مع انطلاق ما يُعرف بالربيع العربي، تغيرت ملامح الكثير من الدول وتم كشف حقيقتها: كانت في الأساس أنظمة لا دولًا مؤسساتية. ما شهدناه بعد سقوط هذه الأنظمة، كما في ليبيا وتونس، هو انهيار سريع للدولة، وكأنها كانت قائمة على رأس النظام فقط.
حين تسقط السلطة في كثير من الدول العربية، تسقط معها الدولة، وكأن الكيان كله كان معلقًا على رأس السلطة لا على بنيان راسخ. فما الذي بنيناه فعلًا: دولة أم سلطة؟
لقد أظهرت التجارب العربية أن الفرق بين بناء السلطة وبناء الدولة ليس مجرد مسألة نظرية، بل هو الفرق بين استقرار الوطن وفوضى انحلاله
الفرق المفاهيمي بين الدولة والسلطة
- بناء الدولة (State-Building): هو عملية تأسيس مؤسسات سياسية مستقرة، قانونية، تعمل على تنظيم العلاقات بين الدولة والمجتمع، مبنية على مبدأ المواطنة وسيادة القانون.
- بناء السلطة: منظومة حكم تتركز حول أفراد أو عصبيات معينة، حيث تصبح مؤسسات الدولة أدوات لتحقيق مصالح هذه السلطة الشخصية أو الحزبية.
الفارق الجوهري هو أن الدولة تهدف إلى استمرارية النظام السياسي بغض النظر عن الأشخاص، بينما السلطة تتركز على قوة الأفراد ونفوذهم.
هيمنة منطق السلطة في التجربة العربية
في العراق، وليبيا، وسوريا، واليمن، تحولت مؤسسات الدولة إلى أدوات في يد السلطة أو الجماعات المتحكمة، ما جعل سقوط النظام يعني انهيار الدولة.
الأجهزة الأمنية، والجيش، والقضاء، وحتى التعليم، مسائل كانت مرتبطة برأس السلطة، فبمجرد سقوط النظام، انهارت هذه المؤسسات وحدث فراغ أدى إلى الفوضى.
نماذج مضادة وتجارب ناجحة
- تونس: رغم هشاشة بنيتها السياسية، حافظت على حد أدنى من مؤسسات الدولة بعد الثورة، مما ساعد على صمود الدولة نسبيًّا.
- تركيا: مرت بعدة انقلابات عسكرية، لكنها حافظت على مؤسسات مستقلة نسبيًا، ما مكن الدولة من الصمود.
- إندونيسيا: بعد نهاية نظام سوهارتو، استمرت مؤسسات الدولة المركزية، مما ساعد على الوحدة الوطنية واستقرار الحكم.
لم تكن سوريا دولة مؤسسات بقدر ما كانت نظامًا أمنيًّا صلبًا يدور في فلك رأس السلطة. حين هرب رأس السلطة إلى موسكو في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، انتهت هذه الدولة وذابت كما يذوب الملح في الماء
شروط الانتقال من منطق السلطة إلى منطق الدولة
- إصلاح مؤسسات الدولة لتصبح عامة لا شخصية.
- إعادة صياغة العقد الاجتماعي على أساس المواطنة.
- الفصل الحقيقي بين السلطات.
- بناء ثقافة سياسية جديدة تحترم المؤسسات.
- بناء هوية وطنية جامعة تتجاوز هويات ما قبل الدولة وما فوق الدولة، لأن غياب الدولة الوطنية يجعل الناس يلجؤون إلى هذه الهويات، وهذا يعمق الانقسامات.
- التخلص من ثقافة التقديس للأشخاص أو الحكومات التي تأتي لخدمة الشعب وبناء الدولة، لا لتجثم على صدره وتبني إمبراطوريات خاصة بها، أو تحوّل الدولة إلى مزرعة للحكومة، كما فعل آل الأسد الذين أطلقوا شعار "الأسد أو نحرق البلد"! وفعلًا أحرقوا البلد من أجل شخص.
سوريا: حين تذوب الدولة كما يذوب الملح في الماء
لم تكن سوريا دولة مؤسسات بقدر ما كانت نظامًا أمنيًّا صلبًا يدور في فلك رأس السلطة. حين هرب رأس السلطة إلى موسكو في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، انتهت هذه الدولة وذابت كما يذوب الملح في الماء.
يجب تعزيز انتماء الشعوب إلى الدولة كمؤسسات باقية، لا كحكومات زائلة؛ فمن يحكم اليوم قد يرحل غدًا، لكن الدولة التي تُبنى على قواعد راسخة، لا ترحل
لقد أظهرت التجارب العربية أن الفرق بين بناء السلطة وبناء الدولة ليس مجرد مسألة نظرية، بل هو الفرق بين استقرار الوطن وفوضى انحلاله. حين تُختزل الدولة في سلطة فرد أو عائلة أو حزب، تنهار الدولة بانهيارهم، وتنتشر الفوضى والاقتتال.
لذلك، لا بد من إعادة التفكير الجاد في مفهوم الدولة في العالم العربي، والتركيز على بناء مؤسسات قوية وقانونية تستند إلى عقد اجتماعي جديد، يرتكز على المواطنة والهوية الوطنية الجامعة.
ويجب تعزيز انتماء الشعوب إلى الدولة كمؤسسات باقية، لا كحكومات زائلة؛ "فمن يحكم اليوم قد يرحل غدًا، لكن الدولة التي تُبنى على قواعد راسخة، لا ترحل.. إنه الفرق بين زوال الحاكم وزوال الوطن".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

