في قلب العاصمة الأميركية، تدور مفارقة لافتة: كلما زاد الإنفاق المالي لجماعات الضغط الداعمة للسياسات الإسرائيلية، بدا أن تأثيرها في ضمير الشعب يتراجع! ففي عام 2023، أعلنت "أوبن سيكرتس" عن إنفاق قياسي تجاوز 30 مليون دولار، بينما أظهر استطلاع "غالوب" (2024) أن 55% من الأميركيين يرون تجاوزًا إسرائيليًّا في غزة، والنسبة ترتفع إلى 75% بين الشباب.. هذا التناقض يطرح سؤالًا جوهريًّا: هل لا تزال القوة تقاس بالمال والنفوذ فقط؟
لتفكيك هذه الإشكالية، يجب فهم أن قوة اللوبيات نبعت تاريخيًّا من قدرتها على تحقيق "الهيمنة الثقافية"، كما وصفها غرامشي، وقد نجحت لعقود في جعل خطابها جزءًا من "الحس المشترك" الأميركي عبر "فن التأطير"، مقدمةً القضية ضمن إطار "الأمن" و"الديمقراطية" و"مكافحة الإرهاب". وكما قال والتر ليبمان، أسهمت في رسم "الصور في رؤوسنا" عن الصراع.
تحاول اللوبيات المواجهة بالتصعيد المالي والضغط المؤسسي وحرب السرديات، لكن هذه الإستراتيجيات تبدو وكأنها تعمق الأزمة، مؤكدةً للشباب شكوكهم حول "قوة المال" و"قمع الأصوات"
العصر الذهبي والتوازن المفقود
في "العصر الذهبي" (الثمانينيات- بداية الألفية)، ساد توازن شبه مطلق بين خطاب اللوبي والثقافة السائدة؛ إذ تناغمت رسائلها مع منطق الحرب الباردة والاستثنائية الأميركية، مدعومةً ببيئة إعلامية منضبطة وإجماع نخبوي.. كانت السياسة والثقافة تسيران في اتجاه واحد.
لكن "الطوفان الثقافي" للعقدين الأخيرين قلب المعادلة مع أحداث مفصلية -حرب العراق (2003)، الأزمة المالية (2008)، حركة "حياة السود مهمة" (2020)، وحرب غزة (2023-2025)- أحدثت شروخًا عميقةً. الثورة الرقمية كسرت احتكار المعلومات، وأتاحت للفلسطينيين نقل روايتهم مباشرةً. ووفقًا لـ"بيو" (2024): 70% من جيل Z يحصلون على أخبارهم من وسائل التواصل، و58% يرون القضية الفلسطينية كقضية عدالة.
ثلاث جبهات للصدام
- يتجلى الصدام في ثلاث جبهات:
- صدام الأطر: إطار "الأمن" القديم يصطدم بإطار "العدالة وحقوق الإنسان" الجديد. ما كان يؤطر كـ"مكافحة إرهاب" أصبح يُرى كـ "احتلال"، وما كان "دفاعًا عن الديمقراطية" بات "فصلًا عنصريًّا".
- صدام الرسل: الساسة التقليديون يفقدون مصداقيتهم أمام نشطاء تيك توك والأكاديميين النقديين والفنانين الذين يربطون القضية بحركات العدالة العالمية.
- صدام الساحات: انتقلت المعركة من أروقة الكونغرس إلى ساحات الجامعات والفضاءات الرقمية، حيث لا تعمل أدوات النفوذ التقليدية بنفس الكفاءة. أرقام تكشف الأزمة 62% من الديمقراطيين الشباب يؤيدون وقف المساعدات العسكرية لإسرائيل أكثر من 100 جامعة شهدت احتجاجات مؤيدةً لفلسطين هاشتاغ #FreePalestine حصد 50 مليار مشاهدة على تيك توك
تحاول اللوبيات المواجهة بالتصعيد المالي والضغط المؤسسي وحرب السرديات، لكن هذه الإستراتيجيات تبدو وكأنها تعمق الأزمة، مؤكدةً للشباب شكوكهم حول "قوة المال" و"قمع الأصوات".
الاستمرار في ترديد خطاب فقد أساسه الثقافي هو تشبث بحاضر يتآكل؛ أما إدراك التغير فيعني تطوير خطاب يتواءم مع القيم الناشئة. كما قال ابن خلدون: "إذا تغيرت الأحوال جملةً، فكأنما تبدل الخلق من أصله"
قانون التطور الحتمي
إن التحدي ليس مجرد معارضة سياسية، بل أزمة وجودية تتعلق بالقدرة على التكيف مع تغير ثقافي عاتٍ. يفرض القانون الأزلي نفسه: "من يرد الحاضر فسوف يتلاشى، ومن يدرك التغير فسيكون هو الغد".
الاستمرار في ترديد خطاب فقد أساسه الثقافي هو تشبث بحاضر يتآكل؛ أما إدراك التغير فيعني تطوير خطاب يتواءم مع القيم الناشئة. كما قال ابن خلدون: "إذا تغيرت الأحوال جملةً، فكأنما تبدل الخلق من أصله".
إنها ليست قصة جماعة ضغط بعينها، بل درس في حتمية التطور لكل مؤسسة تريد البقاء في عالم قانونه الوحيد الثابت هو التغير.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.