في التأريخ الإنساني قبل آلاف السنين نقرأ حكاية تقول: "إن ملِكين خرجا للحرب متخاصمين.. وقبل وقوع المعركة أمر أحد الملكين بإحضار سلاحه وخوذته، فأخبره الجنود أن حمامةً بيضاء بنت عشها داخل خوذته والخوذة فوق سلاحه، فأبى أن يؤذيها ويزعجها مع فراخها ويخرّب بيتها، فتركها وانطلق إلى ميدان المعركة دون عتاد حرب.
عندما رأى الملك الآخر خصمه بلا سلاح، دفعه الفضول إلى معرفة السبب، فدعاه إلى التفاوض والمناقشة، وحين علم أنه خاطر بنفسه وتخلى عن خوذته وسلاحه رحمةً بحمامة، عدَل عن الحرب وأبرم اتفاقية سلام معه!. ومنذ ذلك الحين ظلت الحمامة البيضاء رمز السلام والحب".
بصرف النظر عن مدى صدق المروية، فإنها تبقى مجازًا لما تمثله رمزية الحمامة في الذهنية البشرية؛ لكنها في كل الأحوال تشهر علامة استفهام: ماذا ستفعل لو فتحتَ باب منزلك صباحًا، ورأيتَ حمامةً وديعة قد حطت أمام بابك على بعد حوالي عشرين سنتيمترًا عن العتبة؟
لنفترض أن الموقف حدث قبل مئات السنين، لعل أول خطوة ستفعلها -هذا إذا لم تأتِ الحمامة برسالة إليك حسب سياقها الزمني ووظيفتها- هي أنك ربما ستقدم لها الماء، وهناك احتمال ثانٍ؛ أنك ستتفقدها إذا ما كانت تعاني جرحًا ما.. أما في أسوأ الأحوال، فستحيلها حساء تكسر به رتابة مائدتك.
افتراض آخر.. إن وجدتها صباح الغد مع ذهابك للعمل، ربما أول ما ستفعله هو أن تلتقط لها صورة، ثم تشاركها الأصدقاء في برامج التواصل، مذيّلًا الصورة بعبارة "حمامة وديعة أمام بابي.. يوم جميل".
شد رحاله إلى باريس، حيث وجد عالمًا جديدًا، عبارة عن غرفة صغيرة مساحتها ثلاثة أمتار، ووظيفة قريبة من سكنه (حارس بنك)، ملتزمًا بروتين صارم لعقود طويلة، يكرر أيامه كأنها نسخ متطابقة، بعيدًا عن المفاجآت أو الاختلالات التي قد تهدد توازنه النفسي
أما في الرواية القصيرة "الحمامة" للكاتب الألماني "باتريك زوسيكند"، كاتب رواية "العطر" الشهيرة، فالأمر مختلف تمامًا، وليس بهذه البساطة؛ فبطلها يدعى جوناثان نويل، رجل في الخمسين من عمره، نالت منه الحياة بطرق عدة، كان صغيرًا عندما اختفى أبواه قسرًا، ولم يبقَ له سوى أخته لتختفي هي الأخرى، وتتبع والديها في غياب مجهول.
تتالت خسائر جوناثان، فجاءت القاصمة حين تزوج ليعوض فقده، غير أن زواجه لم يدم طويلًا، إذ فوجئ بهرب زوجته مع عشيق سابق لها؛ ليتلقى صفعة أخرى أقوى وأعنف، لا سيما أنها تتجاوز شعوره الخاص فاتحة شهية الناس للتقول عليه.
وُضع نويل أمام مفترق طرق؛ إما أن يواجه ويحمل مآل حياته بكل ما فيها من عذابات ليس أولها أحاديث الناس وخوضهم في شخصه، أو العزلة والنأي بالنفس، وهو ما توصل إليه معززًا قراره "أن الناس لا يمكن الوثوق بهم أو الاعتماد عليهم، وأن المرء لن يجد الطمأنينة والسلام في حياته إلا إذا نجح في الابتعاد عنهم".
وعليه، شد رحاله إلى باريس، حيث وجد عالمًا جديدًا، عبارة عن غرفة صغيرة مساحتها ثلاثة أمتار، ووظيفة قريبة من سكنه (حارس بنك)، ملتزمًا بروتين صارم لعقود طويلة، يكرر أيامه كأنها نسخ متطابقة، بعيدًا عن المفاجآت أو الاختلالات التي قد تهدد توازنه النفسي.
لا يضعنا باتريك -بجعل بطل روايته يعمل حارسًا في بنك- أمام العزلة والروتين الممل وحسب، بل يضعنا أمام تجريد كامل للإنسانية.
تعد الرواية دعوة للتفكير في مدى هشاشتنا، ومدى قوة تأثير اللامتوقع على استقرارنا النفسي
نقرأ هذا على لسان جوناثان بطل الرواية، وهو يشبه الحراسة بحال تمثال أبي الهول الذي لا يقوم بشيء ما، غير حضوره الجسدي، المتمثل في مواجهة من سيسطو على البنك، وأبعد من ذلك تجريده حتى من الشعور الإنساني تجاه نفسه (لا يجوز للحارس أن يحّك جسده أمام العيان).. وهكذا، سينكفئ جوناثان في عالمه 30 عامًا، عاشها على رتم واحد.
"احتفظت غرفة جوناثان حتى بعد مضي ثلاثين عامًا على إقامته فيها بخصائصها ومميزاتها في نفسه، كونُها في الماضي، وبقاؤُها في المستقبل، جزيرته الآمنة في هذا العالم المضطرب، حصنه المنيع، وملجؤُه وعشيقته، نعم عشيقته! فقد كانت تعانقه دائمًا بحنان في كل مرة يعود إليها ليلًا، تدفئه وتحميه وتغذي روحه وجسده، كانت دائمًا هنا حين يحتاجها، ولم تهجره أبدًا، لقد كانت الشيء الوحيد في حياته، الذي أثبت أنه يمكن الوثوق به، لذا فإن جوناثان لم يفكر مطلقًا بهجرها أو الانفصال عنها".
لكن صباحًا عاديًا ينقلب إلى كابوس حين يفتح جوناثان بابه ليجد حمامةً جاثمة على بعد خطوات من عتبة غرفته!. مشهدٌ بسيط كهذا قد يمرّ دون اكتراث عند أي شخص آخر، لكنه بالنسبة لنويل أشبه بزلازل يضرب استقراره النفسي. يتملّكه خوفٌ غريب، غير مبرر، لكنه عميقٌ ومُربك.. كيف دخلت هذه الحمامة إلى عالمه المحكم؟ هل جاءت لتذكّره بالمجهول الذي هرب منه طويلًا؟
تبدأ حالته بالتدهور، لا يقدر على دخول غرفته مجددًا، وكأن الطائر الصغير قد صادر عالمه بالكامل. في تصرف هستيري، يهرب من المكان، ويتجنب العودة إلى الغرفة، كأن الحمامة تمثل قوة خفية تُهدد بفضح هشاشته الداخلية.
"لقد انتهى أمرك.. ما أنت إلا كهل ميؤوس منه، إنك تسمح لحمامة أن ترعبك حتى الموت! حمامة تقذف بك إلى غرفتك، تطرحك أرضًا وتجعل منك سجينًا! سوف تموت يا جوناثان، سوف تموت! إن لم يكن الآن فقريبًا.. كانت حياتك كلها خطأ، لقد أفسدت حياتك كلها، حياتك هذه التي تزلزلها حمامة".
رواية "الحمامة" ليست قصة عن رجل يخاف من طائر مسالم، بل هي رحلة عميقة داخل العقل البشري، حين تتحول تفاصيل الحياة اليومية إلى كوابيس، وحين تصبح المخاوف الصغيرة تجسيدًا لكل ما نخشاه في الحياة، هي دعوة للتفكير في مدى هشاشتنا، ومدى قوة تأثير اللامتوقع على استقرارنا النفسي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.