رحلات عربية وإسلامية: تجارب ابن جبير وابن بطوطة والحسن الوزّان
طوّر العرب والمسلمون أدب الرحلة في مراحل مبكرة من تاريخ الثقافة العربية، ووظّفوه توظيفا أدبيا وحضاريا حسنا، لتصوير أحوال الشعوب والجماعات والحضارات، ونتوقف في هذه الإطلالة عند تجارب بارزة مذكورة من تجارب أدب الرحلة، تتمثل في تجارب: ابن جبير وابن بطوطة وناصر خسرو وحسن الوزان.
وهؤلاء من أعلام الرحلة العربية والإسلامية في القرون الوسطى وما بعدها، وتقدم تجاربهم ورحلاتهم نوافذ تاريخية وثقافية ما نزال نستمتع بها إلى اليوم، إلى جانب ما فيها من الدروس والعبر التي تستمد من تنوع البشر واختلاف الجماعات.
اقرأ أيضا
list of 2 items"ساعته وتاريخه".. الحلقة الأولى تقتنص المشاهدات وتبدد مخاوف أسرة نيرة أشرف
رحلة ابن جبير
رحلة ابن جبير الأندلسي من رحلات القرن السادس الهجري، وهي رحلة دينية مبعثها الحج أول الأمر، ككثير من رحلات العرب والمسلمين، فقد نوى أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي حجّ بيت الله وزيارة مكة والأماكن المقدسة في المشرق الإسلامي، فغادر موطنه الأول مدينة غرناطة الأندلسية في 8 شوال 578هــ، (1183م)، واستثمر مسيرة الحج ليجول في بلدان الشرق الإسلامي فطالت رحلته وبلغ زمنها حتى رجوعه إلى موطنه مدة سنتين و3 أشهر ونصف.
زار في رحلته مصر وبلاد الحجاز، وفي طريق العودة زار العراق وبلاد الشام. ومنها ركب البحر إلى صقلية حتى رجع إلى غرناطة. ولهذه الرحلة أهمية مضاعفة نظرا إلى تأنق ابن جبير في كتابتها بأسلوب أدبي سردي منظم مشوق، وتقرب أحيانا من أدب اليوميات، كأنه كان يتقصد تسجيل وقائعها أولا بأول، مما قرّبها من الدقة والتنظيم التاريخي، ومن الناحية اللغوية تميل لغته إلى اللغة البسيطة، وإلى لغة الحياة اليومية، لا تبعد عن الفصاحة وليست عامية أو محكية، ولكنها تتأثر بالمحكية في كثير من طبائعها كاستعمال الضمائر، واستعمال مفردات تنتمي إلى المعجم اليومي والحضاري، حتى لو لم تكن ألفاظا معجمية صرفة.
وللرحلة أهمية من جوانب تاريخية صادفت زمن رحلته، منها: موافقتها لمرحلة الحروب الصليبية، ووقوع أجزاء ومدن من بلاد الشام خاصة تحت احتلال الفرنجة. وقد زار بعض هذه المدن المحتلة ووصفها في سياق رحلته، وكما جاء في مقدمة الرحلة فقد عُني ابن جبير عناية خاصة بوصف النواحي الدينية والمساجد والمشاهد وقبور الصحابة ومناسك الحج، ومجالس الوعظ والدرس والعلم، ووصف المستشفيات والمرافق الحضارية والعمرانية التي تسترعي الانتباه، كما تعرض لأحداث الحروب والصراع الدائرة في زمنه، وقدم صورة طيبة عن العلاقات الحسنة التي تربط بين المسلمين والمسيحيين من أهل البلاد، خلافا لعلاقتهم مع الصليبيين الغزاة، وكل ذلك يدل على موضوعيته ودقة ملاحظته لما مر به في رحلته من مشاهد أو علاقات أو عادات أو ثقافات.
ومن الصور المهمة في رحلته وصفه لطقوس رمضان في مكة فقد وصل إليها قبيل رمضان، ليقضي الشهر الفضيل مع أهلها، فوصف عادات أهل مكة في هذا الشهر الفضيل عند المسلمين، والاحتفال به، وبمشاهده المميزة كصلاة التراويح وقيام الليل، ومجالس الذكر والعلم، وقراءة القرآن، وحفظه وختمه، وصور احتفالات عيد الفطر السعيد بعد انتهاء الشهر الكريم، وما يتخلله من احتفالات ومباهج يمكن أن نعدّها صورة من صور ثقافة المسلمين في الاحتفال بالأعياد الدينية، كل ذلك بأسلوب أدبي أقرب إلى السهولة، مما يجعل من رحلته وثيقة أدبية وثقافية مهمة للمرحلة التي وصفها وللبلاد التي تجول فيها.
رحلة ابن بطوطة الطنجي (703-776هــ) (1304-1375م)
وهي الرحلة المسماة بــ(تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)، لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، المعروف بابن بطوطة الطنجي، نسبة إلى مدينته وبلده (طنجة) المغربية على مضيق جبل طارق في ملتقى المتوسط مع الأطلسي، وهي أبرز الرحلات في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي. وأفضل طبعاتها العلمية بتحقيق عبد الهادي التازي، المنشورة عن أكاديمية المملكة المغربية عام 1997م.
وفي هذه الرحلة مسألة مهمة ذلك أن ابن بطوطة رحالة وليس كاتبا، ولذلك استعان بمحرر وكاتب هو الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد ابن الشيخ الفقيه العالم المتفنن أبي القاسم محمد ابن جُزَيّ الكلبي الغرناطي، كما يسمي نفسه في أول مقدمة الرحلة. ويمكن أن نتصور أن ابن بطوطة بعد أن جال نحو 3 عقود، كان يسجل ملاحظات وتقييدات ثم أملى الرحلة أو حدث بها ابن جزي الكلبي ليقوم هذا بدوره بصياغتها معتمدا على المادة التي يرويها ابن بطوطة. ولكننا لا نستطيع على وجه الدقة الفصل بين الدورين فصلا بيّنا وتامّا.
وتفيدنا مقدمة ابن جزي بطريقة تأليف الرحلة ودوافع كتابتها، بعدما عاد ابن بطوطة من رحلاته، وفاء إلى بلاط السلطان المغربي أبي عنان وظلال دولته:
"وكان ممن وفد على بابها السامي وتعدى أوشال البلاد إلى بحرها الطامي الشيخ الفقيه السائح الثقة الصدوق جواب الأرض ومخترق الآفاق بالطول والعرض أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة المعروف في البلاد الشرقية بشمس الدين.
وهو الذي طاف الأرض معتبرا وطوى الأمصار مختبرا وباحث فرق الأمم وسبر سير العرب والعجم ثم ألقى عصا التسيار بهذه الحضرة العليا…. ونفذت الإشارة الكريمة بأن يُملي ما شهده في رحلته من الأمصار وما علق بحفظه من نوادر الأخبار ويذكر من لقيه من ملوك الأقطار وعلمائها الأخيار وأوليائها الأبرار، فأملى من ذلك ما فيه نزهة الخواطر وبهجة السامر والنواظر، من كل غريبة أفاد باجتلابها، وعجيبة أطرف بانتخابها.
وصدر الأمر العالي لعبد مقامهم الكريم المنقطع إلى بابهم المتشرف بخدمة جنابهم محمد بن محمد بن جزي الكلبي أعانه الله على خدمتهم وأوزع شكر نعمتهم بأن يضم أطراف ما أملاه الشيخ أبو عبد الله من ذلك في تصنيف يكون على فوائده مشتملا، ولنيل مقاصده مكملا، متوخيا تنقيح الكلام وتهذيبه، معتمدا إيضاحه وتقريبه، ليقع الاستماع بتلك الطرف ويعظم الانتفاع بدرها عند تجريده عن الصدف.
فامتثل ما أمر به مبادرا، وشرع في منهله ليكون بمعونة الله على توفية الغرض منه صادرا، ونقلت معاني كلام الشيخ أبي عبد الله بألفاظ موفية للمقاصد التي قصدها موضحة للمناحي التي اعتمدها، وربما أوردت لفظه على وضعه فلم أخل بأصله ولا فرعه، وأوردت جميع ما قيده من الحكايات والأخبار، ولم أتعرض لبحث عن حقيقة ذلك ولا اختبار، على أنه سلك في إسناد صحاحها أقوم المسالك وخرج عن عهدة سائرها بما يشعر من الألفاظ بذلك.
وقيدت من أسماء المواضع والرجال بالشكل والنقد ليكون أبلغ في التصحيح والضبط، وشرحت ما أمكنني شرحه من الأسماء الأعجمية لأنها تلتبس بعجمتها على الناس، ويخطئ في فك معماها معهود القياس، وأنا أرجو أن يقع ما قصدته من المقام العلي أيده الله بمحل القبول، وأبلغ من الإغضاء عن تقصير المأمول..". (رحلة ابن بطوطة، 1/153 (ط.التازي).
وعندما ينتقل ابن جزي لإحالة الكلام إلى ابن بطوطة يعلم القارئ في أول الأمر بتاريخ الرحلة وغايتها الأولى:
"كان خروجي من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس الثاني من شهر رجب الفرد عام خمسة وعشرين وسبعمائة معتمدا حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام منفردا عن رفيق آنس بصحبته، وركب أكون في جملته…وسنّي يومئذ اثنتان وعشرون سنة"
(1/153).
ولخص كراتشكوفسكي مسار رحلة ابن بطوطة في تجواله الطويل استنادا إلى مادة الرحلة نفسها، وما رسمته من مسالك وممالك:
"بدأ تحركه من طنجة مارا في طريقه على جميع المدن الكبرى بشمال أفريقيا حتى بلغ الإسكندرية ثم غادرها إلى دمياط فركب النيل إلى القاهرة (أيام المماليك) ومن القاهرة تابع ابن بطوطة النيل إلى أسوان، ومنها اتجه شرقا مخترقا الصحراء حتى بلغ مرفأ عيذاب على البحر الأحمر وهي الفرضة التي كانت تتجه منها السفن عادة إلى جدة.
غير أن سير السفن المصرية بالبحر الأحمر كان متوقفا آنذاك بسبب الحرب بين قبائل البجة والمماليك، مما اضطر معه ابن بطوطة إلى العودة إلى القاهرة. وهناك واتته فكرة زيارة الشام لينضم إلى قافلة الحاج (المغربي) من دمشق، واغتنم هذه الفرصة فزار في طريقه فلسطين مارا على بيت المقدس كما زار الشام فبلغ أنطاكية واللاذقية.
وعقب زيارته لحلب أمضى فترة من الوقت بدمشق ثم انضم إلى قافلة الحاج فزار مكة والمدينة. وأعقب هذا زيارته لمشاهد الشيعة وقبر علي بالنجف، ثم مر بالبصرة في طريقه إلى فارس فزار شيراز وأعقبها بالموصل وديار بكر من مدن الجزيرة [الفراتية] ثم رجع إلى الكوفة وغادرها إلى بغداد. وكان العام قد انصرم مما يسر عليه فرصة تأدية الحج مرة ثانية، ومن هنا أقام بمكة الفترة من عام 729 إلى 730 حتى عوفي من مرض شديد كان قد ألم به.." (كراتشكوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي، 1/424).
وقارن كراتشكوفسكي بين ابن بطوطة ومعاصره البندقي/الإيطالي (ماركو بولو) وقدّم ابن بطوطة استنادا إلى مشاهداته ومعلوماته واتساع الرقعة العالمية التي قدّمتها رحلاته والمسافات الطويلة التي قطعها في تجواله:
"ابن بطوطة آخر جغرافي عالمي من الناحية العملية، وقد جاوز تجواله مقدار 175 ألف ميل فهو بهذا يعد منافسا خطيرا لمعاصره الأكبر منه سنا ماركو بولو البندقي.." (كراتشكوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي، 1/421)
وقد اهتم ابن بطوطة بأمور كثيرة جعلت لرحلته ولتدوينها قيمة مضاعفة لا تتعلق بالجغرافيا وحدها:
- وصف الثقافات والعادات والتقاليد فله ولع بالتقاط طباع الناس وتسجيلها، كما له ولع بالوصف الدقيق، والالتفات إلى ما يلبس الناس وما يأكلون وما يغنون ونحو ذلك من صور الثقافة.
- اهتم بالأعلام والأشخاص من رجال الدين والأدباء والعلماء ممن لقيهم أو رحل بصحبتهم أو زارهم، ووصفهم وأضاف الكثير إلى معرفتنا بهم. شملت رحلته بقاعا واسعة شرقا وغربا، وكان يعمد إلى المقارنة وإلى الموازنة بين الشعوب والجماعات.
- كان ميالا إلى الاقتراب من حياة الناس وإلى العيش بينهم ومخالطتهم بموهبة نادرة، وبخبرة اكتسبها على مر السنين، مما عمق مادته وجعله يطلع على أمور بعيدة عن عيني الرحالة أو المسافر العادي، ومن الطريف أنه كثيرا ما تزوج من البلاد التي وصلها وأقام فيها سنينا خلال رحلاته.
- في رحلاته ورواياته بعض العجائب والغرائب مما يجعل مادته القصصية مشوقة جذابة للقارئ، ويمنح كتابه صبغة أدبية مرموقة.
رحلات الحسن الوزان أو ليون الأفريقي
الحسن بن محمد الوزان رحالة وجغرافي ومؤرخ وأديب عربي الأصل، اضطرته تصاريف الحياة إلى أن يحمل اسمين ويعرف بهما، اسم عربي واسم أوروبي، وهو بصورة ما نتاج هذين العالمين اللذين انتمى إليهما وحملته حياته على الاتصال بهما. وكتب مؤلفاته من موقع معرفته وخبرته التي كونها معتمدا على مصادر متعددة، من أهمها خبرته المباشرة وتجربته الفريدة التي مكنته من معرفة جوانب من العالمين الإسلامي والأوروبي في زمانه.
ولد الحسن الوزان في غرناطة قبيل سقوطها نحو عام 894هـ/1489م، وهاجر أو ارتحل طفلا أول مرة رفقة أسرته إلى الضفة الأخرى للمتوسط، مع هجرة الأسر المسلمة باتجاه ممالك المغرب، واستقرت أسرته في مدينة فاس المغربية، وهناك نشأ وتلقى علومه الأولى.
وكتابه المشهور (وصف أفريقيا) كتاب جغرافي وكتاب رحلات في الوقت نفسه، فهو يستند في وصف البلدان والجماعات استنادا إلى خبراته ورحلاته المباشرة، على عادة كثير من الجغرافيين المسلمين القدامى.
علّمته هذه الحياة أن يكون موضوعيا يلزم الحق دون أي اعتبار، وهو من قلّة لزموا جانب الاعتراف، فعندما عرض لأفريقيا قال (لا يخفى علي ما يصيبني من خجل عندما أعترف وأكشف عيوب الأفارقة، فأفريقيا في الواقع هي التي أرضعتني، وفيها كبرتُ وقضيتُ أجمل وأطول قسط من حياتي، لكن عذري عند الجميع هو ما أضطلع به من دور المؤرخ الذي يلزمه قول الحق الواقع دون أي اعتبار).
وابتداء من بلوغه سن الـ16 انطلق في رحلات متعددة، منها رحلته الأولى التي بلغ فيها (تمبكتو) في مالي اليوم، وجاب قارة أفريقيا ووصفها وصفا دقيقا في كتابه، وكان يتظاهر بأنه تاجر فيمضي مع التجار، لكنه في حقيقة الأمر كان يبحث عن ثمار الرحلة فيما يحصل عليه من معرفة مباشرة. ويذكر كراتشكوفسكي أنه تمكن من زيارة مصر وبلاد العرب وإيران والشام وأرمينيا وبلاد التتار، وكان بمكة ومصر عام 923هـ. هذا إلى جانب رحلاته التي شملت معظم بلدان أفريقيا في زمانه.
انتهت هذه الرحلات أو انقطعت عنوة عندما وقع أسيرا قرب جزيرة جربة التونسية، فقد تعرض للسفينة قراصنة من جزيرة صقلية ويبدو أن منظره المميز وهيئته اللافتة قد نبهتهم إلى أهميته وشخصيته، فلم يعاملوه كغيره، بل نقلوه إلى نابولي ثم روما حوالي عام 1520م، وأهدوه إلى البابا ليون العاشر المعروف بمذهب النزعة الإنسانية المستنيرة، وقد أعجب به البابا فقربه منه ومنحه اسمه فصار يدعى ليون الأفريقي، وتعلم في روما لغات جديدة ألف بها بعض كتبه الأوروبية، ويقال إنه اعتنق المسيحية وعمّد في 6 يناير/كانون الثاني سنة 1520م.
وقد تنبّه الروائي والكاتب الفرنسي لبناني الأصل (أمين معلوف) إلى تعقيد هذه الشخصية وثرائها فكتب روايته الحديثة (ليون الأفريقي) مستوحيا مشكلة الهوية استنادا إلى تجربة الحسن الوزان، وتنقله بين هويتين متصارعتين، ومع ما في رواية معلوف من تشويق ومتعة فإنها تظل عن حادثة فردية لا يمكن تعميمها ولا يمكن لها أن تحل مشكلة صراع الهويات والحضارات، فضلا عما تعرض له الوزان من إكراه في هذه العملية المعقدة من الانتقال إلى المسيحية وإلى الحياة الأوروبية.