في زمن تتسارع فيه وتيرة الكلام وتتباطأ فيه آداب الإصغاء، أصبح من النادر أن تجد من يستمع إليك ليفهمك، لا ليُعدّ لك الردّ. كثيرًا ما نخوض نقاشًا أو حوارًا، فنُفاجأ بطرف يقاطعك في منتصف الجملة، ينهمر عليك بالأدلة، ويرفع راية الانتصار قبل أن تتضح له حتى نيتك من الحديث.
الناس اليوم -في الغالب- لا يستمعون ليفهموا، بل ليستعدوا للرد. هذا السلوك لا يختصر فقط حجم سوء التفاهم الذي ينتج عنه، بل يعكس أيضًا أزمة ثقافية عميقة: غياب فنّ الاستماع، وتَقدُّم الحاجة إلى الإقناع على واجب الفهم.
الاستماع مهارة تربوية وثقافية، لا تُكتسب تلقائيًّا، هي فعل إرادي يتطلب انضباطًا نفسيًّا واهتمامًا صادقًا بالآخر. المجتمعات التي تُعلّم أبناءها كيف يصغون، تُخرّج أجيالًا تحاور بعقلانية وتختلف برُقي
بين الانتصار والفهم
لقد صار الحوار في مجتمعاتنا أقرب إلى معركة كلامية منه إلى مساحة للفكر المشترك؛ الطرف الآخر لا يريد أن يصغي، بل أن ينتصر.. يأتيك بالحجج والبراهين، يُشهِر النصوص ويستدعي الأمثلة، ثم تهمس له: "لكنني لم أقصد هذا". لحظة إدراك متأخرة تأتي بعد توتر، وربما خصام لا مبرر له، لأن الاستماع لم يكن حاضرًا منذ البداية.
إنها مشكلة لا تكمن في اختلاف الآراء، بل في استعجال الرد قبل الإنصات. الاستماع الجيد لا يعني الموافقة، بل الاحترام.. احترام العقل الآخر، والتجربة الأخرى، والمعنى الذي قد لا يظهر إلا إذا صبرنا عليه قليلًا.
الاستماع.. مهارة غائبة
الاستماع مهارة تربوية وثقافية، لا تُكتسب تلقائيًّا، هي فعل إرادي يتطلب انضباطًا نفسيًّا واهتمامًا صادقًا بالآخر. المجتمعات التي تُعلّم أبناءها كيف يصغون، تُخرّج أجيالًا تحاور بعقلانية وتختلف برُقي.
أما في بيئتنا، فقد اعتدنا أن نُربّي الأطفال على سرعة الرد لا على عمق الفهم، أن يقطع الحديث ليُبدي ذكاءه، لا ليُنمّي وعيه. ولذلك نجد حوارات كثيرة تبدأ بنوايا طيبة، وتنتهي بسوء تفاهم مزمن، لأن أحد الأطراف لم يمنح الآخر فرصة للتعبير الكامل عن فكرته.
الحوار ليس حلبة صراع، والاستماع ليس ضعفًا، بل شجاعة أدبية وثقافية. وإن أردنا فعلًا بناء مجتمع يحترم العقل والفكر والاختلاف، فلنبدأ بإحياء هذه القاعدة البسيطة: "استمع.. قبل أن ترد"
الصمت.. شريك الفهم
لو أنه استمع فقط لَفهم أنني لا أعارضه، بل أؤيده.. لو أنه فقط انتظر لكان الحوار أكثر ثراء. كم من فكرة قُتلت قبل أن تولد! وكم من علاقة توترت بلا سبب، فقط لأن أحدهم لم يتقن فن الصمت النبيل!
إن أعظم ما يمكن أن نمنحه للآخر أحيانًا ليس رأيًا، بل أذنًا مصغية! نُصغي له حتى ينتهي، حتى يتنفس فكرُه، ويتضح مقصده، ثم نردّ بما يناسبه لا بما ظنناه.
الحوار ليس حلبة صراع، والاستماع ليس ضعفًا، بل شجاعة أدبية وثقافية. وإن أردنا فعلًا بناء مجتمع يحترم العقل والفكر والاختلاف، فلنبدأ بإحياء هذه القاعدة البسيطة: "استمع.. قبل أن ترد".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.