شعار قسم مدونات

جذور الترجمة الفلسفية من اليونانية إلى العربية من أثينا إلى بغداد

مكتبة اللجنة الملكية لشؤون القدس تضم 250 وثيقة نادرة عن القدس
الكاتب: يظهر اهتمام الدولة الأموية بالترجمة من خلال ما نُسب إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز أنه أمر بترجمة كتاب طبي من السريانية (الجزيرة)

مثلّت حركة الترجمة من اليونانية والسريانية إلى العربية أحد أعمدة النهضة العلمية في الحضارة الإسلامية، غير أن هذه الحركة لم تكن وليدة العصر العباسي، كما هو شائع، بل سبقتها مراحل تأسيسية وإرهاصات مهمة امتدت منذ أواخر العهد الروماني الشرقي، مرورًا بالمدارس السريانية، وحتى بدايات الدولة الأموية، وقد شكّل هذا التمهيد التاريخي الخلفية الأساسية التي انطلقت منها الترجمة العباسية المنهجية في "بيت الحكمة".

لذا، فإن الوقوف على هذه المراحل الأولى يُعد مفتاحًا لفهم الطريقة التي استوعب بها المسلمون التراث الفلسفي والعلمي لليونان.

تبدأ القصة عام (529)، عندما أمر جستنيان، إمبراطور الإمبراطورية الرومية الشرقية، بإغلاق الجامعات وتعطيل المدارس في أثينا في سياق محاربته للفكر الوثني غير المسيحي، وقد مثّل هذا القرار لحظة فارقة في مسار الفكر اليوناني، إذ اضطر عدد من كبار الفلاسفة- وفي مقدمتهم سمبليكوس والدمشقي- إلى مغادرة أثنيا إلى فارس، حيث رحب بهم الملك كسرى أنوشِروان الذي وجدوا فيه مُعجبًا بالثقافة اليونانية، وتذكر المصادر أنه كان من شروط الصلح بينه وبين الإمبراطور جُستنيان أن يُعنى بهم.

ظلت المدارس السريانية مفتوحة في عهد الدولة الأموية كما كانت، ولكن ضعفت آدابها بسبب اللغة العربية، ولم يكن الخلفاء والأمراء يتدخلون في شؤونها إلا عندما يحتدم النزاع الديني فيما بينهم

وقد استفاد الملك كسرى من الروح الفلسفية لدى هؤلاء الفلاسفة، وقام بإنشاء مدرسة جُندَيسَابُور، وهي معنية في المقام الأول بالتعليم الطبي ذي الروح الفلسفية، ولكن جهودهم انصبت في النقل والترجمة من اليونانية إلى السريانية، حيث أصبحت جُندَيسَابُور لاحقًا مركزًا علميًا بارزًا يجمع بين الطب والفلسفة بروح يونانية مطعّمة بتأثيرات سريانية وفارسية.

إعلان

وكان من هؤلاء من تنصروا، فأخرجوا كتبًا في الأفلاطونية الحديثة مصبوغة بالنصرانية، ككتاب ديونيسوس، ألفه أفلاطوني مجهول في منتصف القرن السادس للمسيح، ادّعى أنه من تلاميذ بولوس الحواريّ، وقد شرح أسرار الربوبية ودرجات عالم الملكوت والكنيسة السماوية على المذهب الأفلاطوني، فأصبح من ذلك الوقت عمدة للنصارى، فقام السريانيون بنقل الفلسفة اليونانية إلى لغتهم السريانية.

وكان صاحب الدور الأساسي في انتقال منطق أرسطو إلى العالم السرياني هو سرجيوس الرأس عيني (ت536)، وكان طبيبًا وفيلسوفًا تلقَّى تعليمه في الإسكندرية، شرح العديد من أعمال جالينوس وديونيسوس الأريوباغي، وكتاب إيفاغريوس النبطي. فانتشرت السريانية فيما بين النهرين والبلاد المجاورة لها، وصارت هي لغة الأدب والعلم لجميع كتَّاب النصرانية في أنطاكية وما حولها، وللنصارى الخاضعين لدولة الفرس، وأُنشئت في هذه الأصقاع مدارس دينية متعددة كانت تعلّم اللغة السريانية واللغة اليونانية.

وظلت هذه المدارس السريانية مفتوحة في عهد الدولة الأموية كما كانت، ولكن ضعفت آدابها بسبب اللغة العربية، ولم يكن الخلفاء والأمراء يتدخلون في شؤونها إلا عندما يحتدم النزاع الديني فيما بينهم. ولعل مما يلفت النظر الاتصالات العربية بتلك المدارس قبل العصر الإسلامي، وبالأخص مدرسة جنديسابور.

ومن أبرز الأمثلة على تلك الاتصالات رحلة الحارث بن كلدة الثقفي إلى جنديسابور قبل الإسلام وتعلمه في مدرستها، وممارسته الطب بفارس، حيث عالج كثيرًا من أهلها حتى شهدوا بعلمه ومهارته.

وعلى خطى والده سار النضرُ بن الحارث بن كلدة الثقفي، وهو ما أشار إليه ابن أبي أصيبعة بقوله: "وكان النضر قد سافر البلاد أيضًا كأبيه، واجتمع مع الأفاضل والعلماء بمكة وغيرها، وعاشر الأحبار والكهنة، واشتغل وحصل من العلوم القديمة أشياء جليلة القدر، واطّلع على علوم الفلسفة وأجزاء الحكمة، وتعلم من أبيه أيضًا ما كان يعلمه من الطب وغيره".

إعلان

ثم يذكر ابن أبي أصيبعة طبيبًا آخر، هو عبدالله بن أبجر الكناني، الذي "كان في أول أمره مقيمًا في الإسكندرية لأنه كان المتولَّى في التدريس بها من بعد الإسكندرانيين، وذلك عندما كانت البلاد في ذلك الوقت لملوك النصارى، ثم لما استولى المسلمون على البلاد، وملكوا الإسكندرية أسلم ابن أبجر".

ولعل هذا هو أول اتصال بين الفلسفة اليونانية والعرب، وقد أثبتت الأبحاث الحديثة بصورة قاطعة أن مراكز البحث الفلسفي كانت منتشرة في العالم القديم الذي فتحه المسلمون، وأن هذه المراكز لم يتوقف عملها بعد الفتح الإسلامي، بل استمر الاتصال بها في ظل الدولة الإسلامية.

ويشير ابن النديم إلى أن "خالد بن يزيد بن معاوية يسمى حكيم آل مروان، وكان فاضلًا في نفسه وله همة ومحبة للعلوم، خطر بباله الصنعة فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر، وقد تفصح بالعربية، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي، وهذا أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة".

كما يظهر اهتمام الدولة الأموية بالترجمة من خلال ما نُسب إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز (ت:101هـ)، أنه أمر بترجمة كتاب طبي من السريانية استجابة لحاجة علمية طبية. وفي هذا العصر أيضًا برز اسم يعقوب الرُّهاوي (ت:708هـ)، فقد ترجم كثيرًا من كتاب الإلهيات اليونانية، وقد روي عنه أنه أفتى رجال الدين من النصارى بأنه يحل لهم أن يعلموا أولاد المسلمين التعليم الراقي.

بلغت حركة الترجمة أوجها في عهد المأمون، الذي أسس "بيت الحكمة" ببغداد، وجمع فيه نخبة المترجمين من مختلف الأديان واللغات، وفي هذا الدور تُرجمت أهم مؤلفات اليونانية في كل الاتجاهات، وأُعيدت ترجمة "المجسطي" لبطليموس في الفلك

هذا يدل على أن الإرهاصات الأولى للترجمة بدأت في العصر الأموي، ومن هذا المنطلق يتبين خطأ قول بعض المؤرخين إن المسلمين لم يتعرفوا إلى الفلسفة اليونانية إلا حين بدأت الترجمة في عهد المنصور العباسي، والصواب أن يُقال إن هذا العصر بدأت فيه حركة واسعة، وتطورت إلى عملية هضم واستيعاب للتعليم العلمي والفلسفي اليوناني، لتزدهر حركة الترجمة بعد ذلك في العهد العباسي، حيث مرت الترجمة بثلاثة أدوار كالآتي:

إعلان

من خلافة المنصور إلى وفاة هارون الرشيد (136ه- 754م إلى 198ه- 813م)

وفي هذا الدور تمت ترجمة أهم مؤلفات أرسطو وشروح الإسكندرانيين عليها، وبعض مؤلفات أفلاطون، وأهم كتب جالينوس في الطب. ومن أشهر المترجمين في هذا الدور:

عبدالله بن المقفع (ت:142هـ، 760م): وهو فارسي النسب، ويعتبر أول من اعتنى في العالم الإسلامي بترجمة الكتب المنطقية الثلاثة لأرسطو، وهي: كتاب "قاطيغوراس"، وكتاب "باري أرميناس"، وكتاب "أنالوطيقا"، ترجمها لأبي جعفر المنصور، كما ترجم "إيساغوغوجي"، و"كليلة ودمنة" من الفارسية.

يوحنا البطريق (ت: 233هـ، 856م): مولى المأمون، كان أمينًا على ترجمة الكتب الحكمية، حيث اعتنى بترجمة لكتاب أبقراط وجالينوس في الطب.

يوحنا بن ماسوية (ت:243هـ، 856م): وهو نصراني سرياني من أطباء مدرسة جنديسابور، هاجر إلى بغداد في أول القرن الثالث الهجري، وجعله الخليفة المأمون في سنة 215هـ-830م رئيسًا لبيت الحكمة، وكان قد كلفه الرشيد بترجمة الكتب الطبية القديمة.

من ولاية المأمون حتى موت حبيش بن الأعسم (198-300ه)، (813-915م)

بلغت حركة الترجمة أوجها في عهد المأمون، الذي أسس "بيت الحكمة" ببغداد، وجمع فيه نخبة المترجمين من مختلف الأديان واللغات، وفي هذا الدور تُرجمت أهم مؤلفات اليونانية في كل الاتجاهات، وأُعيدت ترجمة "المجسطي" لبطليموس في الفلك، و"الحكم الذهبية" لفيثاغورس، وعدة مصنفات في الطب، منها تصانيف لأبقراط وجالينوس، و"محاورات طيماوس" والسياسة المدنية، و"المقولات" لأرسطو، وكان من أشهر المترجمين في هذا الدور:

حنين بن إسحاق (ت:264هـ-877م): شيخ المترجمين، من نصارى الحيرة، وتعلم اللغات اليونانية والفارسية، بالإضافة إلى إتقانه العربية والسريانية، وترجم عشرات الكتب الطبية والفلسفية، وكان يراجع النصوص، ويقابل بينها ويشرح غوامضها، حيث تولى رئاسة "بيت الحكمة".

ثابت بن قرة (ت:288هـ، 901م): لقب بمهندس العرب، ولد بمدينة الحران ثم انتقل إلى بغداد والتحق بمدرسة أبناء موسى بن شاكر، حيث كان يقوم بترجمة مؤلفات العلماء الأوائل، وكان يجيد اللغتين السريانية والعبرية، اشتهر بعلوم الطب، وعلوم الرياضيات، والفلك، والهندسة، امتهن الطب، وبلغ مكانة مرموقة في خلافة المعتضد.

إعلان

إسحاق بن حنين (ت:298هـ، 911م): جارى أباه في الترجمة من اللغتين اليونانية والسريانية. سنان بن ثابت قرة (ت:321ه، 943م): كان يقتفي أثر أبيه في معرفته بالعلوم واشتغاله بها، إلى جانب نبوغه في الطب. اهتم بدراسة الهندسة، وكان في خدمة المقتدر بالله والقاهر.

لهؤلاء المترجمين الفضل الأكبر في حركة الترجمة من العلوم اليونانية والسريانية والفارسية إلى العربية، حيث مثلت حركة الترجمة لحظة حاسمة في تاريخ الفكر الإنساني، ولكنها واجهت بعض التحديات، كنقل بعض النصوص الفلسفية بشكل خاطئ أو مختلط

من سنة (300ه، 915م) إلى سنة (350ه، 965م)

وفي هذا الدور بدأت تظهر مدرسة من المترجمين والفلاسفة الذين لم يكتفوا بالترجمة، بل انخرطوا في النقد والتحليل، وظهرت شخصيات مزجت بين الترجمة والتعليم والتأليف، ما يدل على انتقال المسلمين من مرحلة الاستقبال إلى مرحلة الفهم والاستيعاب. ومن أشهر المترجمين في هذا الدور:

  • متى بن يونس (ت:328ه-939م): وهو أبو بشر متى بن يونان (يونس) وهو عالم نصراني، وانتهت إليه رئاسة المنطقيين في عصره، ويُعد من أبرز شراح منطق أرسطو، وتأثر به فلاسفة كبار مثل الفارابي.
  • يحيى بن عدي (ت:364هـ-974م): وإليه انتهت رئاسة المنطق في زمانه، ومعرفة العلوم الحكمية في وقته، قرأ على أبي بشر متى، وأبي نصر الفارابي، ولديه تراجم عديدة من السريانية إلى العربية، كـ"المقولات"، و"الطوبيقا"، و"النواميس"، و"طيماوس" لأفلاطون، و"الآثار العلوية" لثاوفرسطس، وابتكر كتابًا في وقته هو "صلة المنطق بالنحو" وهو نوع من المناظرات التي كانت تجري في المجالس الأدبية في بغداد.
  • أبو سليمان السجستاني (ت:391هـ -1001م): كان فاضلًا في العلوم الحكمية، متقنًا لها مطلعًا على دقائقها، واجتمع بيحيى بن عدي في بغداد وأخذ عنه، وكان صديقًا وملازمًا لأبي حيان التوحيدي، ولأجل ذلك ألّف أبو حيان التوحيدي كتابًا له "الإمتاع والمؤانسة".

نقلت المذاهب اليونانية المتعارضة لدى التراث الوسيط بين العرب واليونان.. وكانوا يجيدون اليونانية، ونقلوا الكثير من التراث اليوناني إلى السوريانية قبل العربية؛ فقد نسبوا إلى أرسطو كتبًا ليست له

من خلال ما سبق يتضح أن لهؤلاء المترجمين الفضل الأكبر في حركة الترجمة من العلوم اليونانية والسريانية والفارسية إلى العربية، حيث مثلت حركة الترجمة لحظة حاسمة في تاريخ الفكر الإنساني، ولكنها واجهت بعض التحديات، كنقل بعض النصوص الفلسفية بشكل خاطئ أو مختلط، ما أدى إلى تشويش بعض المفاهيم الفلسفية، وذكر أسماء غير صحيحة، حيث نُسبت بعض الكتب إلى أرسطو وهي ليست له، مثل كتاب "أثولوجيا" أو "شروح تاسوعات أفلوطين"، ونتيجة لهذا نشأت صورة مشوشة لأرسطو، لم تتبيّن حقيقتها إلا مع ابن رشد، الذي ميز بدقة بين المشائين والأفلاطونيين المحدثين.

إعلان

وفي سياق ذلك يقول علي النشار: "لقد انتقلت الفلسفة اليونانية إلى العالم الإسلامي، ولا شك أنه قد حدث في خلال هذا النقل بعض الأخطاء العلمية والفنية، وحرفت بعض المذاهب، واختلطت مذاهب بأخرى، ونسبت مذاهب لغير أصحابها، ولكن لم يكن المسلمون هم المسؤولين عن كل هذا، فقد نقلت المذاهب اليونانية المتعارضة لدى التراث الوسيط بين العرب واليونان.. وكانوا يجيدون اليونانية، ونقلوا الكثير من التراث اليوناني إلى السوريانية قبل العربية؛ فقد نسبوا إلى أرسطو كتبًا ليست له، بل لأفلوطين، فأجزاء من تاسوعات أفلوطين باسم أوثولوجيا نُسبت إلى أرسطو. ولم يتبين الفلاسفة الإسلاميون المشاؤون حقيقة الاختلاف بين الآراء المشائية والآراء الأفلاطونية المحدثة.. ولم يخلص أرسطو من هذا إلا متأخرًا لدى أكبر شراحه في العصر الوسيط وهو ابن رشد".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان