قدمت سلسلة "الهجوم على العمالقة" تعبيرًا ملحميًا لمفاهيم الحرية والثورة والأرض والموت والألم والخوف، كما أنّ شخصياتها البشرية والمسوخ العملاقة صاغت أسطورة مثيرة وملهمة عن المعاناة، وأزمة التاريخ المؤسس والمهيمن على ذاكرة المهمّشين.
ومن الخيال الممزوج بالإثارة والرغبة في الخلاص والغفران، والألم الذي يعتصر أبطال القصة للانتقام، فإنّ الياباني "هاجيمي إيساياما" -صاحب أنمي هجوم العمالقة- استطاع تقديم عمل إبداعي تحركه مسارات التاريخ والحضارة والإنسان، لإعادة تعريف الحرية والإبادة والتضحية، خارج أسوار تاريخ إمبراطوري يسطو على الحضارة، وينفخ القلاقل والخوف في الإنسانية.
تمثل العمالقة وتحوّلاتها صراعًا داخليًا لذواتنا، وقوّة هائلة للتناقضات التي نعيشها، لكوننا رهائن الثنائيات المتناقضة والصعبة، كالحب والكراهية، والحياة والموت، والتضحية والأنانية، والصداقة والعداوة، مقابل متغيّرات خارجية كالأرض والسلطة والتاريخ.
فحتى العمالقة احتاجت لتفتح نوافذ التواصل نحو مسارات ينعدم فيها معيار الربح والخسارة، وتتأتى معها حقيقة معنى أن يحيا الجنس البشري بكرامة، وبإنسانيته الهشّة لا أنانية متصلبة تجتاح الحضارة دكًا، كي تجعل العالم ركامًا، لمجرد الخوف من المستقبل.
بقدر ما تمنحنا المعاناة ملحمة وقدرة على الإنصات وفهم الآخر ومعاناته، فنحن والآخر مجرد ظلال تتقلب أدوارها بين الخلاص من براثن العجز والقهر، والاستغلال والنهب، نحو عوالم حالمة ومبدعة، تبحث لها عن مستقر أبدي آمن للملايين
العملاق المؤسس
تعد سلسلة "الهجوم على العمالقة" من أهم الأنميات المعبرة عن جدلية الإبادة والتضحية والحرية، إذ إن ملامح الصراع الطبقي تتجلى ليس بين قوميتي الإلديين والمارليين فحسب، بل تصل إلى أعمق نقطة داخل الذات البشرية، والمتعلق بالحلم في رؤية ما بعد المحيط، وإرادة جعلت من المستحيل حقيقة لنيل التأثر ضد ما اقترفته القوى المعادية، ووهم المعرفة بالعالم الخارجي عبر مسح الذاكرة داخل تاريخ سلطوي، والخوف من هدم جدران التبعية.
صاغ أنمي العمالقة فكرة في غاية الخطورة، مفادها رفض شعوب الهامش تحمّل سردية التاريخ العالمي، كاشفًا زيف الصراع التاريخي بين من يدّعون الحق في "تاريخ ملحمي" ويزعمون تفرّدهم بدم ملكي، وآخرين استلبتهم هواجس الانتقام من مسوخ عملاقة تشبه البشر لكنها ضخمة ومقززة، في إشارة واضحة ومعبرة عن ماهية الجوانب المظلمة في النّفس ورغبتها الجامحة في السلطة، فالتاريخ المؤسس من سردية الأقوياء على المهمّشين، كونهم شياطين ملعونة في صورة حيوانات بشرية، لا ضير في إبادتها بشتى أنواع القتل والتنكيل.
في السلسلة ثمة عمالقة تسعة رئيسية ذكية، ترمز بشكل استثنائي إلى التاريخ بكونه الفضاء المؤسس للاستغلال والصراع الطبقي، والأرض التي يجسدها العملاق المهاجم. أما العملاق الوحش فما كان سوى "الخطيئة البشرية" الناجمة عن "الهيمنة الأبوية"، حينما تحمّل جيلًا هواجسها ومخاوفها من مستقبل لا تتضح معالمه، ولا ينطوي معه سوى المزيد من المعاناة والخيبة، من جور البشرية بعضها تجاه بعض، لا قومية محددة، ولا ثقافة تسلّحت بجدار الخوف.
وأما العملاقان الضخم والمدرع فلم يسعفهما الحظ كي ينهلا من حياتيهما الخاصة ما يكفّران به عن خطاياهما تجاه ذواتيهما المأزومتين، وعجزهما عن التصدي للشر العالمي والتواصل عبر مسارات ترفض الحرية المطلقة.
وبقدر ما تمنحنا المعاناة ملحمة وقدرة على الإنصات وفهم الآخر ومعاناته، فنحن والآخر مجرد ظلال تتقلب أدوارها بين الخلاص من براثن العجز والقهر، والاستغلال والنهب، نحو عوالم حالمة ومبدعة، تبحث لها عن مستقر أبدي آمن للملايين، ممن أنهكتهم الحروب ونتائجها الكارثية بانتقامها المخيف من الإنسان.
ولعل إسقاط أسوار الخديعة وجدران الخوف، المؤسسة لملحمة تاريخ إمبراطوري، يبدأ منذ اللحظة التي تجرّه فيها الأقلام نحو تفعيل ذاكرة من وصفوا بالشياطين، رافضًا حريتهم وتاريخهم الهامشي.
لطالما حاولنا فهم قصص التضحية والخلاص، والحياة والموت، وأشعارها وصورها المعلقة في أسوار التاريخ، لكننا نتأخر دائمًا في الولوج إلى عالمنا الخاص، حيث لا نحتمي بالتاريخ العالمي والمهيمن علينا قهرًا، فعزلتنا لم تكن ذات جدوى أمام السرديات الإمبراطورية وأغانيها
حين يتكلم الهامش
تابعت سلسلة الهجوم على العمالقة بكل تفاصيلها، وقد استطاعت حقًا أن تخلق شعورًا مليئًا بالأسى والحزن تجاه التضاد الذي يتصارع للبحث عن حريته، والقيام بما يلزم لحماية شعب ما من الاندثار، وما هي إلا صرخات في غيابات حلقات الموت والحب، حملت معاني التخلي والتضحية والحسرة والفقد الكبير، أمام جبروت مسوخ عملاقة ليست سوى كائنات بشرية جسّدت الكراهية والحقد والخوف عبر تحطيم أحلام الآخرين.
فأولئك الذين يهددون الأسوار المبنية بسرديات ملفقة ومتخيّلة، عبر تاريخ عالمي صوّر على أنّه ملحمي، يرفضون خيبات حضارة ليس بوسعها أن تمنع سحابة الفطر من أن تغزو سماء الشرق.
ربما أراد هاجيمي إيساياما إيصال فكرة ما للأجيال التي تشهد أكبر إبادة على وجه الأرض، أو بالأحرى أن ثمة رسائل واضحة تكمن بين صرخات إرين وميكاسا وليفاي، يوم كانوا صغارًا يشاهدون العمالقة وهم يعيثون في أرضهم فسادًا، هل يملك الإنسان الحق في إبادة العالم لمجرد التوّهم بالخوف والانتقام؟ فنقد التاريخ العالمي بداية التحرر من سردية ملفّقة حمّلت العالم تبعات حربين عالميتين، فالغرب استأثر بقيم الحضارة، وحبسها عن ضفافه الجنوبية التي سلبها ذاكرتها وتاريخها.
إنني حقًا معجب بإيساياما لقدرته على نقد التاريخ الإمبراطوري، وفضح سردية ظلت جاثمة على صدور من يناهضون قوى الاستغلال والهيمنة، لقد استطاع هاجيمي توظيف أدق التفاصيل وأعمق التعابير ليعبر متألقًا من ثنائية الإنسان والحضارة نحو مكاشفة مأزق الذات البشرية، لكون السعي لتحقيق حريتنا المطلقة قد يجعل نتائجها تفضي لدك الأرض.
فأسماء الشخصيات والموسيقى، وسحابة الفطر النووي والغاز المميت في صرخة العملاق الوحش، وقارورات الشراب المسمومة لزيك، وماضي القبو ومفتاح غريشا، وحتى المحيط، كل ذلك احتاج إيساياما لتعريفه لنا، لربما كنّا نذكره بأوصاف غير تلك التي يتصارع عليها السياسيون والفاسدون داخل أسوار قصورهم الفارهة، فهم حمقى يدّعون امتلاكهم القوّة من فراغ، كما وصفهم ليفاي. كل تلك اللحظات المثيرة والمربكة يصعب نسيانها مع مشاهد الخوف والرعب في دك الأرض، وقدرة البشر على تبرير الإبادة باسم الحرية.
ربما اختار هاجيمي إعادة سرد التاريخ العالمي بطريقة مبتكرة وإبداعية، لكنّه عاش ارتباكًا واضحًا في رسم الخط الفاصل بين التضحية والحرية، ليس من منطلق أخلاقي وإنساني، وإنّما من حالة الشعور باليأس والعجز داخل بنية الحضارة المادية
لطالما حاولنا فهم قصص التضحية والخلاص، والحياة والموت، وأشعارها وصورها المعلقة في أسوار التاريخ، لكننا نتأخر دائمًا في الولوج إلى عالمنا الخاص، حيث لا نحتمي بالتاريخ العالمي والمهيمن علينا قهرًا، فعزلتنا لم تكن ذات جدوى أمام السرديات الإمبراطورية وأغانيها.
ففي هجوم العمالقة كان التاريخ العالمي ملحمة إبداعية، خالية لدرجة الانعدام من الأصوات التي تصرخ، خارج أسوار قلاع حضارة ممسوخة ومخيفة، وإلى جانب العناصر الإبداعية في سلسلة الهجوم على العمالقة، كانت الموسيقى عملًا فنّيًا ملحميًا بامتياز، رافقت اللحظات الصعبة والتغييرات الطارئة والمعاناة البشرية، والفرح بأكل طعام ساخن.
ربما اختار هاجيمي إعادة سرد التاريخ العالمي بطريقة مبتكرة وإبداعية، لكنّه عاش ارتباكًا واضحًا في رسم الخط الفاصل بين التضحية والحرية، ليس من منطلق أخلاقي وإنساني، وإنّما من حالة الشعور باليأس والعجز داخل بنية الحضارة المادية، التي تهدم أسوارها القيم المشتركة، لتنتج مسوخًا عملاقة تحرص على الإبادة، حيث الوقوف في الجانب الآخر من الحقيقة يعد ملحمة وتحديًا للتاريخ الإمبراطوري، وهدفًا لآلة القتل الصهيونية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.