استيقاظ الوعي أم تخديره؟ عودة الأسطورة إلى حياة العرب المعاصرة

الأساطير الشعبية القديمة تلهم السينما والفن والأدب الحديث حيث تستفيد من تكنولوجيا الوسائط المتعددة لإعادة تخيل الأسطورة القديمة (غيتي)

تعد علاقة الإنسان العربي بالأسطورة تاريخية، فهي تفسر الوجود والعالم وطريقة تعامله مع الموجودات والأشياء، وفي العصر الحالي نلاحظ عودة الإنسان نحو إعادة بناء الأساطير القديمة من خلال السينما ومواقع الأفلام والروايات.

وباتت الأجيال الجديدة تعيش حالة تتأرجح بين الواقع وإنتاج وبناء أسطورتها الخاصة، لا سيما أن التحولات الرقمية صارت تدمر الأساطير القديمة، فاختلفت طريقة النظر إلى الأسطورة.

وفي العصور الماضية، اعتمد الشاعر على الأساطير القديمة ليبين رؤيته المستقبلية لواقعه وطبيعة التحولات التي يمر بها، والسؤال اليوم: كيف يعيش الإنسان العربي مع أساطيره المعاصرة؟ وهل هناك تفسير ما لاستحواذ الأسطورة على حياته وهو يتوحد معها في عوالمه الرقمية؟ ولماذا هذه العودة القوية إلى بناء الأساطير القديمة والتفكير بواسطتها في الواقع المعاصر؟ وماذا عن الأساطير الخاصة بالعالم العربي؟

استيقاظ الوعي

بالنسبة إلى الأكاديمي والكاتب المغربي عبد الرحيم جيران فإن الأسطورة تعد نتاج استيقاظ الوعي البشري، فهي تعبير يتخذ من الحكاية وسيلة لتفسير نظام العالم، ويتصل هذا الوعي الطفولي بالرغبة في فهم التقلبات المرعبة التي كان يلاحظها الإنسان من حوله في الطبيعة؛ حيث إنه أعادها إلى قوى خرافية متعددة تدير العالم، وتخوض صراعا لا يهدأ حول الهيمنة على الطبيعة ومظاهرها، بما فيها الإنسان نفسه.

ويعتبر الناقد والروائي جيران أيضا أنه لم تصلنا أساطير عربية بالمعنى الذي أتينا على ذكره، وبالأحرى لم يصلنا من ميراث الجزيرة العربية الثقافية ما يفيد بأنها كانت مهدا للأساطير؛ كل ما وصلنا من أساطير عربية -على قلتها- كان موطنه بلاد الرافدين.

ويتابع "ينبغي عدم الخلط بين الأسطورة والحكايات المتصلة بالمسخ أو السحر؛ فهذه مجرد مكونات أو بقايا معزولة من الأسطورة، ولا تهدف إلى تفسير العالم، وإنما التأثير في القوى الإنسانية التي تحول بين الفرد ورغبته أو معاقبتها".

ويرى جيران أنه لا يمكن الادعاء بأن الأساطير تؤثث اليوم وعي الإنسان العربي؛ لسبب بسيط يتصل بكون كل فكر لا بد له من أن يتصل بسياق زماني معين يعبر عنه، ولا يمكن أن يكون هذا الفكر صالحا لسياقات زمانية تتعارض مع ضرورته الأنثروبولوجية.

كذلك يشير إلى أنه لا سبيل لإنسان اليوم -بما في ذلك الإنسان العربي- من التفاعل مع مقتضيات سياقه الزماني الحالي وصيرورة التفكير فيه التي تتجه نحو الأخذ بالتفسير العلمي للظواهر، بما يعينه هذا من وسائل تكنولوجية.

ويتساءل الأكاديمي المغربي عن الداعي الذي يمكن إلى أن يُلجئ الإنسان إلى التخاطر الذهني الذي ميز عديدا من الشعوب القديمة إذا كانت هناك الهواتف المحمولة والذكية، حتى الحكاية والمثل اللذين كانا وسيلتين من وسائل فهم العالم وتوصيفه لم يعودا يحتلان المكانة التي كانت لهما في التواصل بين أفراد المجتمع العربي، خاصة لدى فئة الشباب، بل حلت محلهما الصور والفيديوهات.

كما أن الإنسان العربي لم يعد معزولا عن العالم ويقنع بثقافته وموروثه الخاصين، بل صار مشاركا في ثقافة معلوماتية عالمية متنوعة المصادر والتوجهات، وبالطبع فإن تحولا من هذا القبيل لا بد أن يؤثر في فهمه العالم الذي لم يعد قائما على حدود قارة، بل على حدود متحركة واسعة، ولا على أزمنة دورية لا تتكرر، بل على أزمنة متداخلة مركبة، حسب جيران.

ويضيف الأكاديمي المغربي أن ما يؤثر في الإنسان العربي اليوم -شأنه شأن غيره من ساكني المعمورة- هو عملية "الأسطرة" التي تحل قوى مادية (سلع) محل كائنات مجهولة مماثلة للكائنات الأسطورية؛ حيث يصير أمامها خاضعا، لا يمتلك مصيره الخاص، بما يعنيه هذا من اندراجه في طقوس جماعية متصلة بتأليه البضاعة، خاصة الرمزية منها، لا المادية، مثل كرة القدم، ونجوم الغناء والسينما، وأنواع السيارات، وغيرها.

لكن الفرق بين الكائنات الأسطورية والبضائع الرمزية "المؤسطرة" ماثل في كون الأولى تتصف بالاستمرارية والتقديس المتوارث، وأن الثانية تتصف بالتلاشي السريع، وقبول أن يحل محلها غيرها ليقوم بالوظيفة نفسها.

دهاليز البشر

ويقول الدكتور جورج طربيه في كتابه "الوجدية وأثرها في جذور المجتمع العربي" (1999) إن البشرية مرت في دهليز طويل، قبل أن يفتح العقل نافذة على الفلسفة والعلوم، فتبددت غيوم اللاوعي البشري تحت تأثير شمس العقل.

وجاء في الكتاب المشترك للمؤرخين: فيليب حتى وجبرائيل جبور وإدوار جرجي "تاريخ العرب" أن اللغة المكتوبة لم تكن عند العرب، واعتمد التاريخ على الروايات والأساطير والأمثال، وفوق ذلك على الأشعار، وقد آمن العربي الجاهلي بوجود الأرواح في الأشياء المادية ومنها صنع أساطيره، حسب المؤلفين.

أما الأستاذة الجامعية اللبنانية جيمي عازر فترى أن موضوع الأساطير استمر بوصفه مفهوما مقترنا بالزيف أو بالمفاهيم المغلوطة كموضع نقد عند عدد لا يستهان به من الباحثين.

أما الإنسان العربي فقد شغلته الأساطير لأنه كان يبحث دائما عن موقعه الثابت، متعلقا ببطل أسطوري غائب، وقد منعته حركته المستمرة من الثبات الجسدي والمعنوي. وتستشهد جيمي عازر بالمؤرخ الدكتور خزعل الماجدي في هذا المجال "لا أحد يعرف بالضبط ما الذي حصل قبل 10 آلاف سنة، في هذه الأرض العجيبة".

وتضيف أن حقيقة البطل الأسطوري تتمحور حول البطل/الحلم، والبطل/الحقيقة، والبطل/الإنسان، فلطالما حلم الإنسان العربي ببطله وحركه في أحلامه حسب نواياه، كذلك رسمت الشعوب -خاصة المقهورة- صورة لبطلها الأسطوري من حاجتها؛ فنراها تؤمن وتترقب وتنتظر اليقين الذي يشبه الحقيقة المرسومة في ذهنها.

الخطاب الأسطوري

ويخبرنا الأنثروبولوجي الأسكتلندي جيمس فريزر (1854-1941) في كتابه " أدونيس أو تموز" عن ذهنية البشر الذين يراقبون التحولات في الحياة، متحدثا عن أسطورة أدونيس، ويقول "لقد ترك منظر التغيرات الكبرى التي تطرأ كل سنة على وجه الأرض أثرا قويا في أذهان الناس في كل عصر، وبعثهم إلى التأمل في أسباب هذه التحولات الواسعة العجيبة".

وتتابع عازر بأن القيمة الفعلية لدراسة الأساطير لم تعد إلا في القرن 20 عندما أولى بعض علماء الأنثروبولوجيا أهمية خاصة للخطاب الأسطوري، وأهمهم المؤرخ الروماني مرسيا إلياد (1907-1986).

وتستعين به في تعريف الأسطورة على أنها "واقعة ثقافية بالغة التعقيد، يمكننا أن نباشرها ونفسرها في منظورات متعددة، يكمل بعضها بعضا".

فالأسطورة إذا نظام له دلالات ووظيفتها الكشف عن النماذج المثالية لأن للإنسان عقلا وخفاء. أما إنسان اليوم وإن لم يعد مؤمنا بالأساطير في صيغتها المعروفة قديما فإنه ارتبط بها من خلال التطور التكنولوجي أو الرقمي، إذ تحولت أهم القصص الأسطورية إلى أفلام عرضت في صالات السينما وعلى المواقع الإلكترونية.

من هنا تتحقق الاستجابة الجماهيرية عند فئة من المشاهدين لأن النصوص خرجت من هيمنة خطاب مفروض إلى مساحة فكرية متنوعة، ويخرج المشاهد -بتلك الطريقة- من التبعية المطلقة؛ لأن الدور الحكائي للأسطورة يندمج مع وسائط العرض السينمائي (صوت، إضاءة، ديكورات، الممثل، وغيرها).

وتصل عازر إلى خلاصة أن الفكر الأسطوري ليس شكلا متخلفا من الوعي البشري، والإنسان العربي أفاد منها اليوم بعدما حولها إلى شكل مختلف في البناء الفني وحتى الدرامي، لأن الإنسان الحديث ابتعد من هذه الذهنية لكنه بقي يترقبها في العالم الرقمي. وفي النهاية تتحدد الحاجة حسب الخيار والذوق والقدرة على التواصل مع عوالم غائبة.

المصدر : الجزيرة

إعلان