تجليات الأسلوب الأخير في ديوان "غيم على قافية الوحيد" للشاعر الفلسطيني محمد لافي
نستقبل صدور ديوان "غيم على قافية الوحيد" للشاعر الفلسطيني محمد إبراهيم لافي بكثير من التقدير والبهجة، في ظل قلة ما يصدر هذه الأيام من أعمال شعرية متميزة، فمثل هذا الديوان يعيدنا إلى المكانة الرفيعة التي حظي بها الشعر العربي في ماضيه، ويؤكّد لنا استمرار حياة الشعر رغم ما يُشيعه بعض المتابعين والمناصرين لأجناس أخرى عن "موت الشعر" أو عن تراجعه وتنحّيه عن تلك المكانة التي احتلها في مقدمة أجناس الأدب العربي لزمن طويل.
ونتطلع إلى أن يُسهم هذا الديوان مع غيره من الإصدارات الشعرية المتميزة في تحريك الاهتمام بالشعر وتجديد استقباله وتلقّيه، وتأكيد الثقة بمكانته الرفيعة امتدادا لإنجازات الشعر والشعراء في العقود والمراحل السابقة.
وقد جاء هذا الديوان، الصادر حديثا (2024) عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب الفلسطينيين في رام الله، بعد مسيرة شعرية متميزة أصدر فيها الشاعر محمد إبراهيم لافي 8 دواوين، وتاسعها الديوان الجديد، تمثّل في مجموعها مساهمة أصيلة في الشعر الفلسطيني والعربي الحديث، لشاعر متمكّن أظهر موهبته المتفوقة وصوته المتميز منذ ديوانه الأول (مواويل على دروب الغربة) المنشور عام 1973، أي قبل أزيد من 50 عاما من صدور الديوان الجديد.
تحولات الشاعر
ولقد شهدت العقود الخمسة تحوّلات عامة وخاصة طوّحت بالشاعر، فتنقّل بين أكثر من بلد، وعاش تجارب مختلفة على الصعيد العام والخاص. فعاش لاجئا منذ التهجير الأول من قريته الفلسطينية الأمّ التي ولد فيها قبيل النكبة عام 1946 (قرية حتّا/قضاء غزة) وتنقل أول الأمر لاجئا مع أسرته في فلسطين (الضفة الغربية) حتى استقر به الأمر في قرية العوجا قرب أريحا، وفيها درس مراحله التعليمية وصولا إلى الثانوية العامة في مدرسة عقبة جبر الثانوية عام 1965.
وبعد نكسة يونيو/حزيران 1967 انتقل إلى الأردن وعمل في التعليم مدرسا للغة العربية استنادا إلى قدراته الأدبية الذاتية، فدرّس في الزرقاء (مدرسة الفلاح الثانوية الخاصة) وانتقل بعد منتصف السبعينيات إلى سوريا لعدة سنوات، والتحق بالمقاومة في لبنان عاما واحدا هو عام الخروج من بيروت 1982.
ثم عاش في سوريا لعدة سنوات، وآب من جديد ليستقر في الأردن منذ بداية تسعينيات القرن العشرين حتى اليوم، وخلال هذه السنوات التحق بالعمل في الإذاعة الأردنية عام 1996 معدا ومقدما للبرامج الثقافية، منها برنامج (شاعر وقضية) وذلك بعد إضراب شهير رعته رابطة الكتاب الأردنيين، وشارك فيه عدد من الكتاب الذين أعلنوا الإضراب عن الطعام في مبنى الرابطة اعتراضا على ما آلت إليه أحوالهم، وعدم تأمين وظائف لائقة بهم. كما شارك لافي طَوال هذه السنوات في النشاط الفكري والثقافي، فكتب في الصحف والمجلات، وشارك في اللقاءات الأدبية والثقافية، إلى جانب دعمه وتشجيعه للأصوات الأدبية والشعرية الجديدة.
وإلى جانب ديوانه الأول أصدر ديوانه الثاني منتصف السبعينيات بعنوان (الانحدار من كهف الرقيم) في عمان، فحقّق لتجربته وشعره حضورا باقيا ضمن الجيل الرائد في تجربة الشعر الفلسطيني والأردني، وأما في ثمانينيات القرن العشرين فاكتفى بـ(قصيدة الخروج) المنشورة عام 1985 ليسجل تجربة فاصلة جماعيا وذاتيا هي تجربة هزيمة المقاومة وخروجها من بيروت. وصمت بعدها صمْتَ المتأمل الحذر ليعود من جديد مستأنفا مسيرته الشعرية المتجددة.
ديوان (غيم على قافية الوحيد)
صدر الديوان الجديد لمحمد لافي متأخرا بعض الشيء عن ديوانه الثامن (ويقول الرصيف) المنشور عام 2010. عنوان الديوان الجديد هو الجملة الختامية لقصيدة (غيم) المهداة للأديب الفلسطيني المعروف محمود شقير، وهي قصيدة يكثف عنوانها الكلمة المفتاحية المتكررة قصدا والتي تبدأ بها جمل القصيدة ذات الصيغة الاسمية غالبا، وتنتهي في سطورها الأخيرة إلى السطور الآتية (ص197):
غيمٌ على رسائلِ البريدِ
غيمٌ على القريبِ والبعيدِ
غيم على ………….. قافيةِ الوحيِد
والغيم يحمل دلالة مزدوجة لأنه يخفي ويظهر، ولأنه قد يحمل الحياة وقد يحمل الموت، وهو في سياق القصيدة يغلب أن يدل على الالتباس وغموض المرحلة، والاختلاط الذي أصاب الناس وأصاب المبادئ، وفي المحصلة تأثر به الشاعر وتفاعل معه شعره. فالوحيد هو الشاعر وقافيته مجاز لشعره الذي يحاول أن يستعين به ليرى ما وراء الغيوم أو ليستوضح غموضها وما الذي تعِد به وراء اسودادها ودكنة ألوانها.
تجلّيات الأسلوب الأخير
معظم قصائد الديوان مكتوبة في العقد الثامن من عمر صاحبه، فهو خلاصة عمر وتجربة في آن، يمكن أن ننطلق في قراءته من فكرة (الأسلوب الأخير/المتأخّر) وهو مصطلح استعمله المفكر والناقد الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد (1935-2004) وأطلقه في بعض مقالاته المتأخرة وصفا لأسلوب موسيقيين وكتاب أنتجوا في نهايات أعمارهم وتجاربهم أعمالا مقلقة مختلفة لا تسير على النمط المألوف المنظم، وهو مفهوم جامع تلتقي فيه خلاصة الرؤية الفكرية مع ما تتطلبه من صيغ لغوية وفنية تنجدل فيها الخبرة مع الخلاصة الكونية للتجربة. وقد ربط تودروف هذا الأسلوب -عند سعيد- بتأثير المنفى، فهو في جوهره التجلي الأعمق لأسلوب المنفى في اللغة والموسيقى والأدب والفكر. إنه أسلوب يمتلك اختلافه وخصوصيته، ولا تكاد تنطبق عليه بيسر التصنيفات والقواعد الاعتيادية.
إذا نقلنا هذا المفهوم إلى الشعر وإلى تجربة محمد إبراهيم لافي فإن ديوانه الأخير (غيم على قافية الوحيد) يمثل هذه الصيغة الأسلوبية خير تمثيل، فهو آخر أعمال الشاعر، أنجزه في السنين الأخيرة خلاصة لرحلته الشعرية المتميزة، فضلا عن وعيه بأنه يقول قولا أخيرا أو نهائيا بما يشبه الخلاصة أو النتيجة التي آلت إليها الأمور. ويبدو الشاعر في هذا الديوان أقل تشبثا بالتنظيم والدقة والمحافظة النسبية التي طبعت أعماله السابقة، ليس من باب التفريط وإنما بما يعكس الحنكة والحكمة المتأخرة، التي تجعل الشعر ميدانا للقول الشعري المفتوح، المبني على حرية الشاعر المتمكن غير المعني بإثبات إتقان القواعد والحدود.
في مستوى الشكل أو النوع -على سبيل المثال- يقول محمد لافي -ضمنا- إن الشعر الحقيقي طاقة خارج الشكل، أو إنها يمكن أن توجد في أشكال مختلفة، في قصيدة البيت، وفي التفعيلة، ويمكن أن توجد خارج الوزن أيضا، إنها ليست في شروط الشكل ومحدداته الكمية، إنها في مكان آخر علينا أن نفتش عنه، وأن نتيح للشاعر بعض المغامرة للعثور على الطاقة الخفية للشعر في التفاصيل والهوامش والذكريات المنسية، مهما يكن الشكل الذي ترتسم فيه، وفي ضوء ذلك تجاورت أو اجتمعت قصائد ومقطوعات عمودية وقصائد تفعيلة ونصوص شعرية بأشكال متعددة، يمثل اجتماعها سمة من سمات الأسلوب الأخير الذي يقبل الشعر عابرا للشكل، ومتمردا على الانتماء إلى نوع واحد بعينه.
كما يتضح الوعي بالآخِرية في حضور عبارة (آخِر) ومشتقاتها -بمعنى نهاية الشيء وأقصاه- وتردّدها في الديوان، مرات كثيرة، وهي من أكثر الألفاظ دورانا وترددا، وليس ذلك مجرد مظهر معجمي اعتاد عليه الشاعر وإنما هو عمق إحساسه بهذه العبارة وما تحيل إليه من اتساع دلالي في سياق تجربة لافي وفي إحساسه بالوجود المتأخر، وبالفرصة الأخيرة للقول الشعري الذي يمكن أن يضفي على الحياة لونا من ألوان البقاء والخلود.
وبهذا المعنى نتأمل التراكيب والجمل الشعرية التي تتأسس على عبارة (آخر) وأخواتها، ومن أكثرها دلالة قصيدة (آخر وصاياي للشبيه)، التي حملت المفردة في عنوانها إلى جانب ربطها بدلالة الوصية التي تعد صيغة من صيغ الكلام والموقف الأخير. وكذلك قصيدة (هوية) التي تتميز بأنها تأسست على جمل تبدأ جميعها بهذه المفردة:
آخر الرمال، آخر الصحراء، آخر الغزاةِ، آخر الفوضى، وآخر السيوف، آخر الرماة، آخر العواء والذئاب.
آخر الأسماء والسماء في يدي النحيلة
وآخر الموت الذي يأتي على القبيلة.
آخر من مر هنا.
آخر الصعاليك أنا! (ص11)
وتتكرر هذه اللفظة ومشتقاتها في جمل كثيرة على امتداد الديوان كأنها تجلّ واع أو غير واع لما سماه في العنوان بقافية الوحيد، ومن أمثلتها:
خذ من يدي يا حبيبي/ آخر الرايات (24) آخر شبابيك الليل أنا (216) آخر نجمة في الليل/هي عيني التي تحرسك (222) أنا آخر غجري… نسيه الله على حواف المدن الجاحدة (257) هو لا يعترف.. أن آخر ما ظل بين يديه يموت (32) وأنا آخر الجالسين على العتبة (114) لست نبيا/ لكني آخر طير في … الصحراء (116) لأجيئك في آخر الخطو يا والدي/كفنا … في قصيدة! (138)
جماليات القصيدة القصيرة
انتقل لافي في بداية تسعينيات القرن العشرين (مع ديوانه المكثف المهم: نقوش الولد الضال) إلى شكل (القصيدة القصيرة) أو البرقية الشعرية التي تكفي لالتقاط لمحة ناقدة، أو استعادة ذكرى، أو سفك دمعة، بعيدا عن القصيدة الطويلة أو ذات الطول الاعتيادي التي ظهرت في دواوينه قبل هذه المرحلة.
نستطيع أن نربط هذا التغير بعوامل ذاتية وعامَّة تتصل بالانكسار والانكشاف الذي شهدته تجربة النضال والكفاح الفلسطيني، وعُدّ الخروج من بيروت حدّه التاريخي وما تبع ذلك من انهيارات كشفت هشاشة كثير مما كان المثقفون والمناضلون يعوّلون عليه.
كتب لافي (قصيدة الخروج) ونشرها منتصف الثمانينيات في رثاء المرحلة السابقة ووداعها ونقدها، وبدا شكل القصيدة القصيرة ردّا فنيا على ارتفاع الصوت وكثرة الصخب في المراحل الثورية السابقة تلك التي انتهت بالهزيمة، وهي كذلك صورة من صور الخلاصة والكثافة مبنى ومعنى، ولهذه التجربة امتداد وتطور في دواوينه السابقة وفي ديوانه الجديد، فهذا الشكل حاضر بقوة في معظم قصائد الديوان الجديد مع الإفادة من الخبرات التي كوّنها خلال عقود في إحكام القصيدة القصيرة التي تقتضي التعبير المكتمل عن التجربة والتوجه إلى التفاصيل والمعاني والتعبيرات بأقل عدد من الجمل والكلمات. في هذه القصائد هناك عناية بطرق الابتداء والاختتام، وبطريقة بناء القصيدة بحيث لا تسمح بالإطالة والاستطراد، وتكثف التجربة وتلتقط المفارقة على نحو كلي ومؤثر.
شعرية الحياة اليومية والشعبية
ظل محمد لافي في قطاع واسع من شعره وفيا لشعرية الحياة اليومية، ولبطولة العادي والشعبي، وفيًّا للرصيف بما هو مجاز لحياة الهامش بعيدا عن شعرية المركز والنخبة.
يتضح هذا في مديحه للصعاليك القدامى والجدد وإعلان انتمائه لهم، ويتّضح في التناصّ مع مكوّنات حيوية من لغة الحياة اليومية، على مستوى الألفاظ والعبارات والتراكيب، وصولا إلى استحضار ألوان الغناء والشعر الشعبي ودمجها في شعره "الفصيح" وليس ذلك في رأينا إلا امتدادا لتقدير شعرية الحياة اليومية والانتماء الحي إليها. يظهر ذلك في بعض القفلات المحكمة التي تقوم على الاختيار أو الإنشاء، اختيار جمل أو أبيات من الشعر الشعبي أو إنشاء أبيات تتخلل نسيج شعره أو تشكل قفلة لقصيدة مع إدماجها بطريقة شديدة الإحكام لأن الانتقال من المستوى الفصيح إلى المستوى المحكي يحتاج إلى تقنيات سياقية ولفظية متشعبة.
(في آخرة الليل،/وفي آخر ما مد الله من الطرقاتْ
أركض خلف نشيدي الأعمى/ ليقول القلب لدفتر أطلالك:
يا حبّ …. سلامات؟!) (ص26)
فهذا المثال يجمع بنية القصيدة البرقية مع الروح الشعبية في تحية الختام ولفظة (سلامات) ذات الوقع المؤثر في سياق طللي محدّث. وإذا كان الحضور هنا للروح الشعبية أكثر من الألفاظ المحكية أو العامية فإنه في قصائد أخرى ينتقل من الفصيح إلى العامي كما في إحدى قصائد (عزف منفرد) إذ تنتهي بسطرين من الشعر المحكي يجري على وزن ما سبقه من الشعر الفصيح على وزن البحر البسيط (ص24):
يا عازفَ الليلِ لا ترجُـ"و" مودّتَهم
تبدَّلت فيهمُ الأسفارُ والغاياتُ
(والصاحبْ اللي تودّه قدر أنَّهُ مَاتْ
جدِّدْ بدالَه ولا تندَم على اللِّي فات!)
وكذلك يظهر ذلك في استعمال عبارات الخطاب مثل: (يا خال) التي تكررت في أكثر من قصيدة، وقد يبني قصيدة قصيرة مستأنسا بمثل شعبي أو مادة محكية مثل قصيدة (تيه) (ص139) التي تعدّ صياغة شعرية متينة التناصّ مع المثل الشائع في فلسطين والأردن (بين حانا ومانا ضاعت لِحانا):
(منذ عشرين عامًا..يَضِلّ المسارَ سُرانا
نتوزّع ما بين حانا ومانا
وعلى كلِّ مفرِق دربٍ
تضيعُ لِحانا)
نربط هذه الروح الشعبية في سياق تجربة محمد لافي بالنزوع الأصيل إلى الهامش دون المركز، وإلى الانتماء إلى الناس العاديين دون النخبة، وتقدير الصعاليك الخارجين من الهوامش أكثر من الزعماء والقادة ومراكز القوى.
مبدأ الشبيه: بلاغة التجريد ولعبة المرايا
يخاطب لافي شبيهه أو قرينه، في غير قصيدة، ويمكن اعتبار هذا المدخل الشعري ضربا من ضروب مواجهة الذات والنظر في المرآة. يظهر ذلك في قصيدة عنوانها (أنا والشبيه)، ويظهر في قصيدة (آخر وصاياي للشبيه) كما يظهر في مقاطع وقصائد أخرى تحيل إلى رؤية الشبيه، أو النظرة الصريحة في المرآة، قد تكون هذه الطريقة إحدى صور الغنائية التي تتيح معاينة الذات أو صورٍ أخرى منها لتتأملها وتدقق فيها. إنها لون من ألوان محاسبة النفس ومراجعتها في سياق شعري، وفيها استعمال آخر لألوان التجريد عبر مخاطبة النفس بطرائق متعدّدة في الشعر العربي، كما أنه من أطوار المرآة بأبعادها الشعرية والنفسية المركبة. تتشكل الأنا وفق جاك لاكان، في طور المرآة، عندما يبدأ الطفل وعيه بانعكاس صورته في المرآة، ويضع "هذا الشكل المرآوي فاعلية الأنا قبل تحديدها الاجتماعي في اتجاه خيالي"، وهي "لحظة في نمو الطفل الصغير يسرّ فيها وهو يتأمل صورته في المرآة من التوافق السحري بين حركاته وحركات الصورة المقابلة له… حدود الحقيقة والوهم -كما يقول لاكان- مشوشة في هذه المرحلة المبكرة، فالأنا التي هي نافذتنا على ما يسمى بالعالم الحقيقي هي في الواقع نوع من الخيال، حيث يتعامل الطفل مع صورته باعتبارها حقيقة مع أنه يعلم أنها وهمية.." (تيري إيجلتون، مشكلات مع الغرباء، ترجمة عبد الرحمن مجدي ومصفى فؤاد، مؤسسة هنداوي،2017، ص13).
عندما يستعيد لافي وغيره من الشعراء مثل هذه الصورة الانعكاسية فإنها تنفتح على عدة وظائف، في مقدمتها الوعي الطفولي للشاعر أو وضعيته الطفولية، التي يتلمس فيها ذاته ويحاول أن يبدي وعيه بها، وكثيرا ما تكون الفرصة مواتية لحساب النفس ونقد الذات وتأويل رحلتها الطويلة وتقييم مسيرتها الخاسرة. هذا القطاع النفسي المتصل بالطفولة وطور المرآة شديد الأهمية في تجربة محمد لافي في هذا الديوان وفي دواوينه السابقة.
وإلى جانب ما أبرزناه فيما سبق نجد في الديوان مجموعة من القصائد الغنائية المركّزة التي تحمل عنوان (عزف منفرد) حتى أمكن أن يكون هذا العنوان تصنيفا للقصائد إلى جانب وظيفة العنونة. يحيل هذا العنوان على الطاقة الغنائية للقصائد بمنزعها الرؤيوي وصياغتها الإيقاعية والتصويرية الملائمة للغنائية الشعرية ذات المنابع الأصيلة في تجربة الشعر العربي، ويعزز هذا الصنف الحضور الثري للأنا في مواجهة العالم وفي مواجهة الزمن، ذلك أن الغنائية تقوم جوهريا على نظرة عميقة في مرآة الذات أو مرآة الداخل، فهي تنسج صلات خفية مع طور المرآة والشبيه.
ويقرب منها تلك القصائد التي تتأسس على استرجاع لحظات ضائعة ومكثفة من السيرة الذاتية والذكريات البعيدة التي تفجرها القصيدة وتغتني بها، وتعيد أثرها من جديد. فالسيرة المستعادة عند لافي هي سيرة وجدانية عمادها أشياء وتفاصيل قديمة تبقت وترسبت في النفس، وليست أحداثا واقعية أو تاريخية ذات أهمية خارجية، فهي إذن سيرة نفسية أو وجدانية تغذي ما أسميناه -تبعا لجاك لاكان- بطور المرآة عند الشاعر.
أخيرا، يبدو الشعر في تجربة محمد لافي وحياته أبعد وأوسع من جنس أدبي يتقن أداءه، إنه الحياة نفسها بعبارة موجزة، وهو نافذته الرحبة التي تتيح له أن يعبّر عن الحنين والمقاومة والمجابهة والانكسار، يستعيد طفولته مرة في حنين غامر إلى الولد الذي يأبى أن يكبر رغم ثقل السنين، ومرة ينتقد المرحلة ويهجو ما آلت إليه بعد سقوط آخر الرايات. وفي مستوى جمالية الشعر يجتهد دوما إلى المواءمة بين المبنى والمعنى، بين ما يقال وكيف يقال، ذلك أنه شاعر مثقل بالمعاني والخسارات، وليس باحثا عن صور فاتنة.