"مراكش التي كانت".. أبناء المدينة الحمراء يرممون ذاكرتها بالكتابة
عبد الغني بلوط-مراكش
حركات الرافعة وهي تنقل الحديد والإسمنت لتحويل هذه التحفة المعمارية إلى بناية فظة تحدث في نفسه الكثير من الأسى والحسرة.
يقول عدنان للجزيرة نت وهو يستحضر بعض طفولته "شكّل بلّاص وجدان الكثير من مثقفي المدينة ومنطلقهم للتميز في الأدب والفن".
بلّاص من بين عشرات الأماكن الدارسة (الزائلة) بمدينة مراكش، تتنوع ما بين مدرسة بمعان جامعة ومقهى أدبي ومكتبة بدلالة ثقافية أو حي قديم بأبعاد وجدانية.
هي أماكن كتب عنها 33 مبدعا وأديبا بطلب من ياسين عدنان ليجمعها في كتاب سمي أولا "مراكش، أماكن دارسة"، قبل أن يتحول عنوانه إلى "مراكش التي كانت".
ويضيف عدنان "من المؤسف جدا أن تصبح هذه المعالم في طي النسيان، وأن تحل محلها بنايات دون أي حد من الجمالية".
لذا يهدف الكتاب إلى تأمين البقاء لتلك الأمكنة، فهي التي صنعت وجدان أهل المدينة وشكلته خلال العقود الأخيرة.
السرد ليس هدفا
يتضمن الكتاب نصوصا سردية متنوعة، لكن السرد والأدب ليس هدفا في حد ذاته بل لخدمة قضية مدينة يأمل عدنان أن تتجدد دون أن تنسلخ عن هويتها.
يتذكر كل مؤلف بحس أدبي شفاف، أقرب معالم المدينة إلى روحه ووجدانه، سينما قصدها لأول مرة وهو فتى يافع، أو حديقة صغيرة أكلها الإسمنت، أو أيا من المعالم التي تتبدد بالتدريج.
واجهة بلّاص ما زالت قائمة حتى الساعة في قلب شارع يوغوسلافيا، كأن هذه الدولة الدارسة قد أصابت لعنتها من معالم الشارع الذي يحمل اسمها في قلب المدينة الحمراء.
أصبح هذا المعلَم اليوم -كما يقول الكاتب والقاصّ والناقد السينمائي محمد شويكة- مجرد طلل يحكي عنه بعض من تلذذ برونقه واكتشف طقوس متعة المشاهدة فيه ومن شمله نوره.
أماكن دارسة
إلى جانب بلّاص يذكر الكتاب مقهى "السوربون" الذي حمل هذا الاسم لما عرف عنه من نقاشات علمية وثقافية.
كما يتحسر على مدرسة "دار البارود" التي أطلقت عددا من الرموز الفكرية والثقافية والسياسية للمدينة، وكان طلبتها يسمونها جامعة ابن يوسف بالرغم من أنها مجرد مؤسسة للتعليم الإعدادي والثانوي الأصيل، لكنها ظلت على امتداد تاريخها بمثابة جامعة حقيقية في الوجدان المراكشي العام.
تجد في الكتاب أيضا الحديث عن "مقهى المصرف"، الفضاء الأثير لشاعر الحمراء محمد بن إبراهيم ورفاقه، ومقهى ماطيش ملاذ الأديب الإسباني الكبير خوان غويتيصولو.
وتحضر "دلالة" ابن يوسف، حيث كان الأطفال يتابعون بشغف الدلالين يطوفون بأمهات الكتب على الحاضرين، والكتب تباع في مشهد استعراضي مدهش.
حدائق يتهددها الغبار، وخطارات (لنقل الماء تحت الأرض) وسواق لو يأتيها الماء، وأشجار مغتالة، والضريح المهيب، وملعب الخائنين، وباب الخميس، وباب دكالة، وسينما عدن، وسينما مرحبا، وبتلات مقهى الزهور، هي أيضا مواضيع من نصوص الكتاب.
استعادة المدينة
تأتي المساهمة في الكتاب لمحاولة استرداد المدينة من قبل أبنائها، كما يبرز ذلك الناقد والمترجم والكاتب محمد أيت لعميم في حديث للجزيرة نت.
وتتبنى الدولة المغربية مشروعا كبيرا للاعتناء بالمدينة الحمراء وتجديد عمرانها تحت اسم "مراكش الحاضرة المتجددة"، غير أن الكتاب -في نظر أيت لعميم- يقوم بذلك على طريقته في إطار عملية ترميم رمزي لأماكن لم تعد.
ويضيف أن الكتاب هو نوع من الانتصار للذاكرة والتنبيه إلى أن التحولات التي انخرطت فيها مراكش على إيجابياتها أحيانا، قاسية على الذاكرة والوجدان.
ليس بكاء
قد يعتقد البعض أن الكتاب هو نوع من البكاء على الأطلال، لكن عدنان نفي ذلك بالقول إن "من الطبيعي أن تتلبس المرء نبرة رثائية حين يكتب عن أماكن زالت".
لكن المقصود من الكتابة أمران اثنان -كما يوضح عدنان- أولهما هو الحفاظ على هذه الأمكنة وتخليدها للأجيال اللاحقة، والثاني هو التنبيه إلى أن هناك أماكن أخرى مهمة يمكن أن تستعيدها وأخرى يجب ألا تضيع بسهولة، فمراكش تستمد قوتها من تاريخها القديم، ولا يمكن أن نستهتر بتاريخها الراهن.
من يتجول في الكتاب يجد ذكريات غالية وعلاقات قوية ربطت المدينة بناسها والناس بمدينتهم. لذا يشهد الكاتب المغربي عبد اللطيف عادل -وهو مساهم آخر في الكتاب- في حديث للجزيرة نت، أن الكتاب استحضار لفضاءات مراكشية منحت المدينة هويتها المتميزة وطابعها الخاص.
استحضار وترميم
ويعتبر عادل أن الكتاب رسالة من أجل اعتبار مراكش وأمكنتها، لأن الحضارات تتقدم بالاعتراف وتنهار بالمحو والطمس.
فيما يؤكد الكاتب محمد بوعابد أن الكتابة عن ذكريات في أماكن لم تعد هو حديث عن أحاسيس ومشاعر ورؤى ومواقف تشكلت في الوجدان.
ويضيف أن التأريخ لمكان هو تأريخ للأفعال التي كانت تجري في ذلك المكان، والكتاب هو حديث عن مدينة مراكش التي احتضنت شغب أدبائها ومبدعيها وطموحاتهم وأحلامهم.
ويبرز بوعابد "عندما نكتب قد يتداخل ما عشناه مع ما تخيلناه، وقد تفرض علينا اللغة والثقافة قوتها فيما نكتب، لكن هدف الكتابة يبقى في الأصل هو الاعتراف بالمكان وأيضا بناسه".
ترميم ذاكرة مراكش لم تعد حلم 33 كاتبا وحدهم، ففي افتتاح معرض لصور مراكش القديمة، حج الجمهور بكثافة للتعبير عن حبهم لمدينتهم التي كانت، والتي بقيت، والتي تتجدد. الجميع مقتنع أن مراكش، مثل نخيلها، "فينق" قادر على الانبعاث من رماده وتجديد دمائه.