شعار قسم مدونات

كرتون الزمن الجميل.. والطفل الذي كُنتُه!

صورة من المسلسل الكرتوني الشهير "كابتن ماجد" (مواقع التواصل)
الكاتب:ليت أيام "الزمن الجميل" خلقن طوالًا، وأين "كرتون" الفصحى يومئذ من كرتون العامية اليوم؟! (مواقع التواصل الاجتماعي)

لقد أتى عليَّ حين من الدهر شِبه "عِيال" على التلفزيون الرسمي (الموريتاني)؛ أعشو إلى ضوئه، وأتسمر أمامه لأشاهد -بالأبيض والأسود- تلك "الشاشة الصغيرة"، لما فاتني زمان "الشاشة الكبيرة" (السينما)؛ التي نسختْها آلة المرناة، وجعلتها في خبر كان!

تأثر وتفاعل

أيامها كنت "مدمن رسوم متحركة"؛ أنقل واعيتي الصغيرة من يوميات "الرحالة الصغير"؛ فأتأثر – إلى حد التعاطف- بجميل وقع زَورته الخاطفة على حياة ونفسيات الشخصيات "الأرضية" التي يهبط إلى (عالمها) "البشري"، كما تنزل الهدية من سماء المفاجأة!.

ثم أنتقل إلى مغامرات "أبي الحروف"، فتقترن عندي الطيبة بالملل والخيرية بالرتابة، وترتبط الطرافة بالشرانية، وهو اقتران وانطباع استقر في عقلي الباطن؛ بسبب  البرودة والروتينية في شخصيتي أبي الحروف وشارلوك هولمز (بطلي الخير)، مقابل حرارة التسلية في شخصية خصميهما الشريرين الفكاهيين "خربوط" و"موريارتي" -وذلك في برنامج "المناهل" التلفزيوني التعليمي، ومسلسل "شارلوك هولمز" الكرتوني!

وعند مشاهدة المسلسل الكرتوني الأخير، كنت أمد عيني إلى الدمية المخطوفة التي دس فيها الفاشل "توت" ورفيق شقائه "اسمايلي" الياقوتة المسروقة؛ قبل أن يستنقذ "شارلوك هولمز" الأخيرة، ويعيد الأولى إلى صاحبتها؛ تاركًا المساعدين الفاشلين مادة سخرية وموضوع تقريع على طاولة محاسبة البروفيسور "موريارتي"؛ لأجدني – في سياق زماني منفصل- محاميًا عن الفتى المسكين جيمي بين يدي رفع الفتاة پوليانا "قضية" عليه بتهمة "نقص الاهتمام بحضرتها"، قبل أن أسمعها -في لقطة من حلقة أخرى- تصفه بأنه: "قد أصبح ماهرًا في إيجاد السعادة"، فأعلن فورًا سحب يدي من ملف الدفاع عنه، بعدما استغنى بحسن شطارته عن "توكيل محامٍ"، و كسب ببراعة تودده القضية!

تمكنت "كلمات الشارة" في كرتون الزمن الجميل من اختراق جدار التلقينية؛ لتنساب إلى أعماق النفس، موصلة الفكرة والرسالة والمغزى، في توقيع نصي عوان بين الإلغاز المبطن والوعظية المباشرة

والفضول والتشويق والعاطفية كانت عناصر جذب يسبقني مغناطيس موعدها اليومي إلى منازل الجيران، حين أضرب في مناكب الحي الشعبي، قبل أن يصبح في بيتنا جهاز تلفاز!.. بدأ تلفاز بيتنا -كسابقيه الغيريين- ثنائي اللون، لكن محتوى بثه الحي كان يُخرج ويُنتج صورًا ملونة حسدت عيني المجردة عليها مخيلتي المجنحة، ولم تزل معلقة بحلم "تعدد الألوان" حتى تحقق بعد سنوات انتظار!

إعلان

تحول بصري!

كانت فرحة الانتقال البصري مضاعفة؛ فودعت حقبتي القناة الأوحد (البث الأرضي للتلفزة الموريتانية) واللون الثنائي (الأبيض والأسود)، وأعدت فتح عيني -وضبط زاوية رؤيتها- على مشهد رأيت فيه الأخضر أخضر، والأحمر أحمر، والأصفر أصفر والأزرق أزرق.. لأول مرة في "حياتي التلفزيونية"!

كنت فى هذه المرحلة قد فطمت نفسي -نظريًا- عن عالم الكرتون بنسخ عرضه الأنيمية اليابانية النابضة؛ متناسيًا زمانَ وصلٍ طفوليًا وديعًا من دنيا "الصغار"، لم تزل بعض مشاهد مفارقاته تستيقظ في ذاكرتي، كلما مرت بي – مع فارق التوقيت والسياق- أشباه لها ونظائر في واقع "الكبار"!

لقد كانت علاقتي بالرسوم المتحركة في صدر الطفولة كعلاقتي بكتب المطالعة المدرسية: يريني خيال الصبا صورها المرفقة "نصًا موازيًا"؛ ثم أنثني وقد نفضت يد اهتمامي من قراءة السطور، التي ما كنت لأصبر عليها لولا أن استدرجتني الصورة التي أرادوا لها أن تدعم النص!

كلمات الشارة ودورها الرسالي

ولأن "كرتون الزمن الجميل" كان متنوعًا؛ يأخذ من كل فن بطرف.. كان للرياضة من "مقرره" جزء مقسوم، يمثل فيه "الكابتن ماجد" القدوة الكروي، ويمثل "النمر المقنع" المصارع النبيل، وهما يرمزان للشخصية المثالية والنموذج الإيجابي ضمن ثنائية "الخير والشر"، التي يدندن حولها العملان الموجهان للأطفال.

وهذا الملمح كان  حاضرًا -ومثبتًا- في "كلمات الشارة"؛ يتجلى ذلك في عبارة: "كن حسن الخلق مع الخصم، فأهدافك أسمى" – في كرتون "الكابتن ماجد"-، ويظهر أيضًا في تقديم النمر المقنع نفسه بطلًا "لن يستيئس أبدًا.. لن يستسلم.. سيخلص الحلبة من كل الشرور!".

لأن الكرتون ليس كله عسلًا مصفى، وليس في مأمن من استهداف السم المدسوس، كان استنقاذ الكرتون الموجه من قبضة المنتج الأجنبي فتحًا مبينًا، تنافست فيه قنوات الأطفال العربية، فراعى بعضها الخصوصية الثقافية والدينية، وانفتح بعضها على ثقافة العولمة

بل أبعد من ذلك، تمكنت "كلمات الشارة" في كرتون الزمن الجميل من اختراق جدار التلقينية؛ لتنساب إلى أعماق النفس، موصلة الفكرة والرسالة والمغزى، في توقيع نصي عوان بين الإلغاز المبطن والوعظية المباشرة، ومن هنا كانت كلمات الشارة ومضة مركّزة خاطفة، تومئ إلى فكرة المسلسل ومخرج الحلقات، دون أن تحرق المشهد.. وتلك براعة أخرى لا تقل تميزًا عن وثاقة السيناريو ورصانة لغة الحوار في كرتون الزمن الجميل.

إعلان

بل لقد تنتزع كلمات الشارة "استقلالها التام" عن المسلسل الكرتوني، لتصبح "أنشودة وطنية" مجلجلة الكلمات مدوية الأداء عابرة لحدود العمل اللصيق، ولعل أحضر مثال على ذلك شارة كرتون "هزيم الرعد" في نسخته المدبلجة، التي انبتّت عن سياقها الكرتوني، وحضرت في مشهد هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وبطولات المقاومة الفلسطينية في معركة طوفان الأقصى!

الكتاب الكرتوني

كان تلفزيون الطفل العربي عيالًا على "الأجنبي" في مجال الكرتون، وكانت "الدبلجة" الآلية التي صنعت الفرق، ولم تقف هذه الآلية عند حد الترجمة النصية، بل تجاوزت إلى التصرف الاسمي. وبالمناسبة، لم أكن يومها أعلم أن اسم الكابتن "ماجد" الأصلي هو "تسوباسا"!

على أن أول مسلسل كرتوني أحسست معه أنني أسافر بين دفتي كتاب كان النسخة العربية من "سندباد"، ذلك الإنيمي (الياباني) الذي كان من مشاهداتي أيام الطفولة عبر شاشة "العراقية"، القناة الرسمية الأوحد، التي كان يصلنا بثها الأرضي عبر هوائي التقاط يوصل البث، مع فارق التوقيت بين الصوت والصورة!

كنت أتخيل في ذلك الكرتون العربي معالم بغداد، وأستعيد أجواء "ألف ليلة وليلة"، فأقابل منصوص الكتاب الورقي "التراثي" بمخرج ريشة الكرتون، مستعينًا بجامع تطابق الأسماء وتقارب "الرسوم"، التي هي في الكتاب "خادمة للنص"، وفي الكرتون "نص مستقل" قائم بنفسه!

وبعدما ودعت الطفل الذي كنته، وجرت مياه تطور تحت جسري العمر والحياة، أخذ الكرتون العربي موقعه على خريطة "المكتبة التلفزيونية" غير مزاحم، فكانت قناة الجزيرة للأطفال (قناة "ج" -لاحقًا) التي كان من تجليات خدمتها الكتاب العربي التراثي، نقلها إياه من أوراق "كليلة ودمنة" لابن المقفع إلى شاشة الطفل العربي!

ولأن الكرتون ليس كله عسلًا مصفى، وليس في مأمن من استهداف السم المدسوس، كان استنقاذ الكرتون الموجه من قبضة المنتج الأجنبي فتحًا مبينًا، تنافست فيه قنوات الأطفال العربية، فراعى بعضها الخصوصية الثقافية والدينية، وانفتح بعضها على ثقافة العولمة، وسلك فريق ثالث طريقة بين الطريقتين، فخلط بين الخصوصية الثقافية والانفتاح على الآخر، حتى إذا دخلت شبكات التواصل الاجتماعي على الخط، واستحكمت "ثورتها الرقمية"، طوت الوسائط المزاحمة إكراهات النسخة التلفزيونية من العمل الكرتوني.

إعلان

ومن آيات ذلك الفرق أنني ربما عدت إلى اللقطة من مسلسلات الكرتون -عرَضًا- فاستللتها من صندوق الذاكرة، ثم قابلتها مع متاح نسخة اليوتيوب الجاهزة، فإذا أنا أعيش "اللحظة النفسية" من جديد، وكأنما الطفل الذي كنته يقول لي: أترى "فارق التوقيت"؟! ها أنت ذا الآن تستطيع متابعة الحلقة تلو الحلقة في جلسة واحدة، وقد كنت ملزمًا بمشاهدة الحلقات بالتقسيط في كتاب موقوت، دون التحكم في إعادة اللقطة أو تجاوزها!

ما أُحيلاها ذكريات!. ليت، وهل ينفع شيئًا ليت؟! ليت أيام "الزمن الجميل" خلقن طوالًا، وأين "كرتون" الفصحى يومئذ من كرتون العامية اليوم؟!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان