوليو الفاشلة
يمكن تلمس أثر الجيش التركي في مجمل الأحداث التي جرت منذ بداية تاريخ الجمهورية التركية، لكنه تدخل بشكل مباشر من خلال أربعة انقلابات عسكرية خلال أقل من أربعين عاما، لتغيير حكومات مدنية منتخبة لأسباب مختلفة في مقدمتها "حماية النظام العلماني"، أو حتى حماية المصالح الأميركية أمام التمدد السوفياتي من جهة أو الإسلامي من جهة أخرى.
"الانقلاب على مندريس" عام 1960
حصل الانقلاب العسكري ضد حكومة رئيس الوزراء المنتخب عدنان مندريس يوم 27 مايو/أيار 1960، وعُدّ أول انقلاب عسكري ضد حكومة منتخبة في تاريخ الجمهورية التركية، وأيضا شرارة البداية لعدد من الانقلابات والوصايات العسكرية على البلاد.
تركيا في عهد مندريس
كان مندريس نائب رئيس حزب "الشعب الجمهوري" الذي أسسه أتاتورك، لكن في 21 سبتمبر/أيلول 1945 قرر ديوان الحزب إبعاده لدفاعه عن الديمقراطية، فقرر الأخير إنشاء "الحزب الديمقراطي" برفقة جلال بيار وفؤاد كوبريلي ورفيق كورالتان، وفاز الحزب في الانتخابات فتولى زعيمه رئاسة الوزراء.
بتولي عدنان مندريس مع حزبه حُكْمَ البلاد في 14 مايو/أيار 1950، أنهى تاريخ "حكم الحزب الواحد" لتركيا، وقام بعدة إنجازات منها إعادة الأذان باللغة العربية بعد أن بقي لسنين بالتركية، وأعاد مادة التربية الدينية للمدارس بعد أن منعت بدعوى علمانية المؤسسات التعليمية.
وحاول مندريس انتهاج سياسة اقتصادية ليبرالية، فشهدت البلاد في عهده تنمية اقتصادية، وانتقلت إلى اقتصاد السوق الحر، كما رفع جميع القيود أمام الواردات، وخفّض نسبة الفائدة تشجيعا للقطاع الخاص على الاستثمار، ومع ذلك واجه الحزب معارضة شديدة من الجيش والمدنيين الذين ألّبهم المعارضون إعلاميا.
أسباب الانقلاب على مندريس
ومما زاد تأزيم الأوضاع سياسيا انفجار قنبلتين ألقيتا في حديقة القنصلية التركية بمدينة سلانيك في اليونان، وبجوار المنزل الذي ولد فيه مؤسس الجمهورية مصطفى أتاتورك في المدينة ذاتها، فتضررت أجزاء من المنزل والقنصلية، مما تسبب بخروج احتجاجات كبيرة في شوارع أنقرة وإسطنبول وإزمير.
عرفت هذه الاحتجاجات باسم "أحداث 6-7 سبتمبر/أيلول" عام 1955، وخلالها أضرمت النيران في أحياء تعيش فيها الأقليات، وتعرضت كنائس ومقابر لاعتداءات، ففرضت الأحكام العرفية لضبطها.
ثم أشعلت ما عرفت بـ"حادثة الضباط التسعة" مزيدا من الاحتقان، حيث اكتشفت السلطات تنظيما سريا داخل الجيش حاول قلب نظام الحكم، فاعتقل الضباط المعنيون وقدموا للمحكمة بتهمة الضلوع في مؤامرة ضد الحكومة، وذلك بعد فوز الحزب "الديمقراطي" بقيادة مندريس مرة أخرى عام 1957.
ثم خرجت ادعاءات بمنع جولات رئيس "حزب الشعب الجمهوري" عصمت إينونو وتعرضه لبعض الاعتداءات، وزاد الحنق على الحزب "الديمقراطي" بعد خروج احتجاجات طلابية راح ضحيتها طالب برصاصة طائشة زعم أنها رصاصة لشرطي، مما زاد من الاحتجاجات حتى أعلنت الاحكام العرفية مرة أخرى.
وفي 5 مايو/أيار 1960 نظمت مجموعة من الطلاب في ميدان "قيزيل آي" بأنقرة مظاهرة أسموها "كيه 555" (k555)، ويقصدون بذلك "الساعة الخامسة من اليوم الخامس في الشهر الخامس"، وحضرها مندريس بنفسه وتعرض فيها لمحاولة خنق من طالب، فسأله مندريس ماذا يريد فقال "الحرية"، فرد عليه "أنت الآن تلف يديك حول عنق رئيس الوزراء.. هل توجد حرية أكثر من هذه؟". ثم في 21 مايو/أيار نظّم طلاب من الكلية الحربية مسيرة صامتة في أنقرة.
ومن الأسباب الأخرى للانقلاب اتهام مندريس بإقامة علاقة مع الاتحاد السوفياتي بهدف الحصول على تمويل إضافي لبعض الصناعات في ظل تراجع التمويل الأميركي، فقيل إن وكالة الاستخبارات الأميركية "سي آي إيه" تدخلت لمنع تمدد السوفيات في المنطقة فكانت وراء الانقلاب.
تفاصيل الانقلاب على عدنان مندريس
شكّل مجموعة من الضباط بقيادة الجنرال المتقاعد جمال غورسيل لجنة من 38 شخصا أطلقوا عليها "لجنة الوحدة الوطنية"، بحجة أن حزب مندريس "يجر البلاد نحو الاستبداد والاقتتال بين الأشقاء".
وأعلن العقيد ألب أرسلان توركش بيان الانقلاب عبر إذاعة راديو أنقرة صباح 27 مايو/أيار 1960، ثم سيطر الانقلابيون على الجيش وحلوا البرلمان، وعطلوا العمل بالدستور وجمدوا العمل السياسي.
وأحالت اللجنة 235 جنرالا و5 آلاف ضابط إلى التقاعد من بينهم رئيس هيئة الأركان، ثم اعتقلوا مسؤولين رفيعي المستوى في الدولة وقطاعها الحكومي، وقيادات من "الحزب الديمقراطي" الحاكم بلائحة اتهام ضمت "الخيانة العظمى وسوء استخدام المال العام".
وفي 14 أكتوبر/تشرين الأول حاكمت اللجنة 592 شخصا، ورغم مطالبة الادعاء بإعدام 288 شخصا، حكم على 15 فقط من المعتقلين بالإعدام في 15 سبتمبر/أيلول 1961، وكان من بينهم مندريس ووزيرا الخارجية فاتن روشتو زورلو والمالية حسن بولاطقان، وحكم على 31 شخصا آخرين بالسجن المؤبد.
ووجهت لمندريس تهم بتقويض النظام العلماني للدولة، بسبب "سماحه للقوى الدينية بالعمل بحرية" لأنه خالف الحكومات العلمانية السابقة التي منعتها تماما، ورغم أن مندريس لم يكن بالأصل إسلاميا، لكن مجرد محاولته تخطي شكل العلمانية الذي شرّعه أتاتورك كان كفيلا بمحاكمته وإعدامه مع ثلاثة من وزرائه.
نفذ الحكم بإعدام وزيري الخارجية والمالية في 16 سبتمبر/أيلول 1961، وأعدم عدنان مندريس بعدهما بيوم في جزيرة "ياسي أدا" في بحر مرمرة.
ما بعد الانقلاب على مندريس
في 11 أبريل/نيسان 1990 صادق البرلمان التركي على قانون يقضي بنقل رفات مندريس ودفنه بمراسم رسمية لإعادة الاعتبار له، ودفن في ذكرى إعدامه يوم 17 سبتمبر/أيلول 1990 في شارع الوطن بإسطنبول.
الجزيرة التي أعدم فيها مندريس كانت منفى منذ القرن الـ14، وتناقلت عدة أطراف ملكيتها، إلى أن اشترتها القوات البحرية التركية وبقيت مهجورة حتى بداية إعمارها عام 2015.
وفي أبريل/نيسان 2012 شكّل البرلمان التركي لجنة "التحقيق في الانقلابات والمذكرات التحذيرية في الحكومة"، وبعدها بعام في نوفمبر/تشرين الثاني سميت جزيرة "بتسي أدا" بجزيرة "الديمقراطية والحرية"، التي افتتحها رجب طيب أردوغان قائلا "تركيا تعرضت في مثل هذا اليوم (27 مايو/أيار) قبل 60 عاما لأسوأ انقلاب في تاريخها".
"انقلاب المذكرة" عام 1971
حدث ما عرف في تاريخ تركيا بـ"انقلاب المذكرة" يوم 12 مارس/آذار 1971، ووقتها صاغ الجيش مذكرة موقعة من رئيس الأركان ممدوح تاغماش أذيعت عبر قناة "تي آر تي" الحكومية واستهدفت البرلمان وحكومة سليمان ديميريل.
وزعم الانقلابيون أن ديميريل وحكومته دفعا الاقتصاد للاضطراب وتسببا "بالحرب بين الإخوة"، فأدت المذكرة التي كانت أشبه "بتهديد ووعيد" إلى استقالة الحكومة وتشكيل واحدة أخرى "تكنوقراطية" عينها قادة الانقلاب.
تركيا في عهد ديميريل
انضم ديميريل عام 1962 إلى "حزب العدالة"، حيث انتخب في العام نفسه عضوا بمجلس إدارة الحزب، ثم ترأسه في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1964 وعمره آنذاك أربعون عاما، وظل في المنصب لمدة 17 عاما.
وحقق الحزب برئاسته عام 1965 نتائج متميزة في الانتخابات، حيث فاز بالأغلبية وحصل على 53% من مجموع الأصوات، واختير يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول 1965 ليكون رئيس الوزراء الـ12 للبلاد.
ونجح ديميريل وحكومته في تحقيق نتائج متميزة على مستوى التنمية الاقتصادية بشكل خاص، ما مكنه من الفوز مجددا بثقة الأتراك في انتخابات 10 أكتوبر/تشرين الأول 1969، حيث شكل حكومته الثانية.
غير أن "حزب العدالة" دخل في دوامة من الخلافات الداخلية بسبب نقاشات حول إعادة تأسيس "الحزب الديمقراطي" الذي اعتبر "حزب العدالة" وريثا له قبل حله، مما تسبب بانفصال مجموعة عرفت بـ"مجموعة 41″ صوتت ضد ميزانية حكومة ديميريل فسقطت عام 1969، فبادر إلى تشكيل حكومته الثالثة التي لم تصمد طويلا.
أسباب الانقلاب على ديميريل
كانت البلاد تشهد أزمة اقتصادية وصراعات دموية بين القوى اليسارية (الإسلامية والقومية) وبين القوى اليمينية المدعومة من الدولة، وكانت واشنطن تتخوف أن يتحول التيار اليساري إلى قوة جدية في الشارع التركي، خاصة بعد أن استهدف اليساريون (الذين تدربوا في مخيمات المنظمات الفلسطينية في لبنان بعمليات مسلحة) القواعد الأميركية والعاملين فيها وخطفوا القنصل الإسرائيلي في إسطنبول وقتلوه بعد احتجازه أربعة أيام.
لذا كان السبب الرئيسي رغبة الانقلابيين في حماية المصالح الأميركية (وهذا ما أكدته وثيقة سرية نشرتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عام 2017)، في ظل انتشار الأفكار اليسارية المدعومة من الاتحاد السوفياتي، مع تزايد المظاهرات وأعمال العنف المنددة بـ"الإمبريالية الأميركية"، وتفاقمت الاضطرابات مع دخول حزب العمال التركي اليساري إلى البرلمان.
تفاصيل الانقلاب على ديميريل
في يوم الانقلاب أرسل قادة الجيش (ذوي رتب رفيعة على عكس انقلاب 1960) بقيادة محمود طغماتش مذكرة إلى الحكومة تدعوها للاستقالة، ووقع المذكرة رئيس الأركان وقادة القوات البرية والجوية والبحرية والدرك، متذرعين بالأوضاع الأمنية التي سادت في البلاد، وخاصة مظاهرات الحركات العمالية اليسارية والمواجهات بين اليمين واليسار في الجامعات.
وأرسلت نسخة أخرى لبثها على القناة الرسمية "تي آر تي"، وقيل فيها إن "الحكومة والبرلمان قد دفعا البلاد بآرائهما وسياساتهما إلى حالة من الفوضى والاقتتال الداخلي والاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية".
وأضافت المذكرة أنه "من الضروري إنشاء حكومة قوية ومقنعة ضمن قواعد ديمقراطية من شأنها معالجة الإصلاحات التي ينص عليها الدستور، والتي ستقضي على الوضع الفوضوي الحالي، انطلاقا من المنهج الذي رسمه أتاتورك، مع تنفيذ قوانين الإصلاح"، وهدد الانقلابيون الحكومة بفرض وصاية الجيش ما لم تشكّل حكومة جديدة.
قررت حكومة ديميريل الاستقالة "لأن المذكرة لا تتوافق مع الدستور"، وتحولت البلاد إلى ما عرف بـ"نظام 12 مارس/آذار"، فلم يحل البرلمان ولم تغلق الأحزاب السياسية ولا الدستور، لكن الجيش أقام حكومة تكنوقراط تحت وصايته وبقيادة نهاد أريم.
ما بعد الانقلاب على ديميريل
بقي الحال على ما هو عليه في البلاد حتى فاز حزب "الشعب الجمهوري" وشكلت حكومة ائتلافية برئاسة بولنت أجاويد في الانتخابات العامة التي أجريت في 14 أكتوبر/تشرين الأول 1973 بدعم نجم الدين أربكان.
وظهر "حزب السلامة الوطني" في العام نفسه بدلا عن "حزب النظام الوطني" الذي تأسس عام 1970، وتراجعت حدة سياسة الاحتواء التي مورست ضد التيارات الإسلامية.
"انقلاب كنعان إيفرين" عام 1980
وقع انقلاب 1980 (الذي يعتبره الأتراك من الانقلابات "الأكثر دموية") يوم 12 سبتمبر/أيلول، بقيادة الجنرال كنعان إيفرين، الذي أطاح بالحكومة المدنية وفرض الأحكام العرفية وحظر الأحزاب السياسية، وأعلن عن الانقلاب في واشنطن قبل السماع عنه في أنقرة.
أسباب "انقلاب 12 سبتمبر/أيلول"
حدث الانقلاب الثالث وسط ظروف داخلية مماثلة للانقلاب السابق، لكن بأبعاد إقليمية، فكان من أسباب الانقلاب أن تركيا كانت تعيش ظروف التمرد الكردي في جنوب البلاد، بالإضافة إلى صعود القوى اليسارية، في وقت شهد تداعيات الثورة الإيرانية واندلاع الحرب العراقية الإيرانية مع الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، وبداية الصراع السني العلوي.
وكان كل ذلك يجري في غمرة الحديث عن نظرية الحزام الأخضر لبريجنسكي ضد الاتحاد السوفياتي، وكانت تركيا من أهم عناصر هذا الحزام، الذي استهدف إحاطة جنوب الاتحاد السوفياتي بطوق من دول ذات صبغة إسلامية، وكان لهذا الانقلاب تأثير مهم وكبير في مجمل المعطيات السياسية.
وفاقمت الأوضاع الاعتداءات على العلوين في مدينة كهرمان مرعش نهاية عام 1978، والتي تسببت بمقتل 105 أشخاص، مع مجزرتين ثانيتين، واحدة في تقسيم راح ضحيتها 34 شخصا، وأخرى في "شوروم" مات فيها 58 شخصا.
كما أججت الأوضاع مظاهرة "تحرير القدس" إثر إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، والتي نظمها حزب "الخلاص اليومي" قبيل الانقلاب بأسبوع، فاعتبرها الانقلابيون محاولة لفرض الشريعة الإسلامية.
تفاصيل انقلاب كنعان إيفرين
كان وراء انقلاب 1980 قيادات القوات المسلحة التركية التي قادها الجنرال كنعان أورن بذريعة "عدم الاستقرار السياسي"، والأزمة الاقتصادية التي اجتاحت البلاد مع الأحداث الأمنية المتوترة، التي رافقتها اغتيالات طالت سياسيين وإعلاميين ورجال أمن، منهم رئيس الوزراء الأسبق نهاد أريم.
وأعلن الانقلابيون عبر مجلس الأمن إقالة حكومة ديميرل للمرة الثانية وإلغاء البرلمان وتعليق العمل بالدستور واعتقال قادة الأحزاب السياسية اليمينية واليسارية، وتوقيف 650 ألف مواطن، مع نفي ديميرل وعدد من الشخصيات السياسية منهم أجاويد ونجم الدين أربكان وألب أرسلان توركش الذين منعوا من العمل السياسي 10 سنوات، ثم أعلنوا حالة الطوارئ.
ومن تداعيات هذا الانقلاب محاكمة 230 ألفا صدر بحق 517 منهم حكم الإعدام، لكنه طبق على 50 فردا فقط، وطرد 30 ألف موظف من أعمالهم، وسحبت الجنسية من 14 ألف مواطن، وقدّر عدد ضحايا المقتولين في ظروف غامضة 300 شخص، وآخرين قضوا تحت التعذيب.
قدم إيفرين دستورا للاستفتاء الشعبي في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1982، وأصبح رسميا الرئيس السابع للبلاد بعدها بيومين، وسمح بتشكيل الأحزاب السياسية شرط موافقة مجلس الأمن.
وبعد استئناف الدستور سمح لثلاثة أحزاب بالدخول إلى الانتخابات، هي "الحزب الديمقراطي الوطني" بقيادة تورغوت سونلاب و"حزب الشعب" بقيادة نجدت غالب و"حزب الوطن الأم" بقيادة تورغوت أوزال الذي عين لاحقا رئيسا للحكومة.
ما بعد انقلاب كنعان إيفرين
ترأس إيفرين الجمهورية التركية سبع سنوات تحت حكم دستور بقي الأتراك يعانون منه، ورغم تغيير العديد من بنوده ومواده مع مرور الوقت باستثناء تلك التي "تعترف لقادة الانقلاب بحصانة دستورية إلى الأبد" حوكم قادة "انقلاب 89" بعدما تقدم أتراك ببلاغات للقضاء بحق المسؤولين عن الانقلاب ومن معهم، فأجري استفتاء شعبي في 12 سبتمبر/أيلول 2010 ألغي على إثرها البند.
حكم على إيفرين عام 2014 بالسجن مدى الحياة مع قائد القوات الجوية الأسبق تحسين شاهين كايا، بتهمة قلب النظام الدستوري ودورهما في انقلاب 1980، وبينما كانت محكمة النقض تنظر في القضية توفي إيفرين في 10 مايو/أيار 2015 عن عمر 98.
"انقلاب ما بعد الحداثة" عام 1997
وقع الانقلاب الرابع الذي يسمى أيضا "الانقلاب الأبيض" في 28 فبراير/شباط 1997، واكتفى فيه الانقلابيون الخروج بدباباتهم إلى الشوارع في أنقرة تهديدا للحكومة، ووسط ضغط منهم أجبر رئيس الوزراء آنذاك نجم الدين أربكان على توقيع مذكرتهم ثم الاستقالة وحل الحزب والحكومة الائتلافية.
أسباب "الانقلاب الأبيض" في تركيا
عادت تركيا للحكم المدني عام 1983 بعدما كانت تحت سلطة إيفرين لسنين، لكن وبعد بضع سنين من وفاته عاد الجيش للتدخل في الحياة السياسية التركية، ويعد الصراع الإسلامي العلماني أبرز الأسباب التي قادت إلى هذا الانقلاب.
بدأ هذا الصراع بداية السبعينيات من القرن الماضي بعدما ظهرت رموز وشخصيات سياسية إسلامية، أبرزها نجم الدين أربكان، الذي بدأ مشواره السياسي بتأسيس حزب "النظام الوطني".
ومثل هذا الحزب نقطة انطلاق الأحزاب السياسية الإسلامية، لكن صدر قرار بحله بعد عام ونصف بتهمة "التآمر ضد العلمانية"، فأعاد الكرة وأنشأ "حزب السلامة الوطني" حتى عام 1980 عندما حظر الجيش جميع الأحزاب السياسية.
وصلت ذروة الصراع بعد تمكن "حزب الرفاه" من الوصول للسلطة عام 1995 وتولي أربكان رئاسة الوزراء، ليصبح أول رجل ذي توجه إسلامي صريح يصل للسلطة منذ قيام الجمهورية، الأمر الذي أغضب العلمانيين وجعلهم يتحركون لإسقاط الحكومة المنتخبة.
وبدأ العلمانيون باستدعاء كبار القضاة ورؤساء الجامعات وقادة اتحاد العمال والحرفيين والثوريين اليساريين قصد تأليبهم ضد حكومة أربكان وإطلاق حملة شعبية ضد سياساته، فتلت ذلك عدة مظاهرات اتهمت الحكومة بتهديد "أسس النظام الجمهوري العلماني".
كانت فعاليات "ليلة القدس" التي نظمت دفاعا عن القدس وبيان انتهاكات الاحتلال للأراضي الفلسطينية ورفعت فيها رموز لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحزب الله اللبناني أول العام في بلدية "سنجان" الحدث الذي حرك العلمانيين وأجج الأوضاع سياسيا، وزادها ذهاب أربكان في زيارات لدول إسلامية وطرحه فكرة الدول الثماني الإسلامية النامية.
تفاصيل الانقلاب الأبيض بتركيا
أطلق القضاء على إثر تلك الفعاليات تحقيقا بدعوى انتهاك الحكومة لمبادئ العلمانية مع ممارسة "الرجعية"، وأقدم بعدها الجيش على تحذير الحكومة من انقلاب عبر دخول "سنجان" بـ15 دبابة و20 مركبة مدرعة في 4 فبراير/شباط 1997، تلا ذلك اجتماع مجلس الأمن القومي في قصر "جنقايا" بين قادة الجيش وديميريل امتد لـ8 ساعات و45 دقيقة.
وتحت ضغوط قيادات القوات المسلحة التركية، تقرر في الاجتماع التأكيد على أن "العلمانية هي ضمان الديمقراطية والقانون" مع ضرورة تطبيق قوانينها وإغلاق مراكز تحفيظ القرآن والطرق الصوفية، مع السيطرة على الإعلام المدافع عن المطرودين من الجيش بتهمة "الرجعية"، والذي يظهر الجيش عدوا للدين، مع فرض "قانون الزي" الذي منع الحجاب في الجامعات.
فأصدر المدعي العام الجمهوري في 28 فبراير/شباط قرارا دعا فيه إلى "حماية علمانية الدولة من الرجعية الدينية" و"حظر حزب الرفاه لأنه يقود البلاد نحو حرب أهلية"، وأعلن النائب العام للمحكمة العليا حل "حزب الرفاه" بشكل دائم، فاضطر أربكان إلى الاستقالة ثم حلّ حكومته الائتلافية، وأجبر الانقلابيون الحكومة على الخروج دون حل البرلمان أو حتى تعليق الدستور.
هذه المذكرة عدت تدخلا عسكريا أدى إلى استقالة الحكومة، فاعتبر ما حدث انقلابا عسكريا "أبيض" غير معلن، وسمي لاحقا "انقلاب ما بعد الحداثة" الذي أطلقه الأميرال التركي سالم درفيسوغلو.
قيل إن القيادات التي خططت للانقلاب كانت ضمن التنظيم السري داخل الجيش "باتي كاليسما غروبو" (جماعة دراسة الغرب)، ومن أبرز قادة الانقلاب إسماعيل قرضاي وشفيق بير وتيومان كومان وشتين دوغان ونجدت تيمور وإرول أوزكاسناك.
ما بعد الانقلاب الأبيض في تركيا
شُكّل "حزب العدالة والتنمية" ردا على الانقلاب، واستطاع تحقيق الفوز في انتخابات 2002، على الرغم من أن القضاء منع أربكان وآخرين من حزبه (منهم رجب طيب أردوغان عمدة إسطنبول حينها) من ممارسة السياسة خمس سنوات، لكن الشعب رفض هيمنة الجيش على الحياة السياسية والدينية والاجتماعية، فدعم الأحزاب التي انبثقت عن "حزب الرفاه".
يوم 19 أغسطس/آب 2021، وبعد 24 عاما عن الانقلاب، اعتقلت قوى الأمن التركية 14 جنرالا متقاعدا، وذلك بعد أن أصدر المدعي العام مذكرة اعتقال بحقهم عقب تأييد محكمة الاستئناف العليا الأحكام الصادرة بالسجن المؤبد تحت تهمة "المشاركة في الإطاحة بحكومة الجمهورية التركية باستخدام القوة".
"انقلاب الساعات الخمس" عام 2016
مساء 15 يوليو/تموز 2016 أعلن الجيش انقلابه على السلطة الشرعية في تركيا، بعد استيلائه على القناة الرسمية وإجبار العاملين فيها على بث بيان إسقاط حكم أردوغان وتشكيل هيئة لاستلام السلطة، ووعدوا بإخراج دستور جديد، لكن ولأول مرة يخرج الشعب بنفسه ويواجه الجيش وقادة الانقلاب ليوقف أقصر انقلاب مرت به البلاد، ومن حينها عدّل الدستور وبدأ عهد جديد من الديمقراطية.
تركيا في عهد أردوغان
بدأت حملة "الإصلاحات الديمقراطية" بالتعديلات الدستورية والقانونية التي استهدفت سلطات وصلاحيات الجيش في الحياة السياسية، حيث نجحت حكومة بولنت أجاويد ومن بعدها حكومة أردوغان في تمرير هذه الإصلاحات بفضل مرونة قائد الجيش السابق حلمي أوزكوك، المعروف عنه تهربه من أي توتر أو مواجهة مع الحكومة لأن ذلك لا يخدم المصالح الوطنية والقومية لتركيا.
واستغلت حكومة أردوغان ذلك فحسمت مجمل التعديلات التي حدت بشكل كبير من دور العسكر في الحياة السياسية، بعد أن أصبح عدد أعضاء مجلس الأمن القومي 9 مدنيين مقابل 5 من العسكر بعد أن كان عدد المدنيين 4 منذ تأسيس المجلس قبل عقود.
كما أن قرارات المجلس لم تعد ملزمة للحكومات كما كانت في السابق، حيث أصبح الأمين العام للمجلس مدنيا ويتبع لرئيس الوزراء بعد أن شغل الجنرالات هذا المنصب لعقود، وبالعلاقة المباشرة مع رئاسة الأركان التي لم تعد تملك أي صلاحيات في نشاط المجلس الذي أصبح يجتمع مرة كل شهرين بدلا من مرة في الشهر.
كما وضعت التعديلات الدستورية تصرفات الجيش المختلفة تحت رقابة ومحاسبة البرلمان والأجهزة الدستورية بعد أن تخلت القوى التقليدية عن موقفها الداعم للجيش، وفي مقدمتها رجال الأعمال الكبار ووسائل إعلامهم الرئيسة.
وبات واضحا أن المسار الديمقراطي محمي من قبل الشارع التركي أكثر من أي وقت مضى، لأن حزب العدالة والتنمية حكم البلاد لسنوات بمفرده، كما أن جميع استطلاعات الرأي أظهرت أن حكومات أردوغان حظيت بدعم واسع من المواطنين الأتراك الذين لم يكن سهلا على جنرالات الجيش إقناعهم بأي مبرر لأي انقلاب عسكري إلا في حالة واحدة وهي خطر حزب العمال الكردستاني.
أسباب الانقلاب على أردوغان
شهدت الساحة السياسية في يوليو/تموز 2013 تفاعلات جديدة ارتبطت بالجيش التركي، حيث أقرّ البرلمان تعديلا على طريقة عمل الجيش وعقيدته العسكرية، التي استندت منذ تأسيس الدولة التركية الحديثة على "صيانة الجمهورية التركية وحمايتها"، وحددت الصياغة الجديدة مجال تدخل القوات المسلحة في الحياة السياسية في "الدفاع عن المواطنين الأتراك ضد التهديدات والمخاطر القادمة من الخارج"، والردع الفاعل والمشاركة في العمليات الخارجية التي يقرها البرلمان.
وكان حزب العدالة والتنمية الحاكم قد تقدم بطلب لتعديل المادة 35 من قانون عمل الجيش الذي صدر بعد انقلاب عام 1960، في خطوة تسعى لحرمان العسكر في تركيا من تبرير الانقلابات العسكرية "بعدم قدرة السلطات المدنية على الدفاع عن المبادئ الدستورية".
نجح الحزب في إصدار تشريعات قلّصت عدد العسكر داخل مجلس الأمن القومي، كما جعلت الأمين العام للمجلس تابعا لرئيس الوزراء، وحددت الصياغة الجديدة مجال تدخل القوات المسلحة في الحياة السياسية في "الدفاع عن المواطنين الأتراك ضد التهديدات والمخاطر القادمة من الخارج"، والردع الفاعل والمشاركة في العمليات الخارجية التي يقرها البرلمان، وذلك بدلا من "صيانة الجمهورية التركية وحمايتها".
وفي سبتمبر/أيلول 2013 وجد أكثر من مئة ضابط أنفسهم يدلون بشهادات أمام محكمة العقوبة عن دورهم في الإطاحة بحكومة نجم الدين أربكان عام 1997، وبُدئ بتطبيق ما يعرف بـ"قرارات 28 فبراير"، التي كافحت المظاهر الإسلامية، وقيدت الحياة الدينية وزجت بكل من يعارضون حكم العسكر في السجون بتهمة العمل على المس بالهوية العلمانية للبلد وتغيير نظامه.
تفاصيل انقلاب الفاشل في يوليو/تموز بتركيا
مساء يوم الانقلاب أغلق الانقلابيون شوارع أنقرة وإسطنبول، وكلفوا القوات الخاصة باعتقال الرئيس أردوغان، فهجمت القوات على فندق كلوب توربان جنوبي تركيا بالنيران والقنابل اليدوية وقتلت اثنين من حراسه، وظلت تبحث عنه لكنه كان يمكث في ملحق تابع للفندق.
وقتها وقبل وصول القوات، وصلت أردوغان معلومات عن محاولة الانقلاب فنقل من المنتجع بطائرة مروحية إلى مطار دالامان جنوبي غربي تركيا، وهناك استقل طائرة خاصة إلى إسطنبول، وعمد الطيار إلى تغيير هوية الطائرة فظهرت لنظام الرادار على أنها طائرة مدنية عادية.
وسرعان ما طلع الرئيس أردوغان على قنوات فضائية تركية يتعهد بإفشال الانقلاب ومحاكمة من يقفون خلفه، داعيا الشعب التركي للنزول إلى الشوارع لحماية الديمقراطية وإفشال خطط الانقلابيين، ثم ظهر عند الثالثة فجرا خارج مطار أتاتورك وسط هتافات مؤيديه وأنصاره.
وشكلت الاستجابة الشعبية الواسعة لنداء أرودغان تحولا مفصليا في مسار الأحداث، حيث خرج الآلاف إلى الشوارع وبعض المطارات التي كانت عناصر من الجيش قد سيطرت عليها، كما توالت تصريحات قيادات الجيش الكبرى معلنة أن المحاولة الانقلابية تزعمتها مجموعات داخل الجيش، كما نجحت قوات الأمن والقوات الخاصة في إلقاء القبض على كثير من الانقلابيين، معلنة بداية فشل الانقلاب.
وخاطب أردوغان شعبه فجر يوم 16 يوليو/تموز 2016 قائلا إن الحكومة تتولى زمام الأمور في البلاد عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة التي خلفت مقتل 250 شخصا وجرح المئات، داعيا الجيش إلى الوقوف مع الشرعية، ومشددا على أن "القوات المسلحة لن تحكم تركيا".
وسارع وزير العدل بكير بوزداغ للإعلان عن اعتقال مئات من العسكريين في شتى أنحاء البلاد ممن شاركوا في المحاولة الانقلابية، وإعفاء خمسة قيادات برتبة جنرال (فريق أول)، و29 ضابطا برتبة عقيد من وزارة الداخلية.
وما لبثت أن بدأت حملة اعتقالات بحق المشاركين في الانقلاب، حيث تم اعتقال حوالي ثلاثة آلاف عسكري بينهم ذوو رتب رفيعة، وذلك حتى ظهر السبت الموالي للانقلاب.
كما أصدرت الحكومة مذكرة توقيف بحق قائد اللواء 55 مشاة الجنرال بكر كوجاك، وأقيل خمس جنرالات و34 ضابطا رفيعا من وزارة الداخلية بأمر من الوزير أفكان علي، وأعلنت وسائل إعلام تركية أن أجهزة القضاء عزلت 2745 قاضيا، بينما اعتقل نحو مئة عسكري بقاعدة جوية بديار بكر على خلفية المحاولة الانقلابية.
وأعلن محافظ ملاطيا غداة المحاولة الانقلابية إلقاء القبض على 39 طيارا عسكريا كانوا على متن سبع طائرات عسكرية.
نتائج انقلاب 2016 الفاشل
عقب تلك المحاولة، بدأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإعادة بناء الجيش الذي كان أكثر القطاعات المتضررة من محاولة الانقلاب، وشمل ذلك حملة تطهير طالت الآلاف في صفوف القوات البرية والبحرية والجوية ممن قالت الحكومة إنهم موالون لمنظمة "فتح الله غولن" المتهمة بالتخطيط للانقلاب، كما حاولت الحكومة ملاحقة غولن باعتباره المدبر الأول للانقلاب.
ومثّل فشل انقلاب 2016 دافعا أساسيا لتنظيم العلاقات والأدوار داخل الجيش بحيث يتولى وزير الدفاع المسؤولية الأولى للمؤسسة العسكرية، بعد أن كان دوره تنسيقيا دون سلطة فعلية على المؤسسة، لتصبح تبعية رئيس الأركان لوزارة الدفاع.
وبعد أسابيع من محاولة الانقلاب الفاشلة، نشرت الجريدة الرسمية التركية قرارا يقضي بإعادة هيكلة "مجلس الشورى العسكري الأعلى"، وهو المجلس الذي يمتلك صلاحيات واسعة، فيما يتعلق بإقرار الترقيات العليا في الجيش وإحالة الرتب العليا للتقاعد أو التمديد لها.
وبعد الانتقال إلى النظام الرئاسي، أصبح مجلس الشورى العسكري الأعلى يُعقد برئاسة رئيس الجمهورية وحضور مساعده ووزير الدفاع والخارجية والداخلية والمالية والعدل والتعليم، بالإضافة إلى رئيس الأركان وقادة القوات البرية والبحرية والجوية، ونُقلت الأمانة العامة من رئاسة الأركان إلى وزارة الدفاع.
كما أُلحقت قيادات القوات البرية والبحرية والجوية بوزارة الدفاع وأُلحقت القيادة العامة لقوات الدرك وقيادة خفر السواحل بوزارة الداخلية، ضمن قرارات متتابعة خلال السنوات الأخيرة في إطار إعادة هيكلة الجيش.