عاشت الأمة الإسلامية قرونًا في ظلّ الإسلام، تهتدي بهديه، وتنهج نهجه، وتعتزّ بالانتماء إليه، فاستحقت البقاء والتمكين والاستخلاف، وبلغ الإسلام الآفاق، فانشرحت له صدور كثير من العالمين.
لا شك – وأمام ما يحصل في العالم اليوم من تعقيدات وتحشيد – أن الأمور تسير في المنطقة العربية والإسلامية إلى نتائج تكاد تكون حتمية وكارثية، بغض النظر عن المراحل التي ستمرّ بها والأزمنة التي ستقطعها، وإذا كان سيتحول الصراع إلى صراع إقليمي أو حتى عالمي، فجميع الاحتمالات واردة، ولا سيما بعد عودة ترامب إلى سدة الحكم للمرة الثانية بما يؤكد أن (الصقور) هم الذين يقودون ويتحكّمون في مصير العالم سلمًا أو حربًا.
هذا الواقع الماثل يتجاوز تهديد الدول بشكل فردي، بل يشكل تهديدًا جماعيًا للإقليم ومنطقتنا على نحو غير مسبوق، يستدعي المزيد من الترتيبات على الصعد العسكرية والسياسية، واضعين في الاعتبار مبادئ رئيسية يجب الوقوف عندها مليًا ليبنى عليها القرار بشكل إستراتيجي وتكتيكي في التعامل مع المتغيرات الجديدة.
الإسلام كمنظومة سياسية اجتماعية اقتصادية عسكرية ثقافية، هو المنظومة الوحيدة القادرة على تأمين هذه المنطقة والانطلاق بها نحو مستقبل آمن
الوضع الجيوستراتيجي لمنطقة غرب آسيا هو أننا نعيش اليوم مرحلة حساسة من التاريخ لم تشهدها المنطقة منذ قرون وفيها متغيرات ضخمة تلوح في الأفق وهذا لعدة عوامل وهي:
غياب المشروع الناظم
إن منطقتنا اليوم تعيش فراغًا إستراتيجيًا ضخمًا، فالمشروع الغربي الذي سيطر على المنطقة لقرنين وكان دائمًا هو الناظم لوضعها الأمني أو السياسي، فقدَ اليوم هذه الميزة ولم يعد يستطيع السيطرة إلا بشكل محدود لفقدانه القدرة على تحمل الخسائر.
كما أن الغرب فقد ما هو أهم وهو الرسالة أو النموذج فلم يعد ما يدعيه من حقوق للإنسان والانضباط بالنظام والقانون له أثر، فضلًا عن سقوط الغرب في الامتحان الأخلاقي في العراق وأفغانستان وغيرهما، ومع غياب/ سقوط القوة الغربية لم تظهر بعد قوة إسلامية لتغطية وملء مكان القوة الآفلة.
وبالتالي فمرحلة الفراغ هي مرحلة حافزة للجميع بأن يرث هذا الفراغ، بيد أن الملاحظ عدم وجود مشروع إسلامي واضح المعالم تتبنّاه جهة فاعلة، مع ضعف الثقة بين الدول العربية، وهذا يستدعي أن يتحرك العقلاء لتنظيم العلاقات في الإقليم بين قواه الفاعلة لسد هذا الفراغ.
ظهور قوة دولية جديدة طامحة
هناك تنافس خطير نتج عن فشل مشروع بريجنسكي في العالم وفي المنطقة تحديدًا، ما أدّى إلى أن القوة العالمية أصبح مكانها الوجودي -بأن تكون قوة إقليمية أو قوة عالمية- مربوطًا بالشرق الأوسط ونفوذها فيه، مثل روسيا والصين، مما يستدعي وحدة المسلمين، وأن يكون اتحادهم بقوة بدون أجندات خفية، وبدون مخاوف مسبقة من بروز تيار طائفي أو مذهبي على تيارات أخرى، كما كان في السابق.
التغير الديمغرافي في المنطقة
لا شك أن من عوامل الضعف التي أدت إلى سقوط المنطقة العربية والإسلامية في القرون الماضية هو ضعف الإنسان العربي والفقر العام وتعدد المرجعيات وتشرذمها، بحيث لم يكن هناك تجمع سكاني يملك قيادة واعية تمكنه من صناعة قوة مؤثرة، حيث تم تجهيل سكان هذه المنطقة لقرون، إذ إن إحصائية الأمية في مطلع القرن العشرين بلغت 98% من السكان، ولكن مؤخرًا انتشر الوعي وبدأ رويدًا رويدًا تخرج أجيال تسعى للتحرر والانعتاق من التبعية العمياء للغرب.
عليه، وأمام كل هذا الواقع الجيوستراتيجي في المنطقة، يجب التسليم بعدة اعتبارات جوهرية، تكون حافزًا لمشروع الوحدة المرجوة، وذلك على النحو التالي:
ترسيخ النظام الشوري بالتوافق وممارسته بالمشاركة في صنع القرارات أمر لا مفر منه، وبالتالي يجب إيقاف القمع السياسي وفتح المجال أمام حرية التعبير
أولًا: التسليم التام بأن المنظومة الغربية لم تعد قادرة على توفير الحماية السياسة والأمنية للمنطقة، ووجودها هو خطر على الجميع، مما يتطلب طي الخلافات القائمة في المنطقة، وزيادة الربط بين مكونات المنطقة وصرف الاستثمارات في التبادل التجاري والتكنولوجي والصناعي والزراعي بين دول المنطقة.
ثانيًا: التسليم بأن تكوين هذه المنطقة هو تكوين عربي إسلامي وأن الإسلام كمنظومة سياسية اجتماعية اقتصادية عسكرية ثقافية، هو المنظومة الوحيدة القادرة على تأمين هذه المنطقة والانطلاق بها نحو مستقبل آمن، وأي محاولة لتغييب الإسلام، هو محاولة لتغيير طبيعة المنطقة، وهُويتها وهو أمر عبثي لن ينتج إلا الصراعات.
ثالثًا: إشاعة النظام الشوري بالتوافق وممارسته بالمشاركة في صنع القرارات أمر لا مفر منه، وبالتالي يجب إيقاف القمع السياسي وفتح المجال أمام حرية التعبير العامة، وتفعيل مجالس الشورى، وأن تكون منتخبة شعبيًا، فذاك أمر لا بدَّ منه للحفاظ على السلم المجتمعي، وحتى يكون الأمن الاجتماعي سندًا وسابقًا للأمن العسكري ومعززًا له.
رابعًا: أن يعي الجميع أن مظلة الإسلام هي المظلة الحاكمة وقوانينه وحدها هي المرجعية النهائية لاستنباط الأحكام والتشريعات، وعليه فلا معنى لكلمة (الإسلام السياسي)؛ لأن البلدان مصدرها التشريعي الوحيد هو الإسلام.
وذلك هو الأوفق للدولة والأعظم لمصالحها الحيوية، أما أن يُستخدم مصطلح الإسلام السياسي كفزاعة لتخويف الدول الإسلامية نفسها، فهذا هراء.
خامسًا: على دول العالم الإسلامي التخفيف من صرامة أو إزالة الحدود الاستعمارية، إن أمكن بالتدريج، وتشجيع حرية الحركة والتجارة والتنسيق الأمني والاقتصادي المشترك.
سادسًا: التسليم بأن المقاومات في المنطقة، هي حق مشروع للشعوب وهي ذراع للاتحاد ضد العدو الخارجي أو الانشقاقات والتمردات الداخلية على الأمة، وبالتالي يمكن دمجها في المنظومات العسكرية الداخلية كمكوِّن رئيس وجزء من نظام الدفاع (النموذج السويسري).
على الدول العربية والإسلامية أن تعلم جيدًا أن عدوها واحد، ومصيرها واحد، ومستقبلها إما أن يكون واحدًا لتنهض جميعًا أو سيتم الاستفراد بها واحدة بعد الأخرى
سابعًا: التأكيد على أن وحدة الدول الإسلامية تحمل العديد من الإيجابيات التي يمكن أن تسهم في تعزيز القوّة والتقدم في العالم الإسلامي. وتحقق العديد من المكاسب المرجوّة لشعوب تلك الدول، ومن خلال تكامل قوتها، يصبح العالم الإسلامي أكثر قدرة على التأثير في القرارات الدولية.
والتعاون بين الدول الإسلامية يمكن أن يؤدي إلى تحقيق تنمية اقتصادية أكبر من خلال تبادل التجارة والاستثمار في مختلف المجالات، ويساهم في دعم الأمن والاستقرار وتعزيز الأمن الجماعي، وحل النزاعات بين الدول الإسلامية، ما يساعد على استقرار المنطقة.
ثامنًا: التأكيد على خطأ الرؤية التي كانت سائدة لدى حُكّام المنطقة وقادتها تجاه الغرب وأميركا، فيجب الاعتراف بحتمية تغييرها، وتصفية النفوس مما علِق بها سابقًا، وإجراء مصالحات شاملة بين بعض الدول والدول الأخرى من جهة، وبين بعض المكونات الداخلية في بعض الدول من جهة ثانية، وتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري، وإبرام الاتفاقيات الإقليمية والثنائية، وإلا فالطوفان سيُغرق الجميع، وعندها لا عاصم من أمر الله، وحينها لن ينفع الندم، ولات ساعة مندم.
ختامًا: على الدول العربية والإسلامية أن تعلم جيدًا أن عدوها واحد، ومصيرها واحد، ومستقبلها إما أن يكون واحدًا لتنهض جميعًا أو سيتم الاستفراد بها واحدة بعد الأخرى، فالمطلوب منها الاعتصام جميعًا بدين الله وعدم التفرقة، وتجنب الفرقة والتباعد بين المسلمين.
هذا، ونسأل الله، عز وجل، لأمتنا الأمن والأمان والنصر والازدهار وأن يحقن دماءها ويؤلف بين قلوب أبنائها، وينصرها على من عاداها نصرًا عزيزًا مؤزرًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.