للمثقف أدوار مختلفة يلتزم بها إزاء نفسه ومحيطه، أولها خدمة المجتمع من خلال إنتاج المعرفة ونشرها، وإنتاج أدوات لفهمها ولفهم الواقع الذي يحيط به، ولا ينحصر دوره فقط في نقل المعرفة، ولا في تقمص دور الصحفي في نقل المعلومة والتعليق عليها، بل في تبسيط المعرفة وطرح الأسئلة الحارقة.
للمثقف أيضًا دور نقدي يناقش ما يبدو بديهيًا، ويفكك الخطاب السياسي أو الإعلامي، ويكشف عما يمكن أن يدسه من أفكار مغلوطة بين الناس للتغطية على خروقات وحقائق مزعجة، وليس دوره أن يكرّس الممارسات البئيسة، ويدافع عنها. يَقلق المثقف الحقيقي من كل ما يحيط به من بديهيات، ولا يَطْمئنّ إليها، كما يجتهد للانحياز إلى "الحقيقة"، لا إلى الامتيازات.
من العبارات الشهيرة التي يستخدمها هذا الطابور شعار "تازة قبل غزة"، وكأنّ الاهتمام بتازة يتناقض مع التضامن مع القضايا العادلة في العالم
ويمكن للمثقف أن يكون ناقدًا لقرارات السلطة إن رصد -بما أوتي من معرفة- خروجًا عن المشروعية، ومؤيدًا لها إن كان في مواقفها ما يستحق التأييد؛ فالمثقف ليس معارضًا سياسيًا في نهاية المطاف.
غير أن بعضًا ممن يشغل الوسط الثقافي والسياسي والإعلامي اليوم، يختلف عن كل ما عُرف عن المثقف من أدوار.. فصيل آخر من "المثقفين"، دورهم الأساسي هو الرقص على الحبال، بما تعنيه كلمة "رقص" من "تمايل إلى الأمام وإلى الخلف مسايرة للإيقاع"؛ فبالإضافة إلى مساهمتهم الكبيرة في تسطيح المعرفة، عوضًا عن تبسيطها، تعمل هذه الكتيبة على تغييب الحقائق من خلال استخدام متعمَّد مفاهيم مغلوطة، عَلَّهم ينالون من الغنيمة قضمة.
تحاول هذه "النخبة" جاهدة إنتاج واقع مزيف، فتضع الناس أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أبيض ناصعًا أو أسود قاتمًا. في المغرب مثلًا: كلما انفجر الوضع في فلسطين، على سبيل المثال، وتبع ذلك ما يترتب عنه من مآسٍ في هذه المنطقة من العالم، وما يخلقه هذا الحدث من تضامن واسع وسط المغاربة، ينبري هؤلاء "المحللون" إلى محاولة إجهاض هذا التضامن.
ومن العبارات الشهيرة التي يستخدمها هذا الطابور شعار "تازة قبل غزة"، وكأنّ الاهتمام بتازة يتناقض مع التضامن مع القضايا العادلة في العالم. لماذا لا يُذكّرنا هؤلاء بتازة وسوق الأربعاء وكلميم ومختلف المدن والمداشر المغربية في غير أوقات الأزمات؟ أم إنّ غاية العزف على هذا الوتر لا تحلو إلا عند التضامن مع فلسطين؟! يَكِدُّ هؤلاء البؤساء ويعرقون ويرقصون سعيًا وراء الغنائم التي قد تأتي وقد لا تأتي.
القضية بكل اختصار هي مواجهة بين الظلم والعدل؛ الهيمنة ضد المقاومة، فإن لم تستطع مناصرة الحق، فلا تكن بوقًا للظلم، وتجتهد -بلغة أكاديمية ركيكة وزائفة- في تغليف الحقائق بادعاءات واهية
في الجانب المقابل، يتجند فريق المعارضين، العازف على وتر العاطفة، لتزييف وعي الناقمين على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وانتقاد كل ما يصدر عن الدولة ومؤسساتها من مواقف أو قرارات، ويستعينون على ذلك بأيديولوجيا متمردة فاقدة لبريقها، وبقاموس يساري أكل عليه الدهر وشرب، يعود إلى عهد الماركسيين الأوائل. وتقود هذا الفصيل نخبة من المُدّعين، بيتها من زجاج، ومع ذلك تُزايد على الدولة بشعارات فارغة من كل مضمون، بل قد تجد بعضهم عاجزًا عن إصلاح ما يُحيط به من خروقات جمّة، سواء في عمله أو في بيته، أو متواطئًا شريكًا في هذه الخروقات، دون أن يرف له جفن.
يمتهن هذا الفريق لغة التنديد والوعيد في كل ما يتصل بالقضايا الشعبية، سواء كانت وطنية أو دولية، وتُشكل أوقات الأزمات غالبًا فرصة مواتية لتصفية حساباتهم الشخصية مع أجهزة الدولة، ومع فريق "الخبراء المحللين". ويتقابل الفريقان على منصات التواصل الاجتماعي، فتشتعل حماسة الجماهير المؤيدة لهذا الفريق أو ذاك، وإذا كان فريق "الخبراء المحللين" مدعومًا بوسائل الإعلام العمومي التي لا تنطق إلا بـ"الحقائق"، فإن منصات التواصل الاجتماعي تشكل، في معظمها، القاعدة الخلفية لفريق الناقمين.
وبصرف النظر عن المآرب التي تحرك هذا الفصيل أو ذاك، تستدعي القضايا العادلة من كل الناس، متعلمين أو غير متعلمين، الوقوف بجانبها. فالقضية بكل اختصار هي مواجهة بين الظلم والعدل؛ الهيمنة ضد المقاومة، فإن لم تستطع مناصرة الحق، فلا تكن بوقًا للظلم، وتجتهد -بلغة أكاديمية ركيكة وزائفة- في تغليف الحقائق بادعاءات واهية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.