يظن كثيرون منّا أن هناك دائمًا فرصة ثانية، بل ثالثة ورابعة وأكثر، نعتقد واهمين أنّ في الغد المزيد من الاختبارات والمفاجآت والمكافآت.. وبالطبع، الأمل جميل ومُهم، فما أضيق الحياة لولاه!. و"من تفاءل بالخير وجده"، كما جاء في الأثر، فمن ذا الذي لا يريد الخير لنفسه؟! لكننا -ومن حيث لا ندري- نقع في فخ "طول الأمل"، وننسى أننا نعيش مرة واحدة فقط في هذه الدنيا الفانية!
نعم، قد يكون ما تعيشه اليوم هو واقعك الأخير، وليس بروفا واستعدادًا لشيء سيقع في المستقبل.. ووفق هذه النظرة، تتغير أمور كثيرة، وستكون وجهًا لوجه أمام حقيقة قد تكون مُرّة ومؤلمة، ألا وهي أنك إنسان محدود في كل شيء، ومنه وقتك الذي ينفد كالماء بين يديك، وهو الذي يجب أن يكون سيفًا قاطعًا لك أو عليك، وثروةً لا تعوّض ولا تقدّر بثمن.
لو عرفنا حقيقة محدوديتنا، كيف سيكون أداؤنا وإتقاننا للعمل أو للوظيفة التي نتقاضى الأجر عليها، لنكون فعلًا مُستحقين لهذا المال؟
للمرّة الأخيرة
جرّب وليوم واحد فقط أن تفكّر باللحظة الراهنة وكأنها آخر لحظة لك، ردّد فكرة "للمرّة الأخيرة" مع كل حركة وسكنة تقوم بها، كم ستكون نسبة الجودة والقيمة والإحساس بها يا ترى؟!
"صلّ صلاة مودّع"… هي إحدى وصايا رسول الله -صلوات الله عليه- لنا. وبالفعل، لو أننا اعتبرنا كل صلاة وفريضة ودعاء هو آخر تواصل لنا مع رب العزّة في هذه الدنيا، فكم ستتغير درجة الإخلاص والتوجه والانقطاع له؟ وحتى لو عشنا مئة سنة أخرى، ألا يستحق ربنا المُنعم المُتفضل أن تكون عبادتنا له بهذا الشكل وبهذه الكيفية؟!
لو عرفنا حقيقة محدوديتنا، كيف سيكون أداؤنا وإتقاننا للعمل أو للوظيفة التي نتقاضى الأجر عليها، لنكون فعلًا مُستحقين لهذا المال؟
في المجال العملي بالذات، نحن في الحقيقة ضحايا لفكر اقتصادي يمنعنا -ولمصالح مادية بحتة- من هذا النمط من التفكير، فهو فكر رأسمالي يشجع على التخطيط المتطرّف للغد، والترويج لصورة أقرب ما تكون للمثالية، تنص على أنّ العمل الكثير والشاق هو انعكاس للنجاح والتفوق، والواقع هو أن العمل بذكاء -وليس بكثرة- هو المقياس وهو المطلوب.
أما في الناحية الاجتماعية، فتحقيق هذه التصورات قد يكون أسهل.. هَب أنك لن ترى أمك أو أباك، أخاك وشريكك وطفلك وصاحبك، إلا في هذا اليوم، أو في هذه الساعة أو الدقيقة، كيف سيكون تعاملك معه، أدبك، حبّك، سلوكك، سعادتك ومتعتك، والأثر الذي سيكون في آخر مشهد لك معهم؟
الاستعداد لهذه المواقف لا يكون إلا بمواجهة محدوديتنا، وتقبّل فكرة أن اللحظة الراهنة هي كل ما نملك، سنترك حينها الكثير من الأفعال وردات الأفعال، وننسحب من الكثير من المعارك التي لا أهمية لها
تتوافد الأمثلة والتساؤلات في هذا السياق، والنتيجة واحدة، وهي أن الموت سيأتي في يوم ما، ويضع حدًا لكل ما سيكون بين أيدينا، لن ينتظرك ولن يسألك إن كان الوقت مناسبًا لك، ولن يأخذ إذنك في المجيء لاحقًا إن لم ترغب بالمغادرة في هذا التوقيت.
ستكون هناك مرة أخيرة، تغلق فيها منبّه الساعة، والمناجاة مع الله في السحر، جلساتنا وأحاديثنا مع من نُحب، واجباتنا الوظيفية، وإنتاجاتنا وإنجازاتنا، وقتنا المُهدر على وسائل التواصل الاجتماعي!
كم ستقل لذة الخطيئة إن عرفنا أنها آخر زادنا هنا، وسيبهت لون الخلافات التي لا طائل منها إن اكتشفنا أنها آخر مشهد، ولن يكون هناك غد لحلّها وتصفية النفوس المتنازعة، وفي المقابل سترتفع كثيرًا قيمة الخير والإحسان إلى الآخرين ومسامحتهم وتقديم العون لهم.
الاستعداد لهذه المواقف لا يكون إلا بمواجهة محدوديتنا، وتقبّل فكرة أن اللحظة الراهنة هي كل ما نملك، سنترك حينها الكثير من الأفعال وردات الأفعال، وننسحب من الكثير من المعارك التي لا أهمية لها، سنعيد ترتيب أولوياتنا، سنكف عن تأجيل الضروريات، سنقلل ونقنن من ساعات العمل، وسنركز على الأهم ثم المهم، إن سُنحت لنا الفرصة لذلك!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.