في 13 يونيو/ حزيران 2025، دخل النظام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط مرحلة جديدة من عدم الاستقرار، عقب تنفيذ قوات الاحتلال الإسرائيلي هجومًا جويًّا واسع النطاق، استهدف منشآت نووية وعسكرية داخل العمق الإيراني، تحت ذريعة الحيلولة دون بلوغ طهران "العتبة النووية".
وقد مثل هذا الفعل العسكري نقطة تحول إستراتيجية، بالنظر إلى طبيعته الاستباقية، وتوقيته ضمن سياق إقليمي معقد في ظل تداعيات أزمة طوفان الأقصى والتحولات في المشهد السوري، وتداعيات الحرب الأوكرانية على التنافس الدولي في المنطقة.
أعقب القصف الأميركي هجوم إيراني على قاعدة العديد في قطر، ليعلن بعدها ترامب وقف الأعمال القتالية، مع تقديمه الشكر للجانب الإيراني على الاستجابة بوصفها دليلًا على الرغبة في احتواء التصعيد
جاء الرد الإيراني على نحو مكثف ومتعدد الأبعاد، حيث شملت الضربات مواقع حيوية في العمق الإسرائيلي، ما أدى إلى تصعيد سريع وغير منضبط في ديناميات الصراع.
وفي ظل تصاعد الأعباء السياسية والعسكرية على إسرائيل، أقدمت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على التخلي عن سياسة "الردع التكيفي" التي كانت تتبناها مع إيران، متجهة نحو الانخراط العسكري المباشر من خلال استهداف منشآت نووية إيرانية في فوردو ونطنز وأصفهان.
أعقب ذلك هجوم إيراني على قاعدة العديد في قطر، ليعلن بعدها ترامب وقف الأعمال القتالية، مع تقديمه الشكر للجانب الإيراني على الاستجابة بوصفها دليلًا على الرغبة في احتواء التصعيد.
إن المواجهة الإسرائيلية الأميركية مع إيران، في يونيو/ حزيران 2025، تمثل مرحلة فارقة في تاريخ العلاقات بين طهران وواشنطن، ليس فقط بفعل الانخراط العسكري الأميركي المباشر في مواجهة إيران وليس عبر وكلاء أو بعيدًا عن الأراضي الإيرانية، وإنما بسبب ما أفرزته هذه المواجهة من تحولات هيكلية في البيئة الأمنية الإقليمية والدولية، وهو ما يطرح التساؤلات حول المسارات المستقبلية للعلاقات الأميركية- الإيرانية بعد هذه المواجهة.
ساهم فشل الأدوات الدبلوماسية في تغذية الصراع، وتوفير الأرضية المناسبة للمواجهة المباشرة، وخاصة بعد جولة ترامب الخليجية، وما أعلن عنه من اتفاقيات اقتصادية
سياقات المواجهة
لا يمكن مقاربة الأزمة الأخيرة خارج السياق التراكمي للعلاقات بين الطرفين، والذي تأسس منذ عام 1979 على قاعدة صراع بنيوي، تمحور حول تباين في التصورات الأمنية والسياسية والأيديولوجية، وقد أدى انسحاب إدارة ترامب عام 2018 من خطة العمل الشاملة المشتركة، التي تم توقيعها مع إيران في ظل إدارة أوباما، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، إلى إنتاج بيئة صراعية مفتوحة، وخاصة مع اعتماد ترامب إستراتيجية "الضغط الأقصى" في مواجهة البرنامج النووي الإيراني، مقابل تصعيد طهران نشاطاتها النووية والإقليمية.
وساهم فشل الأدوات الدبلوماسية -وخاصة بعد جولات متعددة من المفاوضات بين الجانبين في سلطنة عمان وإيطاليا، وتآكل الثقة المتبادلة، وازدياد انكشاف البيئة الإقليمية- في تغذية الصراع، وتوفير الأرضية المناسبة للمواجهة المباشرة، وخاصة بعد جولة ترامب الخليجية، وما أعلن عنه من اتفاقيات اقتصادية، والربط بين هذه الجولة وما حدث من تصعيد مع إيران.
التحولات في قواعد الاشتباك
أفرزت مواجهة يونيو/ حزيران 2025 عدة تحولات نوعية في أنماط التفاعل بين واشنطن وطهران، أولها أن التدخل الأميركي المباشر في استهداف المنشآت النووية الإيرانية شكَّل تجاوزًا للنمط التقليدي القائم على العمليات بالوكالة، ما يعكس تحوّلًا في إدراك التهديد داخل المؤسسة الأميركية تجاه قدرات إيران النووية وتوسّع نفوذها الإقليمي.
ثاني هذه التحولات انهيار قواعد الاشتباك غير المعلنة، وخاصة بعد الضربات المباشرة للبنية التحتية للبرنامج النووي الإيراني، ودعم ترامب لسياسات الاغتيالات التي تبنتها حكومة نتنياهو، وتلويحه بتغيير النظام السياسي في البلاد.
التحول الثالث هو غياب قناة تفاوض رسمية نشطة، ما أسهم في تصاعد احتمالات التصعيد في المواجهات القادمة بين الطرفين.
الترجيح بين المسارات يرتبط بعدة محددات، من بينها التوازنات الداخلية في إيران، فإذا أسفرت المواجهة العسكرية عن تعزيز هيمنة التيار المحافظ داخل النظام، وتحديدًا الحرس الثوري، فإن ذلك من شأنه أن يدفع نحو انخراط أكبر في المواجهة المفتوحة
مسارات مؤجلة
في إطار هذه التحولات تبرز عدة مسارات محتملة لمستقبل العلاقات بين الطرفين:
أولها: تصاعد التوتر إلى مستويات يصعب احتواؤها، في ظل ما يُعرف عن إدارة ترامب من تفضيل الحسم العسكري ورفض تقديم تنازلات، مدفوعة بتأثيرات داخلية وضغوط حلفاء إقليميين.
وقد يتخذ الرد الإيراني طابعًا مركبًا يشمل استهدافات انتقائية للبنى التحتية للمصالح الأميركية في المنطقة، وتعطيل حرية الملاحة، وتوظيف الوكلاء الإقليميين، ما قد يُفضي إلى أزمة ممتدة تُعيد تشكيل خريطة التحالفات الإقليمية.
ثاني المسارات: أن تتمكن الولايات المتحدة من تحييد القدرات النووية الإيرانية مرحليًّا، دون الانزلاق إلى صراع شامل، من خلال فرض حالة من الإنهاك الإستراتيجي للنظام الإيراني، حيث تُبقي واشنطن على أدوات الضغط القصوى، بينما تتجنب طهران التصعيد المفتوح، مع استمرار التوتر كسمة هيكلية في العلاقة، واستدامة حالة "اللاحرب واللاسلم"، بما يحول دون التوصل إلى ترتيبات أمنية مستدامة.
ثالث المسارات: الاتجاه نحو منطق "الصفقة الكبرى"، الذي يتبناه ترامب في بعض الملفات، والذي يمكن أن يُوظف لإعادة ضبط العلاقة وفق شروط أكثر صرامة على البرنامج النووي، مقابل تخفيف تدريجي للعقوبات، ودمج مسألة النفوذ الإقليمي وبرنامج الصواريخ الباليستية في الإطار التفاوضي.
رابع المسارات: العودة للمواجهة العسكرية بشكل أكثر عنفًا من مواجهة الأيام الاثني عشر، وخاصة في ظل سمات العشوائية والتناقض، التي يقوم عليها نمط الإدارة الأميركية تحت حكم ترامب.
في ضوء ما أفرزته حرب يونيو/ حزيران 2025 من تحولات بنيوية في العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران، وما تكشف عنه تصريحات ترامب التصعيدية والمتناقضة في نفس الوقت حول إعادة تفعيل القوة العسكرية ضد طهران، تبدو المرحلة القادمة محكومة بمزيج من التوتر والتهدئة
والترجيح بين هذه المسارات يرتبط بعدة محددات، من بينها التوازنات الداخلية في إيران، فإذا أسفرت المواجهة العسكرية عن تعزيز هيمنة التيار المحافظ داخل النظام، وتحديدًا الحرس الثوري، فإن ذلك من شأنه أن يدفع نحو انخراط أكبر في المواجهة المفتوحة.
أما إذا نتج عن هذه المواجهة اضطرابات داخلية، فقد تدفع هذه الاضطرابات إلى إعادة تقييم السياسات الخارجية بهدف احتواء تداعيات الأزمة وإعادة بناء ما تم تدميره.
ومن ناحية ثانية، قد تدفع التحولات الإقليمية والدولية، والرغبة في استكمال ملف التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، إلى اتجاه إدارة ترامب نحو تهدئة الأوضاع، وإعادة تشكيل الخرائط بشكل أكثر تركيزًا، وخاصة بعد أن فقدت إيران ذراعين من أهم أذرعها في المنطقة، في سوريا ولبنان.
ومن هنا يمكن القول، إنه في ضوء ما أفرزته حرب يونيو/ حزيران 2025 من تحولات بنيوية في العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران، وما تكشف عنه تصريحات ترامب التصعيدية والمتناقضة في نفس الوقت حول إعادة تفعيل القوة العسكرية ضد طهران، تبدو المرحلة القادمة محكومة بمزيج من التوتر والتهدئة المؤقتة، في غياب تسوية إستراتيجية شاملة، وخاصة مع وجود ترامب بتوجهاته غير المؤسسية، وتفضيله القرارات الأحادية، وهو ما يفتح الباب أمام العديد من المسارات غير التقليدية، التي قد يؤدي بعضها إلى توافقات جديدة، وقد يؤدي البعض الآخر إلى صدامات أكثر حدة واتساعًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.