تشويش على الإشارات، وطائرات مسيّرة تحوم، والمتضامنون يتمسكون بالبوصلة نحو غزة.. بهذه الأجواء المشحونة أبحرت السفينة "مادلين" نحو أحد أكثر الشواطئ المحاصَرة في العالم، رافعةً راية التحدي أمام آلة الحصار التي تطوق قطاع غزة منذ أكثر من 17 عامًا.
ورغم تهديدات إسرائيل الواضحة بمنعها بكل الوسائل الممكنة، استمرت السفينة تمخر عباب البحر الأبيض المتوسط، حاملة رسالة إنسانية تتجاوز حمولتها الرمزية، حتى احتجزتها قوات الاحتلال في المياه الإقليمية قبل وصولها إلى غزة.
الرسالة التي أرادتها مادلين كانت واضحة: إن كان العالم السياسي عاجزًا عن كسر الحصار، فإن المجتمع المدني الدولي يجرؤ على مواجهته، ولو بسفينة صغيرة تحت خطر التشويش والاعتراض المسلح
من سفينة صغيرة إلى قضية دولية
"مادلين" لم تكن أولى سفن كسر الحصار، لكنها حملت في طاقمها ومقاصدها أبعادًا جديدة؛ فقد كان على متنها الناشطة البيئية السويدية غريتا ثونبرغ، والحقوقية الفرنسية الفلسطينية ريما حسن، إضافة إلى أطباء ومتضامنين من أوروبا.
المساعدات التي حملتها السفينة رمزية: حليب أطفال، أطراف صناعية، معدات طبية.. ولكن الرمزية هنا أقوى من المادة: إنها رمزية كسر جدار الصمت العالمي تجاه الوضع الإنساني في غزة.
الرسالة التي أرادتها كانت واضحة: إن كان العالم السياسي عاجزًا عن كسر الحصار، فإن المجتمع المدني الدولي يجرؤ على مواجهته، ولو بسفينة صغيرة تحت خطر التشويش والاعتراض المسلح.
إشكالية الرد الإسرائيلي بين منطق الأمن وتبعات المواجهة
منذ أيام، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس أن "الجيش سيتدخل لمنع السفينة من الوصول إلى غزة"، مُطلقًا العنان لاحتمال اعتراضها في عرض البحر وتحويل مسارها نحو ميناء أشدود. الرد الإسرائيلي استند، كما جرت العادة، إلى "مخاوف أمنية" من تهريب أسلحة لحركة حماس.
تهديد كاتس تم تنفيذه، لكن المنطق الذي استند إليه اصطدم بواقع جديد: السفينة صغيرة، علنية، تراقبها وسائل الإعلام العالمية، وتركبها شخصيات معروفة دوليًّا. ويبقى السؤال: إلى أي مدى سيشكل ما حدث، من الناحية السياسية، خسارة لتل أبيب في معركة الصورة والرأي العام؟ وهنا نتذكر ما حدث في واقعة سفينة "مافي مرمرة" سنة 2010، حين قتل الجنود الإسرائيليون عشرة متضامنين أتراك في هجوم أثار موجة غضب دولية.
بعد منع الاحتلال السفينة من الوصول إلى غزة، يبقى السؤال الأكبر المطروح الآن: هل آن أوان إعادة فتح ملف الحصار البحري على غزة في الأمم المتحدة؟
غزة والبحر: ساحة رمزية للصراع الأخلاقي
لم تعد غزة مجرد بقعة على الخارطة تحت الحصار، بل غدت رمزًا للاختناق الأخلاقي في النظام العالمي. الحصار الإسرائيلي المفروض منذ 2007، والذي يشمل المنفذ البحري، حوّل أكثر من مليوني إنسان إلى رهائن في "سجن مفتوح"، حسب وصف الأمم المتحدة.
في هذا السياق، تتحول أي محاولة لاختراق الحصار إلى اختبار للمجتمع الدولي: هل يجرؤ على مواجهة منطق الاحتلال؟ هل تبقى المؤسسات الحقوقية على صمتها بعدما تم اعتراض "مادلين"؟ وهل يكون البحر بوابة جديدة لفتح ملف غزة على الطاولة الدولية من جديد؟
المجتمع المدني في قلب المعركة
اللافت في "مادلين" لم يكن حجمها، بل هوية من على متنها, فهم: نشطاء بيئيون، وأطباء، وحقوقيون، وأفراد ليس لهم علاقة مباشرة بالنزاع العربي الإسرائيلي، بل جاؤوا من بوابة القيم العالمية. هذا يُحرج إسرائيل أمام أوروبا تحديدًا، ويدفع باتجاه إعادة التفكير في مشروعية الحصار.
كما أن تحركًا بهذه الرمزية، مع ما نتج عنه، يفترض أن يعيد الاعتبار لفكرة "التحرك الشعبي الدولي" خارج الأطر الدبلوماسية الرسمية، في مشهد يُشبه ما حدث إبان مقاطعة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، أو حملات التضامن مع الثورة الفيتنامية.
في لحظة يأس عربي، ومأزق أممي، أتت "مادلين" لا كحلّ، بل كسؤال أخلاقي جديد يُطرح على العالم: إلى متى يستمر الحصار؟
ما بعد "مادلين": هل يتحرك البحر؟
بعد منع الاحتلال السفينة من الوصول إلى غزة، يبقى السؤال الأكبر المطروح الآن: هل آن أوان إعادة فتح ملف الحصار البحري على غزة في الأمم المتحدة؟ وهل يستطيع النشطاء المدنيون تحريك المياه الراكدة حيث فشلت المبادرات الرسمية؟
الإجابة تتحدد من خلال ما سيجري في قابل الأيام.
في لحظة يأس عربي، ومأزق أممي، أتت "مادلين" لا كحلّ، بل كسؤال أخلاقي جديد يُطرح على العالم: إلى متى يستمر الحصار؟ ومن ذا الذي يجرؤ على كسره؟ ومتى يكفّ البحر عن أن يكون شاهدًا صامتًا على مأساة لم تعد تُطاق؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.