جريمة كبرى أن يُقتل الإنسان.. وإذا ما أُخفيت معالم الجريمة، وغُيبت الأدلة عليها، وتمكن القاتل من التنصل من فعلته، فذلك يعني أن الضحية قد لحقها قتل آخر!. ولأنه لا ينبغي أن يُقتل الإنسان مرتين، كان على "قيصر" أن يمضي إلى الهدف الذي وضعه نصب عينيه، في رحلة مخاطر، يتربص له الموت فيها عند كل منعطف.
والحقيقة أن تلك لم تكن غايته الوحيدة، بل كانت دونها غاية أخرى، هي به ألصق وإليه أقرب؛ فلقد أدرك أن الرضا بقتل الآخرين هو قتل منه للإنسانية التي أودعها الله في كيانه وروحه، وإنسانيته لا ينبغي أن تموت، لأنه بدونها عدم.
"قيصر".. اسم تناقلته وسائل الإعلام عام 2014 مقترناً بالإشارة إلى تقرير موثق بآلاف الصور لضحايا الإجرام الذي مارسته مليشيات الأسد في سوريا، وقد عمل على جمع تلك الصور وتهريبها شخص كان له وظيفته التي مكنته من ذلك في أجهزة النظام، وأُعطي لقب "قيصر"، لإخفاء اسمه الحقيقي حرصاً على سلامته وأمنه. وبعد سنوات من التكتم على اسم وهوية هذا الفدائي، وبعد أن تحررت سوريا من بطش الإجرام الأسدي، صار مناسباً أن يظهر "قيصر" على الملأ، فيعرف الناس حقيقته، ويؤدوا له تحية يستحقها.
ما كان يعايشه قيصر في ساعات دوامه النهاري كان أثره يمتد، إذ يجد نفسه وقد أقبل الليل يعود إلى جهاز الكومبيوتر ليتنقل بين الصفحات ويتأمل الصور، فيستشعر نبض حديثها!
بعد ترقب وانتظار خرج علينا على شاشة الجزيرة في برنامج "للقصة بقية"، وتابعنا بشغف الحوار الذي أدارته "فيروز زياني" ببراعة وحنكة.. استمعنا إلى قصة ربما لم نجد فيها جديدا، لكن فيها توثيقا وتأكيدا لفظاعة الإجرام الذي مورس بحق السوريين، في حديث شاهدٍ كان من قبل المُشاهد.
في البداية كشف قيصر عن هويته، وعرفنا أنه المساعد أول فريد المذهان، رئيس قلم الأدلة القضائية بالشرطة العسكرية في دمشق، وينحدر من مدينة درعا، ومن موقعه الوظيفي كان مطلوباً منه تصوير جثث شهداء الثورة السورية، الذين كانت تفتك بهم آلة القتل، ومن خلال أدائه لهذه المهمة رأى وعاين الفظائع المهولة.
حدثنا فريد المذهان عما عايشه من قمع الأجهزة الأمنية للمتظاهرين بالرصاص الحي، واعتقال الناس تعسفياً على الحواجز، وقتلهم، وتعذيبهم لأشهر وسنوات، وأنه كان عندما يحضر إلى موقع تصوير الجثث يشعر بأنه داخل مسلخ بشري، ويدرك وجود آلة قتل يديرها أشخاص لا ينتمون إلى البشرية.. تريعه على الجثث علامات الخنق، وكسر الأسنان، وفقء العيون، وكسر الأطراف.. ومع آثار التجويع الممنهج تبدو أمامه الجثث كأنها هياكل عظمية. ويتكرر التصوير بشكل يومي، فينتاب المذهان شعور بالخوف والقلق من المصير الذي ينتظر السوريين.
ما كان يعايشه قيصر في ساعات دوامه النهاري كان أثره يمتد، إذ يجد نفسه وقد أقبل الليل يعود إلى جهاز الكومبيوتر ليتنقل بين الصفحات ويتأمل الصور، فيستشعر نبض حديثها!. يقول: "عندما كنت أشاهد الصور، أشعر أنها تحدثني، كنت أشعر بالقهر والذل الذي عانوه وتحملوه لسنوات داخل الزنازين والمعتقلات السورية، كان هناك كثيرون من الضحايا يعلمون أنهم سيموتون رافعين أصابعهم بالشهادة، وأفواههم مفتوحة من الألم، كانت أعينهم تحدق بي، وتقول لي: لقد تعذبنا كثيراً، ومتنا ولم يسمعنا أحد، ولم ينقذنا أحد".
على مدى قرابة ثلاث سنوات، استمرت عملية تهريب الصور، حيث كان المذهان ينقلها يومياً من مقر عمله في دمشق إلى سكنه في مدينة التل، وكان يخبئ وسائط نقل الصور في ملابسه، أو داخل ربطة الخبز…
في ظل هذا الواقع الذي عايشه قيصر أدرك أن عليه أن يفعل شيئاً ما، استشعر نداء الإنسان للإنسان، ذاك النداء الذي يسكن كيانه ويأبى أن يُسحق أو يموت، ومعه حدد الهدف ورسم الطريق.
والحقيقة أنه منذ البدايات كان قد اتخذ القرار!. لا ينبغي أن يبقى عنصراً مساعداً في منظومة الإجرام هذه، ولا بد من الانشقاق والانسلاخ عنها، ولكن التنفيذ سيتأخر بعض الشيء؛ فهو في موقع يتيح له جمع قدر كاف من الصور التي ينبغي تقديمها للعالم، لتكون أدلة إدانة دامغة على إيغال القتلة في الجرائم والمجازر، وهذه مهمة ينبغي العمل عليها.
على مدى قرابة ثلاث سنوات، استمرت عملية تهريب الصور، حيث كان المذهان ينقلها يومياً من مقر عمله في دمشق إلى سكنه في مدينة التل، وكان يخبئ وسائط نقل الصور في ملابسه، أو داخل ربطة الخبز، أو حتى على جسده، خوفاً من التفتيش على الحواجز الأمنية، سواء في مناطق سيطرة النظام أو في مناطق الجيش الحر.. كانت عملية محفوفـة بالمخاطر، ولا غرابة أن سماها "رحلة الموت"، لكن نُبل المهمة التي تولاها كان يستحق أن يخوض فيه المخاطر، وأن يجابه الموت.
اجتمع له قد كافٍ من الصور، وفي الوقت نفسه ازدادت عليه الضغوط والتهديدات، وصار مناسباً أن يجد وسيلة لمغادرة البلاد ومتابعة مهمة إيصال الحقيقة إلى العالم، وهذا ما كان.. فرّ إلى الأردن، ومنها انتقل إلى دولة قطر، حيث قام مكتب محاماة هناك بتجهيز ملفه لمحاسبة النظام السوري، وتتابعت إجراءات على أكثر من صعيد، قانوني وسياسي وإعلامي، دقت ناقوس الخطر، وفضحت شناعة المحرقة التي يعيشها السوريون.
لا تنسوا المذابح والإبادات والمجازر الجماعية؛
فإن المجزرة التي تُنسى تتكرر
- علي عزت بيغوفيتش
لقد سعى المذهان من خلال ذلك إلى أداء الأمانة التي استشعرها وهو يتأمل صور شهداء المعتقلات مع ما تحمله من فظائع؛ ولقد سمعناه يقول: "لقد حملتني أرواحهم الطاهرة أمانة في عنقي، أن أوصل آهاتهم ومعاناتهم إلى العالم الحر، ولأكون شاهداً أمام الله وأمام الإنسانية على مصيرهم المؤلم، وأتمنى وأرجو من الله أن أكون قد أديت هذه الأمانة".
ومن أجل أداء تلك الأمانة تحمل المشاق والمتاعب، وتحمل معاناة الاغتراب والعيش بعيداً عن وطنه، في ظروف غير طبيعية، ملاحَقاً بمشاعر القلق والخوف من بطش نظام "الأسد"، ويرافقه الخوف على الأهل في سوريا أيضاً. وكذلك، من أجل أن يسمع الناس شهادته المهمة على حقبة البطش، ومنه مباشرة عبر شاشة "الجزيرة"، فإنه قبل الجلوس قبالة الكاميرا التي يكرهها!. يكرهها لأنها تذكره بمعاناة ومآسي الضحايا الذين عُذّبوا وقُتلوا، وتم تصويرهم بهذه الكاميرا، فصارت بالنسبة له ذكرى غير سعيدة.
لم يستطع فريد المذهان إيقاف المجزرة.. هذا صحيح!. ولكنه بعمله النبيل ساهم بإبقائها حية في الذاكرة، وليس غريباً أن يكون لهذا أهمية كبرى؛ وقد قال علي عزت بيغوفيتش: "لا تنسوا المذابح والإبادات والمجازر الجماعية؛ فإن المجزرة التي تُنسى تتكرر".
هذا هو "قيصر"، هذا هو فريد المذهان، وحسبه فخراً أن يضم سجل حياته حُسن أدائه للمهمة الخطيرة التي تولاها، وهو بذلك يوصل إلى كل واحد منا رسالة، مفادها أن الأيام ربما تضعك في موقف، أداؤك فيه قد يختزل حياتك كلها.. فإذا وصلت إليه فأحسِن القرار، وأحسِن الفعل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.