بعيدًا عن الصور والمواقع والمدن والبنايات والعمارات الشاهقة الجميلة جدًا في إقليم كردستان العراق، التي تشاهدها أو تسمع عنها في مواقع التواصل الاجتماعي الممولة حزبيًّا، وفي القنوات الحكومية والحزبية الكردستانية الرسمية، وبعيدًا عن سمعة إقليم كردستان "الجميلة جدًا"، التي كانت منتشرة في العراق ودول الإقليم، في كونه من آمَن المناطق في العراق (وهي -والحمد لله- ما زالت كذلك) وأكثرها ازدهارًا واستقرارًا، وأكثرها بناءً وإعمارًا، وأكثرها وئامًا وسلامًا.. نقول: بعيدًا عن كل هذا، هناك صورة أخرى داخل الإقليم، مختلفة كليًّا عن كل ما يقال ويشاع عنه من إيجابيات وجماليات ومحاسن ومديح.
منذ عام 2014، حين قررت حكومة إقليم كردستان أن تتجه للاستقلال الاقتصادي، بعد خلافات كبيرة مع الحكومة المركزية في بغداد برئاسة نوري المالكي، في ولايته الثانية، ومع ظهور تهديدات تنظيم الدولة، وعلى حدود الإقليم الدستورية، بدأت أزمة الرواتب، واستمرت حتى اليوم
هي صورة قاتمة ومخجلة ومزعجة للسلطة الحاكمة فيه، وللحكومة العراقية المركزية، ولشعب الإقليم نفسه، وللعراق ككل، ألا وهي صورة الموظف الكردي، وهو يغرق في متاهات أزمة الرواتب، ويكاد أن يؤمن، إيمانًا عميقًا، بأن الخلاص منها من المستحيلات.
فإذا كانت مستحيلات العرب ثلاثة، وهي الغول والعنقاء والخل الوفي، فأول المستحيلات الكردية اليوم هو إيجاد حل جذري لأزمة رواتب موظفي الإقليم، وثانيها قد يكون التوافق السياسي الداخلي الكردي، والذي سبب انعدامه الأزمة الرواتبية من الأساس.
فمنذ عام 2014، حين قررت حكومة إقليم كردستان أن تتجه للاستقلال الاقتصادي، بعد خلافات كبيرة مع الحكومة المركزية في بغداد برئاسة نوري المالكي، في ولايته الثانية، ومع ظهور تهديدات تنظيم الدولة، وعلى حدود الإقليم الدستورية، بدأت أزمة الرواتب، واستمرت حتى اليوم، دون أن تتمكن حكومات الإقليم من معالجتها، سواء عن طريق الاعتماد على الواردات الداخلية، النفطية وغير النفطية، أو بالاعتماد على حصة الإقليم دستوريًّا من موازنات الحكومة الاتحادية، والتي بدورها -الحصة- تعرضت للنقص، ولتجاذبات سياسية أثرت في إرسالها إلى الإقليم.
وهناك شيئان ثابتان في هذه الأزمة، والتي تعتبر سياسية ودستورية؛ الأول هو أن الاتهامات المتبادلة بخلقها وتكبيرها وتحويرها بين حكومتي الإقليم (أربيل) والمركز (بغداد) مستمرة لا تنتهي، هذه تتهم هذه، وهذه ترد على هذه، والشعب العراقي يتفرج. والثاني هو أن الخاسر الأكبر في هذه الأزمة موظفو إقليم كردستان.
يبلغ عدد سكان إقليم كردستان أكثر من 6.5 ملايين نسمة، وعدد موظفيه يتجاوز مليونًا وربع المليون موظف، وهذا يعني أنه ليس هناك بيت في الإقليم لا يتأثر بأزمة الرواتب، وحركة السوق وحياتها مرتبطة تمامًا بتوزيعها.
في المتوسط، تصل حالات الطلاق إلى 9 آلاف و604 حالات سنويًّا، و800 حالة شهريًّا، وأكثر من 26 حالة طلاق كل يوم، في الفترة المذكورة
والموظف الكردي في الإقليم تأثرت حياته سلبًا بهذه الأزمة المستمرة من جهات عدة:
- ماديًّا، حيث إنه لم يشهد الاستقرار المادي منذ عام 2014 وحتى اليوم، وبالكاد يستطيع أن يحصل على احتياجاته الحياتية الضرورية بالاعتماد على راتبه. وأما بناء المشاريع الخاصة أو المشاركة فيها، بالاعتماد على راتبه، فهذا مما لا يستطيع التفكير به إلا نادرًا.
- معنويًّا، حيث إنه يعيش أزمات نفسية واجتماعية عديدة تؤزم حياته الخاصة، وتُفقده عزة العيش. وأوضح الدلائل على ذلك هو ازدياد حالات الطلاق في محافظات الإقليم؛ فوفقًا للبيانات والإحصائيات الرسمية لمجلس قضاء إقليم كردستان بين عامي 2014 و2023، ارتفع عدد حالات الطلاق المسجلة في المحاكم من 18% في عام 2014 إلى 27% في عام 2023.
وفي المتوسط، تصل حالات الطلاق إلى 9 آلاف و604 حالات سنويًّا، و800 حالة شهريًّا، وأكثر من 26 حالة طلاق كل يوم، في الفترة المذكورة.
وفي عام 2024، بلغت حالات الطلاق أكثر من 11 ألف حالة طلاق. وبالطبع، يرى المتخصصون أن الأسباب الرئيسية للطلاق هي بالدرجة الأولى "العوامل الاقتصادية والعوامل الاجتماعية".
- سياسيًّا، حيث إن الموظف في منطقة عمله/ تعيينه مرتبط بإرادة الحزب الذي يحكمها. في السليمانية، يحكم تقليديًّا الـ"يكيتي" (الاتحاد الوطني الكردستاني)، ومحافظتا أربيل ودهوك تقعان تحت نفوذ الـ"بارتي" (الحزب الديمقراطي الكردستاني). وهذان الحزبان يشاركان في الحكم، ويتقاسمان السلطة والنفوذ والمال، سواء ما ارتبط بالإيرادات النفطية أو غيرها، ويسيطران عمليًّا على الواقع السياسي في الإقليم، ومفتاح حلول كل الأزمات السياسية والاقتصادية بأيدي زعماء الحزبين.
والموظف العادي في الإقليم لا يستطيع الاعتراض على سياسات الحزبين الاقتصادية، لأن تعيينه أساسًا جاء منهما، وبالإمكان أن يسببا له ما يشاءان من مشاكل، ويخلقان له ما يشاءان من اتهامات تؤدي إلى الاستغناء عنه وظيفيًّا. وفي النهاية، الموظف هنا ينتظر أن يتفق الحزبان مع بغداد لإيجاد حل لأزمة الرواتب، وليس بيده أن يفعل شيئًا غير الانتظار المر كالحنظل.
لا بد أن يسأل أي متابع للأزمة: لمصلحة من تستمر الحال هكذا؟ لمصلحة الحزبين الحاكمين في الإقليم، اللذين يمتلكان السلطة، أم لمصلحة الحكومة المركزية في بغداد
في ستينيات القرن العشرين، وضع عالم النفس الأميركي أبراهام ماسلو (1908-1970) تركيبة ذات تدرج هرمي لاحتياجات الإنسان الأساسية، وصمدت هذه التركيبة بمرور الزمن.
في قاعدة هذا الهرم تقع الاحتياجات الفسيولوجية، تليها الحاجة إلى الشعور بالأمان، ثم الاحتياجات الاجتماعية مثل الحب والانتماء، ثم الاحتياجات الفردية مثل الاحترام وتحقيق الذات.
وبسبب استمرارية أزمة الرواتب في إقليم كردستان، نستطيع أن نقول -بأسف- إن الموظف الكردي صار لا يستطيع أن يحقق احتياجاته الإنسانية الأساسية هذه:
فالمرتب الذي يُدفع له كل 40 يومًا أو 50 يومًا أو أكثر، بالكاد يكفيه للحصول على احتياجاته من المأكل والمشرب وشراء الأدوية لأمراضه. وبسبب معاناته المادية، يكاد أن يفتقر إلى الأمان والاستقرار النفسي، وإن كان يعيش في بيئة آمنة ومستقرة؛ بسبب معاناته المادية أيضًا، تزداد مشاكله وأزماته الاجتماعية، وهذه تؤثر على قيم وأخلاقيات ومبادئ المجتمع التقليدية.
وكل هذا يُشعره بالغربة عن المجتمع، ويُفقده الشعور بالانتماء له. وتأتي النتيجة الأصعب لأزمته المادية حين لا يحقق ذاته وعزته، فيفقد احترامه لذاته؛ فكل شيء مرتبط بالمادة اليوم، وانعدامها أو تعرضها للخطر الدائم يجعل السيطرة على تفاصيل حياته العادية صعبة جدًا.
وفي الختام، لا بد أن يسأل أي متابع للأزمة: لمصلحة من تستمر الحال هكذا؟ لمصلحة الحزبين الحاكمين في الإقليم، اللذين يمتلكان السلطة، أم لمصلحة الحكومة المركزية في بغداد، التي تتأثر بسياسات أحزاب تناهض الإقليم؟ هل ذلك لمصلحة موظفي الإقليم أنفسهم يا ترى؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

