شعار قسم مدونات

كيف تحارب الرأسمالية النوم؟

توصلت دراسة علمية أجريت في السويد أن النوم لفترة تتراوح ما بين ثلاث إلى خمس ساعات فقط ليلا تزيد مخاطر الإصابة بالنوع الثاني من مرض السكري.
منذ اللحظة التي نستيقظ فيها حتى اللحظة التي نضع فيها رؤوسنا على الوسادة تحيط بنا شاشات صُمِّمت خصيصَى لجذب انتباهنا وإبقائِنا يقظين لأطول وقت ممكن! (شترستوك)

قبل عقود، كان الليل يعني السكون، كانت المدينة تُطفئ أنوارَها، الأسواق تُغلق، والشوارع تهدأ.. كان البشر يعرفون أن هناك إيقاعًا طبيعيًّا للحياة، أن هناك وقتًا للعمل ووقتًا للراحة، وأن النوم ليس مجرد ضرورة بيولوجيّة، بل هو طقسٌ مقدّس يعيد للإنسان اتصاله بذاته وبإيقاع الطبيعة.. لكنّ شيئًا ما تغيّر!

اليوم، صار العالم يعمل بلا توقف!. المصانع لم تعد تغلق، الأسواق لم تعد تعرف الليل، وشاشات الهواتف تواصل العمل حتى ونحن في أسرتنا.

لقد أصبحنا كائنات تعيش في زمن غير متقطع، زمن بلا ليل، بلا استراحة، بلا نهاية.. في عالم الرأسمالية الرقمية، لم يعد هناك شيء مقدّس، حتى النوم نفسه أصبح ساحة معركة جديدة.

النوم هو الفعل الوحيد الذي لا يمكن تحويله إلى سلعة؛ لا يمكنك شراء أو بيع النوم، لا يمكنك استغلال شخص نائم، لا يمكنك بث الإعلانات في عقله أثناء استراحته

النوم: آخر حصون المقاومة في عالم الاستغلال

في كتابه "24/7: الرأسمالية المتأخرة ونهاية النوم"، يكشف الفيلسوف الأميركي جوناثان كراري كيف تحوّل النوم إلى المساحة الوحيدة التي لا تستطيع الرأسمالية اختراقها بسهولة. نحن نعمل، نستهلك، ننتج، نشارك في شبكات التواصل. لكن، عندما ننام نصبح خارج الشبكة، خارج السوق، خارج السيطرة.

إعلان

وهذا هو التهديد الحقيقي للنظام الحالي: النوم هو الفعل الوحيد الذي لا يمكن تحويله إلى سلعة؛ لا يمكنك شراء أو بيع النوم، لا يمكنك استغلال شخص نائم، لا يمكنك بث الإعلانات في عقله أثناء استراحته (حتى الآن على الأقل!).

ولهذا، فإن الرأسمالية المتأخرة تشنّ حربًا مفتوحة ضد النوم، تسعى إلى تقليصه، إلى تشويشه، إلى جعله أقل عمقًا وأقل أهمية.

هذه ليست مجرد عبارات عابرة، بل هي جزء من أيديولوجيا تُروَّج باستمرار في وسائل الإعلام، حيث يُحتفى بالأشخاص الذين يعملون بلا توقف، ويُنظر إلى النوم وكأنه عقبة في طريق النجاح

كيف تحارب الرأسمالية النوم؟

  • التكنولوجيا التي لا تنام

منذ اللحظة التي نستيقظ فيها حتى اللحظة التي نضع فيها رؤوسنا على الوسادة، تحيط بنا شاشات صُمِّمت خصيصَى لجذب انتباهنا وإبقائنا يقظين لأطول وقت ممكن!

تطبيقات الهواتف، الإشعارات التي لا تتوقف، منصات البث التي تعرض حلقات المسلسلات بشكل متتابع دون توقف، حتى طريقة تصميم وسائل التواصل الاجتماعي تعتمد على الإدمان الرقمي، حيث تتم برمجة المحتوى ليُحفّز الدماغ ويمنعه من الانفصال.

نحن اليوم نعيش في عالم حيث "الإيقاف التلقائي" لم يعد خيارًا.. لا شيء ينتهي من تلقاء نفسه: الفيديو التالي يبدأ فور انتهاء الأول، الأخبار تتجدد بلا توقف، والبريد الإلكتروني يستمر في المطالبة بانتباهك حتى بعد ساعات العمل الرسمية!. إنها دورة لا نهائية تُبقي العقل في حالة تأهّب دائم، ما يجعل النوم السليم أمرًا شبه مستحيل.

  • اقتصاد العمل 24/7

في الماضي، كان العمل مقسّمًا إلى ساعات واضحة: تبدأ يومك في وقت محدد، وتنهيه في وقت محدد. أما اليوم، فقد تلاشت هذه الحدود تمامًا.. البريد الإلكتروني لم يعد محصورًا بساعات الدوام، الرسائل العاجلة تأتي في منتصف الليل، والتوقعات بأن تكون متاحًا دائمًا أصبحت ضمنيّة في ثقافة العمل الحديثة.

حتى الوظائف التي لا تتطلب العمل خارج الدوام أصبحت تُشجّع على ذلك.. إن لم تكن متصلًا، إن لم تكن تتابع الأخبار، إن لم تكن تطوّر مهاراتك الرقمية، فأنت خارج المنافسة. والنتيجة؟ عمال على أهْبة الاستعداد دائمًا، يشعرون بالذنب إن ناموا، ويعيشون في قلق مستمر لأنهم قد يفقدون شيئًا أثناء غيابهم.

إعلان
  • إيقاع الحياة السريع والمضطرب

في ثقافة اليوم، النوم يُنظر إليه على أنه ترف لا ضرورة!. كم مرة سمعت عبارات مثل: "النوم للضعفاء"… "سأنام عندما أموت"… "الأشخاص الناجحون لا ينامون كثيرًا".

هذه ليست مجرد عبارات عابرة، بل هي جزء من أيديولوجيا تُروَّج باستمرار في وسائل الإعلام، حيث يُحتفى بالأشخاص الذين يعملون بلا توقف، ويُنظر إلى النوم وكأنه عقبة في طريق النجاح.

لكن الحقيقة هي أن هذا النمط من الحياة ليس مستدامًا؛ فكل الدراسات تؤكد أن قلة النوم تؤدي إلى انخفاض الإنتاجية، وتراجع الصحة النفسية، وتقصير العمر.

ومع ذلك، فإن النظام الاقتصادي الحالي لا يريدك أن تفكّر بهذه الطريقة، لأنه بحاجة إلى أشخاص منهَكين، غير قادرين على مقاومة إيقاع الاستهلاك والعمل المستمر.

في عالم لا يتوقف، فإن النوم أصبح فعل مقاومة.. أن تغلق هاتفك، أن تنام في وقتٍ مناسب، أن تسمح لعقلك بالراحة

ما الذي خسرناه حين فقدنا النوم؟

في العصور القديمة، كان النوم فعلًا اجتماعيًّا وروحيًّا، كانت هناك طقوس للنوم، للحلم، للراحة… لم يكن النوم مجرد "فترة انقطاع"، بل كان جزءًا من دورة الحياة الطبيعية. الناس كانوا ينامون بشكل متقطع، يتأملون في الليل، يعيشون في تناغم مع الطبيعة.

لكن اليوم، أصبح النوم مجرد ضرورة مزعجة نحاول تقليصها قدر الإمكان؛ عدد ساعات النوم انخفض بشكل حاد خلال القرن الماضي، ومعه انخفضت جودة الحياة.

الأرق أصبح ظاهرة جماعية، مشاكل النوم تضاعفت، والقلق أصبح مرض العصر. والأسوأ؟ أننا لم نعد نعرف كيف نرتاح!. حتى عندما نحصل على وقت فراغ فإننا نملؤه بالشاشات، بالضوضاء الرقمية، بجرعات متواصلة من المحتوى الذي يُبقي عقولنا مستيقظة بلا توقف.

نحن لسنا آلات، نحن كائنات بشرية لها إيقاعها الطبيعي، حاجاتها العميقة، ومساحاتها الخاصة التي يجب ألا تُستباح. والنوم، رغم بساطته الظاهرية، قد يكون آخر مساحة حقيقية نستطيع فيها أن نكون أحرارًا

كيف نستعيد حقنا في النوم؟

في عالم لا يتوقف، فإن النوم أصبح فعل مقاومة.. أن تغلق هاتفك، أن تنام في وقتٍ مناسب، أن تسمح لعقلك بالراحة، هي كلها أفعال تتحدى النظام الرأسمالي الرقمي الذي يريدك متصلًا طوال الوقت.

إعلان

لكن استعادة النوم ليست بالأمر السهل؛ علينا أن نتعلم من جديد كيف ننفصل، كيف نخلق مساحات للراحة الحقيقية، كيف نعيد تقديس النوم باعتباره حقًا وليس مجرد ضرورة. قد يكون ذلك عبر:

  • وضع حدود صارمة بين العمل والراحة.
  • تقليل التعرض للشاشات قبل النوم.
  • تبني طقوس مسائية تساعد على التهدئة، مثل القراءة أو التأمل.
  • إدراك أن الإنتاجية ليست مقياسًا وحيدًا للقيمة الإنسانية.

في النهاية، نحن لسنا آلات، نحن كائنات بشرية لها إيقاعها الطبيعي، حاجاتها العميقة، ومساحاتها الخاصة التي يجب ألا تُستباح. والنوم، رغم بساطته الظاهرية، قد يكون آخر مساحة حقيقية نستطيع فيها أن نكون أحرارًا.

فهل نملك الشجاعة لاستعادته؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان