هدية إسلامها أصبحت وقفًا.. إنفاذ وصية جريزلدا الطيب وحسرة على منازل مبدعين سودانيين
الخرطوم- في ضحى يوم خرطومي هادئ سلمت الأستاذة فادية مصطفى مفاتيح منزل خالها العلامة والشاعر الراحل عبد الله الطيب (1921 – 2003) لوكيل جامعة الخرطوم، الذي رافقه بعض المسؤولين بالجامعة إنفاذًا لوصية الحاجة جريزلدا الطيب (1925 – 2022)، حدثٌ رغم الهدوء الذي أحاطه فإنه يفتح أسئلة كثيرة عن منازل المبدعين ومآلاتها.
في حي من أحياء الخرطوم الراقية (الامتداد) أو ما يعرف بـ(العمارات)، أدارت فادية مصطفى مفتاح باب فيلا أنيقة ليدخل ملاكها الجدد الذين آلت لهم بالمحبة.
الجزيرة نت سألت فادية عن وصية جريزلدا الطيب، "أوقفت الحاجة جريزلدا الطيب (جوهرة) عقارها رقم 12، مربع 12 شرق الامتداد الخرطوم، العمارات شارع 17 وقفًا خيريًّا لذكرى زوجها العلامة عبد الله الطيب".
وأوضحت فادية في إفادتها بعض تفاصيل الوقف: "الوقف لصالح جامعة الخرطوم، كلية الآداب، قسم اللغة العربية، وعلى أن تموّل من ريعه منح دراسية".
ورغم أن البروفيسور عبد الله الطيب وزوجته قضيا أكثر عمرهما في البيت التابع لسُكنى أساتذة الجامعة، فإن جدران فيلا الامتداد بنيت بكثير من المحبة، وكل مرحلة من مراحل البناء كانت مفعمة بالصداقة والمحبة، وفي ذلك تقول فادية: "مسح أرض الفيلا السيد شارلي أنتون، وأقام قواعدها السيد دفع الله الترابي، وهما من أصدقاء عبد الله الطيب وجريزلدا، وأما اللمسات الفنية فوضعتها الحاجة جريزلدا بنفسها".
وتبقى القصة الأجمل أن الراحل عبد الله الطيب أهدى الفيلا لزوجته فرحًا بحدث انتظره لسنوات، تواصل فادية إفادتها قائلة "عندما أسلمت الحاجة جريزلدا أهداها هذه الفيلا الجميلة فرحًا بإسلامها". تضيف فادية: "وها هي ترد الجميل جميلًا".
علاقة لا تعرف النهاية
قد تعرف بدايات قصة عبد الله الطيب وجوهرته جريزلدا مع جامعة الخرطوم، لكن من الصعوبة وضع حد لنهايتها، فقد ارتبطا مع بعضهما برباط مقدس وارتبطا بالجامعة إلى أن توفاهما الله.
البروفيسور عبد الملك محمد عبد الرحمن، المدير الأسبق للجامعة يقول: "علاقة عبد الله الطيب بجامعة الخرطوم بشكل عام وكلية الآداب علاقة لا تعرف النهايات، وهذا الوقف من دلائل ذلك".
ويحفظ للبروفيسور عبد الملك، والذي كان مديرًا للجامعة عندما رحل عبد الله الطيب، أنه طلب من الحاجة جريزلدا البقاء في منزل الجامعة لتظل دارًا عامرة وتظل الآصرة متصلة، صلة يدركها الجميع، وبالأخص أسرة العلامة، وعنهم تقول فادية "كلية الآداب، عبد الله الطيب وجريزلدا كيان واحد، سيدوم هذا الود ودًّا بود إلى يوم الدين".
ومما ينبغي ذكره أن مدير الجامعة الحالي البروفيسور عماد الأمين الطاهر، كان قد صرح في سرادق عزاء الراحلة جرزيلدا بأن المنزل الذي كان يقطنه عبد لله الطيب وجريزلدا بسكن الأساتذة سيتم تحويله لمتحف يضم متعلقاته ليصبح مزارًا ثقافيًّا، ولتنزيل الأمر لواقع معاش تم تكوين لجنة أولية لذلك، أنجزت اللجنة مهامها ورفعت تقاريرها.
منازل الأعلام
سيحسب لجامعة الخرطوم هذا المتحف الذي وعد به المدير إن تم الأمر، وغدا عقارها الذي كان سكنًا لمديرها الأسبق، وأحد عباقرة السودان وأعلامه لمتحف، كما حسب لجريزلدا الطيب وقفها الفيلا لقسم اللغة العربية بكلية الآداب، لكن ما زال الاهتمام بمنازل الأعلام من ساسة ومبدعين ومفكرين وغيرهم شيئًا بعيد المنال في الراهن السوداني.
ويعزو الكاتب والأديب عادل سعد ذلك لقلة الاهتمام بالمبدعين أصلًا: "أعتقد أن الاهتمام بالمبدع عندنا بالغ الهشاشة وضعيف إن لم يكن منعدمًا، وهذا في ظني لانعدام الحس بالقيمة الفعلية له، وأنه -أي المبدع- يشكل فعلًا ثقافيًّا مستمرًّا، ينطوي على إدراك بأهميته كونه شخصيةً أدبيةً وفكريةً، تضاف للكنوز الوطنية التي يجب الحفاظ عليها".
ويضيف عادل للجزيرة نت: "العالم الذي تقدم حضاريًّا علينا لم تغب عن مؤسساته الرسمية أو الثقافية ميزة الاحتفاء بمنازل مبدعيه من الأدباء والكُتاب والتشكيليين، ويمكنك أن تجد لافتة مجرد لافتة صغيرة خُطَّ عليها أن فلانًا مرَّ بهذا الشارع أو جلس في هذا المقهى". ويستثني عادل العالم العربي من هذا التقليد، مع استثناء لمصر التي يرى أنها تمتلك تقليدًا تشريفيًّا تعطيه المبدعين في الأجناس الإبداعية كافة.
مسؤوليات ومبررات
لا يكاد يختلف المهتمون في كون إنشاء متاحف شخصية أمرا ثقافيا، وهذا ما يراه الدكتور أحمد حسين، المدير الأسبق لقسم الآثار بكلية الآداب جامعة الخرطوم: "أن يُصنع متحف لعَلَم من الأعلام أو لمقتنيات شخصية، فهذا أمر يحتاج لوعي متقدم وثقافة عالية".
لكن الدكتور حسين يسأل كيف تنتشر ثقافة ما؟ ومن المسؤول؟ يواصل إفادته مجيبًا عن أسئلته: "المسؤولية تقع على جهات كثيرة، وبشكل أكبر على الدولة وأهل الاختصاص والإعلام في نشر هذه الثقافة وتقديم مقترحات".
سألنا الدكتور حسين عن المتاحف الشخصية في السودان فأجاب: "متاحف الأفراد قليلة جدًّا في السودان: إبراهيم حجازي في أم درمان، وأبو هداب في سواكن". وربما لا يستمر عطاء المتحفين طويلًا من ضوء المتابعات.
ويرى بعض المهتمين أن تخصيص منزل علمٍ أو رمز ثقافي وجعله متحفًا أو وقفًا كما فعلت جريزلدا قد يصطدم برغبات أصحاب الحق الورثة، كما أن الظروف التي يمر بها هؤلاء قد تجعلهم أميل للاستفادة من العقار بيعًا أو إيجارًا.
لكن آخرين يرون أنه حتى لدى الأثرياء الذين لا يعني لهم ريع العقار شيئًا فإنهم لا يملكون ثقافة تخليد الرموز، وهذا لا ينفي وجود بعض الإشراقات مثل مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، والذي صنعته أسرته تكريمًا له بعد وفاته، بحسب إفادة الأستاذ مدير المركز الأستاذ وليد سوركتي، والذي أوضح أن ابني أخت الراحل (محمد ومحمود صالح قاما بالدور الكبير، إذ تبرع محمد بالأرض، وتضافرت بعد ذلك الجهود لإحياء ذكرى هذا الأديب الذي كان منزله منتدى دائمًا).
بين الرهبة والحسرة
بقيام مركز عبد الكريم ميرغني ظل اسم هذا الأديب حاضرًا، كما أسهم المركز في تخليد اسم أديب آخر إذ ينظم المركز جائزة للقصة القصيرة، وأخرى للرواية، والتي هي في الأصل كما أفادنا سوركتي مبلغ كان قد جمعه بعض أصدقاء الطيب صالح لبناء منزل له، لكن الراحل أخبرهم عن رغبته في أن يودع هذا المبلغ في أحد البنوك على أن تمنح منه جوائز للفائزين.
وكانت الجزيرة نت قد زارت المنزل الذي نشأ فيه الطيب صالح بقريته (كرَمَكُول) شمالي السودان، بدعوة من أسرة الراحل ومركز عبد الكريم ميرغني، واطلعت على مشروع تحويل المنزل لمتحف، لكن الأمر لما يبارح عتبة كونه مشروعًا.
سألنا عادل سعد الذي كان في الوفد ذاته عن المنزل: "المنزل الذي أشعرني بالرهبة أولًا ثم الرثاء لحالنا. تصفحت بعض الخطابات بخطه وغيرها من أوراق كانت ملقاة تقاذفتها رداءة الطقس وسحابات الخريف".
وبحسب مشاهدات الجزيرة نت فإن مقتنيات غرفة الطيب صالح عرضة للفقد والتلف في حين أن المنزل ملائم لأن يكون مزارًا ثقافيًّا سياحيًّا، وهذا مما دعا إليه سعد في ختام إفادته من أهمية تحويل بيوت المبدعين إلى مزارات سياحية أو متاحف، وبات يعرَّف بمصطلح السياحة الأدبية الثقافية، لتشكل استثمارًا ثقافيًّا سياحيًّا.
آمال
رغم السائد والمألوف من عدم الاهتمام بأعلام البلاد ومفكريها، وقلة الاهتمام بتخليدهم وحفظ آثارهم، فإن الأمل باق في تغير الحال، وربما كان وقف فيلا العلامة حجرًا يحرك الراكد من إحياء لسنة الوقف، وحضور الراحلين في المشهد رغم الغياب، والأمل أن ترد جامعة الخرطوم الود بالود وتشرع في متحف العلامة عبد الله الطيب، وأن يتحول مشروع متحف الطيب صالح لواقع ومزار، وتجري السُّنة على غيرهما من الرموز.