حين عصفت رياح الربيع العربي بالمنطقة، راهن كثيرون على أن سقوط الأنظمة القديمة يعني بالضرورة قيام أنظمة جديدة مستقرة؛ لكن الواقع أثبت أن النجاح لم يكن مرهونًا فقط بتغيير الحكام، بل بقدرة القادة الجدد على إدارة المراحل الانتقالية بحنكة.
الرئيس السوري أحمد الشرع يبدو أنه استوعب هذه الدروس جيدًا، فلم يسلك طريق الحكومات الانتقالية المرتبكة، ولم يقع في فخاخ الاستقطاب الدولي والإقليمي، بل اختار نهجًا قائمًا على الحسم السياسي، والتوازن الإستراتيجي، وإعادة بناء الدولة وفق قواعد جديدة. فما الذي جعل تجربته تختلف عن تجارب مصر واليمن وتونس وليبيا؟ وكيف نجح في تجنب أخطاء الماضي؟
السيادة أولًا: رفض الوصاية الدولية
منذ توليه السلطة، أدرك أحمد الشرع أن دخول بلاده تحت الوصاية الدولية سيكون بداية لتآكل سيادتها، كما حدث في دول أخرى استسلمت للضغوط الأممية. لذلك، حرص على عدم استجلاب قرارات مجلس الأمن، ولم يسمح بإدخال سوريا تحت الفصل السابع، بل سعى إلى رفع العقوبات عنها دون تقديم تنازلات تمسّ استقلالها السياسي.
في المقابل، شهدت اليمن وليبيا تدخلات دولية واسعة عبر مبعوثين أمميين ومقررات دولية، لم تزد الأوضاع إلا تعقيدًا. أما الشرع، فقد تحرك وفق رؤية واضحة: لا قرارات تملى من الخارج، ولا حلول تأتي عبر الوسطاء الدوليين.
الحسم الأمني: لا مكان للفوضى
أحد أهم الدروس التي استوعبها الرئيس السوري من تجارب الربيع العربي هو أن التراخي الأمني يؤدي إلى انهيار الدولة. ففي اليمن، كانت اللجان الرئاسية تُشكل لمفاوضة المليشيات، فانتهى الأمر بسقوط الدولة في قبضتها. أما في سوريا، فقد كان نهج الشرع مختلفًا تمامًا.
مع أول بوادر اضطراب أمني تم الحسم سريعًا، ولم يُسمح بترك الأوضاع دون سيطرة، وبعد استعادة الاستقرار جاءت مرحلة المعالجة عبر لجان مختصة، لكن بعد فرض سلطة الدولة بشكل كامل. هذا النهج ضمن عدم انزلاق البلاد إلى مستنقع الفوضى الذي غرقت فيه دول أخرى.
دمج مؤسسات "قسد" ضمن الدولة السورية يفتح الباب أمام إعادة الإعمار والتنمية في تلك المناطق، ويعيد تماسك الجغرافيا السورية، دون الحاجة إلى حلول عسكرية مكلفة
اتفاقية توحيد الأراضي: دمج "قسد" في الدولة
في خطوة غير متوقعة، لكنها تعكس براغماتية سياسية عالية، وقّع الرئيس أحمد الشرع اتفاقية مع قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، تضمنت توحيد الأراضي السورية تحت سلطة الدولة، ودمج المؤسسات المدنية والعسكرية ضمن الإطار الوطني.
هذه الخطوة جاءت بعد سنوات من التوتر بين الدولة السورية و"قسد"، لكنها حملت رسالة واضحة: لا مكان لمشاريع انفصالية، وكل الكيانات يجب أن تندمج ضمن الدولة الوطنية. الاتفاقية لم تكن مجرد تحرك تكتيكي، بل خطوة إستراتيجية لسحب ورقة الشمال السوري من يد القوى الدولية، وحرمانها من استخدامها كوسيلة للضغط على دمشق.
دمج مؤسسات "قسد" ضمن الدولة السورية يفتح الباب أمام إعادة الإعمار والتنمية في تلك المناطق، ويعيد تماسك الجغرافيا السورية، دون الحاجة إلى حلول عسكرية مكلفة.
حكومة منسجمة: لا مجال للابتزاز السياسي
إحدى أولى الخطوات التي اتخذها الشرع كانت تشكيل حكومة موحدة من شخصيات موثوقة، بدلًا من الدخول في مساومات سياسية مع أطراف متناقضة. هذه الإستراتيجية تجنبت خطأً وقعت فيه مصر واليمن وتونس، حيث تشكلت حكومات تحالفية ضمت كيانات متصارعة، أدت في النهاية إلى إضعاف السلطة التنفيذية بدلًا من تعزيزها.
الشرع فهم أن الحكومات يجب أن تكون أداة للحكم، لا ساحة لصراعات النفوذ. لذلك، لم يسمح بوجود قوى سياسية داخل حكومته لا تشاركه رؤيته، ما جعله أكثر تحكمًا في المشهد، وأقل عرضة للضغوط الداخلية.
عدم استعداء دول الخليج: توازن إستراتيجي
في ظل الأهمية الإقليمية لدول الخليج، اختار الشرع نهجًا براغماتيًّا في التعامل معها، فبدلًا من الدخول في استقطابات حادة، كما حدث في تجارب مصر واليمن، جعل السعودية وجهة زيارته الأولى.
هذه الخطوة كانت رسالة واضحة على أن سوريا الجديدة تريد بناء علاقات قائمة على المصالح المشتركة، بعيدًا عن السياسات التي أغضبت الجيران. ففي مصر، استقبل الرئيس محمد مرسي الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، ما أثار قلق الخليج، بينما في اليمن اتخذت الحكومة مواقف متقلبة أضعفت علاقتها مع محيطها الإقليمي. أما الشرع، فبدا أكثر وعيًا بحساسية التوازنات الإقليمية.
اللعب بحذر في الساحة الدولية
أحد الأخطاء التي وقعت فيها دول ما بعد الربيع العربي كان الانحياز الكامل إلى محور دولي دون آخر، فوضعت مصر واليمن وتونس كل رهاناتها على الولايات المتحدة وأوروبا، ما فتح الباب أمام روسيا لفرض نفوذها على المنطقة.
أما أحمد الشرع، فقد اختار نهجًا متوازنًا، فلم يعلن العداء لروسيا رغم تحالفها القوي مع بشار الأسد، وفي الوقت نفسه لم يغرق في الارتهان للغرب. هذه البراغماتية جعلت سوريا قادرة على المناورة بين القوى الكبرى، بدلًا من أن تكون أداة في صراعاتها.
ما يجعل تجربة الرئيس أحمد الشرع مختلفة عن تجارب دول الربيع العربي هو أنه لم ينجرف خلف العواطف السياسية، ولم يقع في فخاخ التوازنات الهشة؛ فقد أدار البلاد ببراغماتية صارمة، متجنبًا أخطاء من سبقوه، ومحافظًا على استقلال قراره السياسي
حوار وطني سريع: لا وقت للاستنزاف
في حين أن دولًا مثل اليمن غرقت في حوارات وطنية امتدت لأكثر من عام، وانتهت بإشراك جماعات مسلحة مثل الحوثيين في العملية السياسية، اختصر الشرع الطريق. مؤتمر الحوار الوطني السوري لم يستغرق سوى يومين، وتم استبعاد أي طرف مسلح لا يعترف بسيادة الدولة.
هذه المقاربة تعكس إدراكًا بأن إشراك القوى غير المنضبطة في الحوار السياسي لا يؤدي إلى حلول، بل إلى مزيد من التعقيد. وبدلًا من أن تتحول طاولة الحوار إلى ساحة مساومات، كانت جلسات الحوار السوري محكومة بسقف واضح: لا مكان لمن لا يعترف بالدولة.
السيطرة على الإعلام: تفادي الفوضى الإعلامية
الإعلام كان سلاحًا ذا حدين في تجارب الربيع العربي. فقد أدى الإعلام دورًا رئيسيًّا في تأجيج الصراعات، بدلًا من أن يكون أداة للبناء. ولذلك، تعامل أحمد الشرع مع الإعلام بحذر شديد، فلم يمنح الإعلاميين أدوارًا قيادية، ولم يسمح بتحويل المنصات الإعلامية إلى ساحات صراع سياسي. نتيجة لذلك، ظل التلفزيون السوري الرسمي شبه مغلق، في خطوة تعكس رغبة في تجنب الفوضى الإعلامية التي أضعفت دولًا أخرى.
هل يصمد هذا النهج؟
ما يجعل تجربة الرئيس أحمد الشرع مختلفة عن تجارب دول الربيع العربي هو أنه لم ينجرف خلف العواطف السياسية، ولم يقع في فخاخ التوازنات الهشة؛ فقد أدار البلاد ببراغماتية صارمة، متجنبًا أخطاء من سبقوه، ومحافظًا على استقلال قراره السياسي.
لكن يبقى السؤال مفتوحًا: هل سيصمد هذا النهج أمام التحديات القادمة؟ الأيام وحدها ستحدد ذلك.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.