إنما المرء ابن ظروفه ومحيطه، فما ينفك يتأثر دون أن يؤثر ما لم يكن في كيانه أساس بنَّاء، وقلب معطاء، وعقل ثابت راجح، وعزيمة لا يثنيها كسل أو عجز، وليس من سبيل لذلك إلا بالاتصاف بمبادئ ثابتة وقيم روحية عميقة، وليس لذلك من سبيل إلا بوجود دين حق، وهذا الدين هو الإسلام، أي كلمة الله الحق في الكون.. قال تعالى: ﴿إن الدّين عند الله الإسلام وما اختلف الّذين أوتوا الكتاب إلّا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب﴾.
صار الإلحاد والنبرة الشكوكية أكثر وضوحًا، خصوصًا عند ما يسمى بأجيال ما بعد الحداثة، أو جيل زد وألفا، من الذين كبروا وحولهم وسائل الإعلام تردد ليل نهار مصطلحات: المساواة بين الجنسين، العمل والجنس للجميع
ولما صار الإنسان أكثر مادية في هذا العصر، وهذا مفهوم نتيجة تبدل الأحوال والأوضاع، وتلك من سنن الله الثابتة التي لا تتبدل.. أقول: لما صار الإنسان أكثر مادية، كان لزامًا أن يتجه في المقابل لقيم أكثر نبلًا وعمقًا وبقاء، وهذا بالتأكيد يأتي من خلال المعرفة الدقيقة بأحوال الإسلام وخصائصه وأدلته، وعظمة تشريعه الحكيم الذي بنيت على أساسه تلك الحضارة العالمية الخيّرة النيرة في أهدافها ومآلاتها.
فإذا تعلم المرء ولو القليل من أساس هذا الدين القويم من كتاب الله الحق المبين، وكلام نبيه الأمين، وفهم الصحابة المنتجبين، واجتهاد العلماء الصالحين، عرف حق المعرفة أن الحق ههنا غير بعيد، بل هو الحق المطلق الذي لا يتزحزح.
فهذا الدين يعلمك معنى أن تثبت رغم الصعوبات، وأن تقف مرارًا بوجه المتاعب دون أن تيأس؛ فقد جاء اليأس والقنوط مذمومًا في الكتاب الكريم وسنة نبيه وفهم السلف الصالح.. ﴿قالوا بشّرناك بالحقّ فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربّه إلّا الضّالّون﴾.
ويعلمك الدين أن تتيقن من أن المصائر بيد الله ﴿ما أصاب من مصيبةٍ إلّا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيءٍ عليم﴾؛ إذ لا يمكن لظرف أو شخص أن يغيّر ما كتبه تعالى لك، فهذا التيقن يعطي ما يعطي من الدافع الإيجابي والدفق الإلهامي للنفس الإنسانية، التي أصبحت أكثر قلقًا وخوفًا نتيجة الصراع والهيمنة المادية التي يشهدها العالم أجمع، هذا الصراع الدامي المتصاعد الذي صنعته تلك الحضارة المتجردة من الخلق الفاضل والمكارم الحسنة، فآلت النتائج إلى ما آلت إليه الآن، وهي مستمرة ولا يمكن السيطرة عليها دون بناء عقيدة صحيحة تنير للمرء دربه، وتفرّج كربه، وتوسع مداركه، وتجعله معطاء سموحًا منتجًا في مجاله، لا مستهلكًا ضائعًا في غيه وهواه.
ما كان يطرحه سيد القِمني في لقاءاته التلفزيونية أشبه بانفعالات عاطفية لا علاقة لها بأي صلة ثقافية/ فكرية أبدًا، وكذلك ما يطرحه القرآنيون الذين تابعتهم لفترة أيضًا، ومنهم محمد شحرور وصبحي منصور..؛ فما اقتنعت بكلامهم قط، ذلك أنهم اعتمدوا في تأويلاتهم على أهوائهم
نتيجة لذلك كله صار الإلحاد والنبرة الشكوكية أكثر وضوحًا، خصوصًا عند ما يسمى بأجيال ما بعد الحداثة، أو جيل زد وألفا، من الذين كبروا وحولهم وسائل الإعلام تردد ليل نهار مصطلحات: المساواة بين الجنسين، العمل والجنس للجميع، الحرية المطلقة، الحرية بلا حدود، الحرية دونما رادع أو قيد.
ولما كنت أنا شخصيًّا من هذا الجيل، فقد شككت -كغيري- لفترة، لكن في الوقت ذاته، وفي بعض الأحيان، شعرت بحنين خاص للرجوع من نوبة الشكوك هذه، والوصول إلى حالة من الصفاء الداخلي والراحة، وآمنت رغم الكثير مما أحسبه انهيارًا أو خذلانًا أن الأمل موجود، وإنني في أعماقي اعتقدت بوضوح أنه ليس ثمة يقين مطلق ما لم يسبقه شك جامح.
وكنت من القراء المهتمين بكتب ما يسمى بفرسان الإلحاد الجديد، وعلى وجه الخصوص كتب عالم الأحياء الدارويني ريتشارد دوكينز، صاحب كتاب "الجين الأناني" وكتاب "صانع الساعات الأعمى"، فتأثرت به لفترة وجيزة، وقرأت لعالم اللسانيات نعوم تشومسكي، وهو ملحد، فأعجبت به وما أزال، وكنت أقرأ بدأب شديد ما يكتبه العلمانيون العرب وأستمع لخطابهم ومناظراتهم، ومنهم نصر حامد أبو زيد، وصادق جلال العظم، وسيد القِمني، ومراد وهبة، ويوسف زيدان.. وكنت أُعجب بهم.
لكنْ من خلال تواصل القراءة وتفحص أحوال العالم تبدلت نظرتي تمامًا؛ فعرفت أن المسائل المطروحة في كتب هؤلاء إنما هي مجرد شبهات تخلو من المنطق والبناء الفكري، بل هي في بعض الأحيان واهية جدًّا.. فمثلًا، ما كان يطرحه سيد القِمني في لقاءاته التلفزيونية أشبه بانفعالات عاطفية لا علاقة لها بأي صلة ثقافية/ فكرية أبدًا.
وكذلك ما يطرحه القرآنيون الذين تابعتهم لفترة أيضًا، ومنهم محمد شحرور وصبحي منصور، وما يقوله بعض منهم مثل ياسر العديرقاوي ومحمد هداية وإسلام البحيري وجماعة تكوين؛ فما اقتنعت بكلامهم قط، ذلك أنهم اعتمدوا في تأويلاتهم على أهوائهم، ونسوا أو تناسوا تلك الآية العظيمة التي ذمت الهوى {فلا تتّبعوا الهوىٰ أن تعدلوا}، ناهيك عن أكاذيبهم الشنيعة ومغالطاتهم المدسوسة في تفسير الآي الكريم، ونبذ الحديث الذين هم أبعد ما يكونون عنه علمًا ودرايةً.
يُثبت لنا الإسلام مدى قوة رسالته وإلهيتها، ومدى عمق منهجه ودقته المتناهية، التي تجعل أي إنسان عاجزًا عن أن يجد ثغرة فيه مهما حاول؛ لأنه بذلك يطلب المحال لا أكثر
بل الملاحظ أن ما يجمع بين هؤلاء هو الاتباع الأعمى لأهوائهم وأهواء من يدفع لهم وبهم، حتى أضلوا كثيرًا من الناس ليدخلوا في مضمون ذلك الحديث العظيم: "من سن سنةً حسنةً فعمل بها كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها، لا ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سن سنةً سيئةً فعمل بها، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، لا ينقص من أوزارهم شيئًا"؛ فسنوا سننًا سيئةً وبذروا بذور شر، لكنها بذور لن تنبت أبدًا.
فقد حاول من قبل هؤلاء جماعة أعلم منهم، وهم ثلة من المستشرقين الحاقدين الذين حاولوا تفسير الإسلام بكليته ومضامينه، بل ورسالة نبيه بماديتهم ومنهجيتهم، فتنوعت شبهاتهم ومآخذهم على الإسلام ما بين تعطيل للسنة النبوية وأحكام القرآن، وتشكيك بوجود النبي وإنجازات الحضارة الإسلامية والإنسان المسلم ككل، ولكنهم فشلوا في نهاية المطاف، وتم الرد على شبهاتهم جميعًا.
وبذا يُثبت لنا الإسلام مدى قوة رسالته وإلهيتها، ومدى عمق منهجه ودقته المتناهية، التي تجعل أي إنسان عاجزًا عن أن يجد ثغرة فيه مهما حاول؛ لأنه بذلك يطلب المحال لا أكثر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.