مدينة إسلامية أوروبية.. مخطوطة عربية قديمة نقشت في صقلية الإيطالية

الجزء الداخلي من قلعة زيزا بصقلية، وهي قلعة عربية نورماندية في باليرمو، جنوب إيطاليا اشتق اسمها من لفظة "العزيز" العربية يعود تاريخها للقرن الـ12 الميلادي (غيتي)

أضحت جزيرة صقلية الإيطالية في البحر المتوسط محضنا لثقافة عربية مزدهرة، استمرت حتى بعد سيطرة النورمان عليها عام 1072 للميلاد، واستوطنت القصيدة العربية الجزيرة بدءا من القرن التاسع وحتى القرن الـ12، بما في ذلك زمن حكم الملوك النورمان والاضطرابات السياسية الكثيرة التي شهدتها الجزيرة.

وفي العصر الحديث اهتم المستشرقون الألمان بالحضارة العربية ولغتها وعلومها ودراساتها ومخطوطاتها النادرة؛ فنشطت الترجمات في بلادهم، ومن أهمها ترجمة القرآن الكريم والعديد من المخطوطات والكتب العربية العريقة، ونالت الجزيرة المتوسطية ذات الماضي العربي عناية خاصة.

مخطوطة عربية في باليرمو الصقلية

ومن ذلك المجهود المعرفي ما قام به في عام 2016 المستشرقان الألمانيان الدكتور سيباستيان هاينة (متخصص بالألسنيات المقارنة باللغات الشرقية والتركية والعربية والفارسية في ألمانيا)، والدكتور سرجون كرم (أستاذ الأدب العربي والترجمة في معهد الدراسات الشرقية والآسيوية في جامعة بون ألمانيا)، حيث توجها إلى مدينة باليرمو -عاصمة جزيرة وإقليم صقلية ذاتي الحكم جنوب إيطاليا- بدعوة من عمدة المدينة ليو لوقا أورلاندو، وذلك للكشف عن كتابات يرجح أنها عربية منقوشة على جدران ما يسمى بغرفة العجائب في باليرمو.

إعلان

ومن هناك انطلقا لتتبع آثار الحضارة العربية في المدينة والمدن المجاورة مثل شيفالو وشيفالا ديانا.

في أثناء البحث، وقعا على مخطوطة المؤرخ الإيطالي ميكيلي أماري (توفي 1889) ومواطنه المستشرق تشيلستينو سكيابارلي (توفي 1919)، وهي مخطوطة حول الشاعر العربي الصقلي ابن حمديس  (447-527 هـ) (1055-1133م).

ومنذ عام 2017 بدأ المستشرقان هاينة وكرم بترجمة قصائد ابن حمديس المتعلقة بتاريخ صقلية وتاريخ العرب فيها، حيث تناولا ترجمة ودراسة ابن حمديس من وجهة نظر استشراقية، وتطرقا إلى صقلية في قصائد ابن حمديس المترجمة إلى الألمانية، وهذا ما لاقى عناية من جامعة بون التي تبنت هذه الأنطولوجيا الفريدة في ألمانيا.

من اليمين: سكرتير نائب مجلس النواب الإيطالي وأنطونيو فينتورينو نائب رئيس مجلس النواب الصقلي، ثم الدكتور سيباستيان هاينه والدكتور سرجون كرم (الجزيرة)

إهمال شاعر عربي-أوروبي

تحدثت الجزيرة نت إلى المستشرقين كرم وهاينه اللذين قالا إن ابن حمديس الصقلي يعاني إهمالا تاما في دراسات الاستشراق الأوروبي عموما وفي العالم العربي كذلك، وخصوصا من ناحية عدم تخصيص دراسات كافية تعالج قصائده والبيئة التي عاش فيها والوطن الذي انتمى إليه، إذ يتم تصنيف هذا الشاعر في الأنطولوجيات على أنه شاعر أندلسي، مع أن الفترة التي عاشها ابن حمديس في بلاط المعتمد بن عباد في إشبيلية لا تزيد على 13 عاما من حياته.

ولكن في الواقع يعد ابن حمديس شاعرا صقليا بامتياز؛ إذ يمكن اعتباره أهم شاهد على حضارة عالم مفقود، ألا وهو مسلمو صقلية، بل الإسلام في صقلية في فترة سقوطها في أيدي النورمان.

بالنسبة للمستشرقين، فإن نصوص ابن حمديس الصقلي تعد كنزا من المعلومات وشاهدا تاريخيا على فترة زمنية تعد الأصعب في تاريخ الحضارة العربية في صقلية ومادة دراسية دسمة تدعو المستشرقين الألمان إلى الالتفات لتجربته، خصوصا أن هذا الشاعر عاصر شخصيات تاريخية مهمة مثل أمير المرابطين يوسف بن تاشفين في المغرب، وسلطان أفريقيا الزيرية علي بن يحيى في تونس، والمعتمد، آخر ملوك بني عباد في الأندلس، وحلقة شعراء إشبيلية ابن عمار وابن زيدون، والملك قشتالة وليون ألفونسو السادس، ورودريغو دياث دي بيبار الملقب بسيد ميدان المعارك.

إعلان

كما أنه عاش في فترة روجار الثاني ملك صقلية الذي مول كتاب الإدريسي "كتاب روجار- نزهة المشتاق في اختراق الآفاق".

وعن شهرة ابن حمديس الصقلي في أوروبا، يَعتبر سيباستيان هاينه أن أوروبا لم تعرف هذا الشاعر إلا عبر الاستشراق الإيطالي. وذلك أن المستشرق الإيطالي ميكيلي أماري (1806-1889) هو مؤسس الدراسات العربية العصرية في إيطاليا، وقد ولد في صقلية باليرمو، وتمحورت دراساته حول الكشف عن تاريخ المسلمين في صقلية.

وهذا ما أسفر عن إصدار أهم كتبه، منها "تاريخ مسلمي صقلية 1854-1872" ( Storia dei Musulmani di Sicilia)، وهو في ثلاثة مجلدات، كذلك مؤلَّفه الذي بعنوان "المكتبة العربية الصقلية – نصوص وترجمات. 1857-1887" (Biblioteca arabo-sicula – testi e traduzioni. 1857-1887) الذي يدرس فيه أعمال عرب صقلية ويقع في مجلدين، وقد حاول أماري جمع كل المصادر العربية المكتوبة -التاريخية والأدبية والجغرافية- التي تتحدث عن صقلية.

في متابعته للكتاب الأول يضيف هاينه أن "أماري" يتكلم عن ابن حمديس في صفحتين ويصفه بأنه أهم شاعر عربي في صقلية، لأنه الوحيد الذي بقي ديوانه الكامل إلى يومنا هذا.

ولكنه توسع في ابن حمديس الصقلي في كتابه الثاني بالمجلد الثاني، وقد أفرد له حوالي 74 صفحة. وفي هذه الصفحات يسجل أماري منتخبات لقصائد ابن حمديس التي خص بها صقلية، مستندا إلى المخطوطات الموجودة لديوانه في الفاتيكان، وهو المصدر الرئيسي لأماري، والمخطوطة الثانية الموجودة في بطرسبرغ بروسيا ضمن مجموعة المخطوطات الشرقية.

سيباستيان هاينة متخصص بالألسنيات المقارنة باللغات الشرقية والتركية والعربية والفارسية في ألمانيا (الجزيرة)

وريث أماري

ويتابع هاينة أن أهم من قام بالتعريف بابن حمديس الصقلي للعالم الغربي -وهو ما استفاد منه واعتمده المستشرقون الألمان بطريقة علمية- هو طالب أماري المفضل ووريثه العلمي تشيلستينو سكيابارلي (1841-1919)، حيث تتلمذ على يد أماري في مدينة فلورنسا (مركز الدراسات العربية في كل إيطاليا في ذلك الوقت)، وتابع دراسة اللغة العربية في روما.

إعلان

وقد أصدر سكيابارلي مجموعة ابن حمديس مدققة في كتابه "ديوان عبد الجبار بن أبي بكر بن حمديس.. شاعر عريس من سرقوسة (1056-1133) النص العربي المنشور بأكمله استنادا إلى مخطوطات روما وبطرسبرغ، بالإضافة إلى بعض من أشعاره التي تم الحصول عليها من كتّاب آخرين. روما 1897". وبعد ذلك لم يتم نشر ديوان ابن حمديس إلا عام 1960 في بيروت من قبل إحسان عباس.

أما بالنسبة إلى الدراسات العلمية حول ابن حمديس في إيطاليا فيرى سيباستيان هاينه أنه لم تكن هناك سوى بعض المقالات التي تعالج محاور معينة من شعره.

ترجمة شعر  الحنين العربي

وعن ترجمتهما شعر ابن حمديس إلى اللغة الألمانية يشير سرجون كرم إلى المحاور التي تم العمل عليها في أثناء الترجمة لشعره إلى اللغة الألمانية، وهذا ما تطلب مجهودا كبيرا منهما سواء في أثناء العودة إلى المخطوطات والكتب أو من خلال زيارة الأمكنة التي ترك ابن حمديس آثاره فيها.

ابن حمديس شاعر وحكيم صقلي عربي ولد في صقلية الإيطالية وتوفي في ميوركا الإسبانية (مواقع التواصل الإجتماعي)

في دراستهما التي سبقت الترجمة عمل المستشرقان على تقسيم قصائد ابن حمديس إلى محاور، حيث يشير سرجون كرم إلى أن موضوع الحنين إلى الوطن الأم له الأثر الكبير في شعر ابن حمديس، ويقول في إحدى قصائده:

ولله أرضٌ إن عَدِمتم هواءها   فأهواؤكم في الأرض منثورةُ النظم
وعزّكم يفضي إلى الذل والنوى   من البَيْن ترمي الشمل منكم بما ترمي
فإنَّ بلاد الناس ليست بلادكم    ولا جارها والخِلْم كالجار والخِلم

وفي حين أن الإيطالي اليوم يعتبر صقلية جزءا من وطنه، يلاحظ أن هذا الشاعر حين يتكلم عن صقلية يعتبرها بلاده وأن النورماني-الإيطالي هو المحتل، فابن حمديس ولد في نوتو بالقرب من سرقوسة في شرق الجزيرة، وتبدو جلية في قصائده مشاعر الحزن والألم والأسى العميق الناتج عن فقدان وطنه والحنين إليه جراء كل ما حدث منه.

إعلان

رابع أكبر مدينة إسلامية

ويتابع كرم للجزيرة نت قائلا "لتوضيح هذه الفكرة وبالعودة إلى المصادر التاريخية، فقد وصف الجغرافي والمؤرخ ابن حوقل (توفي 977) باليرمو بأنها رابع أكبر مدينة في العالم الإسلامي بعد القاهرة والشام وقرطبة. وتتمتع المدينة بأكبر مسجد رآه ابن حوقل خلال رحلته وبأكثر من 300 مسجد داخلها. وحتى يومنا هذا ما تزال سورة الفاتحة على عمود مدخل هذا المسجد الذي تم تحويله إلى كاتدرائية".

كنيسة سان كاتالدو في باليرمو الإيطالية (غيتي)

ويتطرق المستشرقان الألمانيان في دراستهما أيضا إلى محور "وصف الحياة والمعيشة في صقلية إبان الحكم العربي فيها"، ويُظهران تفاصيل دقيقة يقدمها ابن حمديس حول طريقة الحياة الاجتماعية، ومنها جلسات الأنس والخمر في أديرة الراهبات والراقصات والحياة المنعمة للنساء العربيات المسلمات والمسيحيات.

كذلك اهتم المستشرقان بموضوع الجهاد في قصائد ابن حمديس، فيخبرنا سرجون كرم عن مرحلة ما بعد سقوط باليرمو في عام 1076، حيث قام ابن حمديس بتنظيم مجموعة مسلحة أطلق عليها اسم "بنو ثغر"، وقامت هذه المجموعة خلال مدة 3 أو 4 سنوات بمحاولة دفع الهجوم النورماني عن مدينة سرقوسة، وفي هذا المحور نرى ثقافة ابن حمديس القرآنية الإسلامية.

ويبرز التناقض الكبير في هذا المحور مع المحورين السابقين، ففي حين ظهر في المحور الثاني شاعر الخمر واللهو، نراه في المحور الثالث قائدا جهاديا يدافع عن الإسلام باسم الدين ويورد في شعره الكثير من الشواهد القرآنية، ومن ناحية أخرى نراه فارسا باسلا شجاعا إلى جانب إخوته الشجعان في بداية شبابهم في الصف الأول من القتال".

ويشير سرجون كرم إلى القصائد التي وصف فيها ابن حمديس خبرته العسكرية القتالية بدقة، فيصف الخطط العسكرية، ويقارن بين خيول العرب وخيول النورمان، ويصف السيوف وجودة الدروع، والنار اليونانية والمنجنيق، والسفن الخاصة لدى النورمان لنقل فرسانهم وخيولهم.

إعلان

ويتابع كرم بالقول إن تجربة ابن حمديس العسكرية تغطي فترة تمتد من سقوط صقلية (آخر قلعة سقطت عام 1091) إلى معركة الزلاقة التي شارك فيها إلى جانب يوسف بن تاشفين (1086)، مرورا بمعركة قوصرة عام 1123، بالإضافة إلى معارك الأمراء التونسيين ضد الملوك النورمان في الجزيرة.

المصدر : الجزيرة

إعلان