تشهد التغيرات المتسارعة في النظام الدولي تحولات جذرية قد تؤدي إلى فراغ إستراتيجي في المستقبل، خاصة في مناطق مثل الشرق الأوسط وأوروبا، وحتى داخل الولايات المتحدة الأميركية. هذه التحولات قد تعيد تشكيل خريطة القوى العالمية، وتؤثر على التوازنات السياسية والاقتصادية والعسكرية.
ملامح فراغ إستراتيجي في الشرق الأوسط
ما بدأته حماس في غزة مع "طوفان الأقصى"، وما حدث في سوريا في معركة "ردع العدوان"، سيكون له دور في ملء الفراغ الإستراتيجي المستقبلي. ودائمًا أستذكر مقولة الشهيد محمد الضيف، قائد كتائب القسام، حين قال: "سنغير مجرى التاريخ".
في حالة حرب غزة، جلست أميركا مع الطرف المعني بالسلام الدائم -وهو حماس- وطرحت هدنة طويلة الأمد؛ لأن ترامب يهمه في فلسطين حماية الممر الاقتصادي الأميركي المنافس لطريق الحرير الصيني
صحيح أن ملء الفراغ لا يكون بالانتظار، وإنما يتطلب حلفًا إسلاميًّا قويًّا قد لا يتشكل إلا بعد استقرار في سوريا وفلسطين، ولكن روحه بدأت تسري، وسيتشكل سريعًا حين تتوفر الفرصة.
هذا التحالف جاهز في شعوب الأمة الإسلامية، لكنه يحتاج إلى أن تتجاوز هذه الشعوب مرحلة الأنظمة المستبدة إذ ليس لهم مشروع ولا طموح سوى قمع أي مشروع إسلامي حقيقي، وبقاء هذه الأنظمة مرهون بالحماية الخارجية الأميركية، فمتى رُفعت هذه الحماية سقطت.
المتغيرات القادمة في الإستراتيجية الأميركية بخفض الوجود العسكري الخارجي، وربط الحماية العسكرية بمقابل مادي وليس بإستراتيجية نفوذ، وقطع المساعدات المالية بإغلاق الوكالة الدولية للتنمية، وانشغال الولايات المتحدة بمحيطها الإقليمي ومواجهة الصين، كلها مؤشرات حقيقية على سقوط هذه الأنظمة في المستقبل.
فعندما نقرأ العقلية الأميركية في التفاوض، نجد أنها تقوم على الصفقات التجارية الرابحة، والسلام الدائم لحماية هذه الصفقات. ففي حالة أوكرانيا، تمت صفقة تجارية رابحة (صفقة المعادن) مع الطرف المعني بالسلام الدائم -وهو روسيا- لحماية الصفقة.
وكذلك في حالة حرب غزة، جلست أميركا مع الطرف المعني بالسلام الدائم -وهو حماس- وطرحت هدنة طويلة الأمد؛ لأن ترامب يهمه في فلسطين حماية الممر الاقتصادي الأميركي المنافس لطريق الحرير الصيني.
حماس لا تضمن أمنًا لأحد إلا إذا ضمنت دولة فلسطينية ذات سيادة؛ وقد صرح خليل الحية أنهم عرضوا على الوسطاء هدنة لمدة 10 سنوات.. هذا الحوار المباشر جاء بعد فشل إسرائيلي- عربي في إيجاد حل لمشكلة الشرق الأوسط.
والحقيقة أن الذين خططوا لمخرجات القمة العربية، لم يفهموا بعد العقلية الأميركية من عرض خطة التهجير. فالحقيقة أن خطة التهجير هي خطة ترويع لحكام العرب وليس لحماس، فهي رسالة من ترامب إليهم، فحواها: "إما أن تتفاهموا مع حماس أو أهددكم بتهجير الفلسطينيين إلى بلدانكم".. لأن حماس تمتلك قوة في طاولة المفاوضات لا تمتلكها أي دولة في العالم، وهي قوة العقيدة التي لا تعرف الاستسلام أو التراجع.
بعد انتظار خطة القمة العربية، رآها ترامب لا تحل المشكلة، فجاء القرار بالتفاوض المباشر مع حماس، القوة المعنية بتحقيق السلام في الشرق الأوسط، وهي مفتاح المصالح الإستراتيجية الكبرى لترامب، أهمها التطبيع والممر الاقتصادي.
فلا نتنياهو ولا حكام العرب قادرون على تحقيق السلام، ولولا اللوبي الصهيوني القوي الداعم لإسرائيل لتخلى ترامب عن نتنياهو كما تخلى عن زيلينسكي، الذي قال له ترامب: "ليس لديك أوراق لتشترط علينا". لذلك، أتوقع أن تكون هناك هدنة طويلة الأمد مقابل دولة فلسطينية على حدود 67؛ فإذا ضمنت حماس المصالح التجارية الأميركية، فمن المرجح أن تتم الصفقة سريعًا.
انقلاب إستراتيجي جيوسياسي عسكري في أوروبا
تصاعُد الأزمة الأوكرانية يكشف عن تحولات كبيرة في السياسات الدولية، خاصة بين الولايات المتحدة وأوروبا. تصريحات مسؤولين أوكرانيين وأوروبيين، خاصة تصريح سفير أوكرانيا في بريطانيا بأن الولايات المتحدة "تدمر النظام العالمي وليس محور الشر فقط"، تشير إلى أن الولايات المتحدة قد تتراجع عن دورها القيادي في النظام الدولي، ما يدفع أوروبا لتعزيز استقلاليتها الإستراتيجية.
أوروبا تسعى لزيادة إنفاقها الدفاعي، وتقديم مساعدات عسكرية أكبر لأوكرانيا، بما في ذلك تمويل طائرات مسيرة هجومية. هذه الخطوات تعكس استعدادًا أوروبيًّا لمواجهة طويلة الأمد مع روسيا، قد تؤدي إلى سباق تسلح وتصعيد عسكري، وانشغال أوروبي- أميركي عن حرب غزة.
وستكون لهذا انعكاسات سلبية على إسرائيل من حيث تقلص الدعم الأوروبي، كرد انتقامي على أميركا بسبب تخليها عن حليفها الأوكراني.
ودخول تركيا على الخط بطرح نفسها كبديل أمني للولايات المتحدة، هو مما يعزز نفوذها وتوسعها، ويسعى لفك القبضة الأميركية عليها شرقًا وغربًا، وهو ما يفسر تصريح وزير الخارجية التركي لصحيفة "فايننشيال تايمز"، إذ قال إن تركيا تريد أن تكون جزءًا من أي بنية أمنية أوروبية جديدة إذا انهار حلف الناتو.
تسعى إدارة ترمب لتفكيك ثلاث ركائز قوة في الدولة العميقة التي يسيطر عليها الديمقراطيون بشكل كبير، وهي نفسها ركائز قوة أميركا عالميًّا: الوكالة الدولية للتنمية، والمجمع الصناعي العسكري، ووكالة الاستخبارات الأميركية
انقلاب إستراتيجي في الداخل الأميركي
عندما نقرأ النمط الشخصي للعقلية التجارية، نجد أنها عقلية تفكر تفكيرًا قصير المدى وبعقلية الثراء السريع.. وهذا هو فريق ترامب الحالي، المكون من رؤساء شركات التكنولوجيا مثل إيلون ماسك، الذين يحسنون إدارة المشاريع قصيرة المدى، ولكنهم لا يصلحون للمشاريع طويلة المدى؛ فيربحون تكتيكيًّا ويخسرون إستراتيجيًّا. وهذا مؤشر لسقوط النظام الدولي الذي بنته أميركا منذ عهد رئيسها روزفلت.
هناك مؤشر آخر هو سعي إدارة ترمب لتفكيك ثلاث ركائز قوة في الدولة العميقة التي يسيطر عليها الديمقراطيون بشكل كبير، وهي نفسها ركائز قوة أميركا عالميًّا: الوكالة الدولية للتنمية، والمجمع الصناعي العسكري، ووكالة الاستخبارات الأميركية.
وقد صرح وزير الدفاع الأميركي الجديد أن إستراتيجية الولايات المتحدة الحالية ستركز على أمن الحدود ومواجهة الصين، وهو ما قد يقلص الوجود العسكري الأميركي في أنحاء العالم، باستثناء بحر الصين الجنوبي لردع الصين، وقد تكون الحرب الكبرى القادمة هناك.
تحول إستراتيجي في وسائل السيطرة في النظام الدولي
بعد الحرب العالمية الثانية بدأ التنافس على النفط والممرات المائية، فكان إنشاء القواعد العسكرية في الدول، وحلف الناتو، واحتلال أفغانستان والعراق، وكلها خطط للولايات المتحدة للسيطرة على العالم، وبها تشكلت معالم النظام الدولي آنذاك. ولكن بعد ظهور قوى صاعدة تهدد الهيمنة الأميركية، أصبح لزامًا ظهور وسائل جديدة للسيطرة على العالم، ومنها بالدرجة الأولى:
- الذكاء الاصطناعي: الذي أصبح التحكم فيه وسيلة أساسية للتفوق العسكري، لذلك فإن الصراع على المعادن في أوكرانيا وغرينلاند والكونغو، هو سباق نحو الذكاء الاصطناعي العسكري، الذي يعتمد بالأساس على المعادن النادرة التي تستخدم في صناعة الرقائق الإلكترونية في أجهزة الذكاء الاصطناعي؛ فتجد أميركا أنفقت 500 مليار دولار كاستثمار في بناء شركات أنظمة الذكاء الاصطناعي، ووقعت قيودًا على تصدير هذه الرقائق للصين ودول أخرى تهدد أميركا.
- الموانئ والطرق التجارية العابرة للقارات: فهناك صراع شرس بين طريق الحرير الصيني والممر الاقتصادي الأميركي المنطلق من الهند مرورًا بالشرق الأوسط وصولًا إلى أوروبا.
نحن أمام نظام دولي جديد يعتمد على الاستحواذ الإقليمي للنفوذ، بعيدًا عن الهيمنة الأميركية، فالمناطق الإقليمية الكبرى تكون فيها الصراعات بين لاعبين محليين فقط، وتبرز قوى إقليمية جديدة كأقطاب دولية
ففي وثيقة إستراتيجية للأمن القومي الأميركي، صدرت في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، تصنف الصين كخطر إستراتيجي له النية والقدرة على تشكيل النظام الدولي، كما أنها تمتلك على نحو متزايد القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتحقيق هذا الهدف.
والخلاصة، نحن أمام نظام دولي جديد يعتمد على الاستحواذ الإقليمي للنفوذ، بعيدًا عن الهيمنة الأميركية، فالمناطق الإقليمية الكبرى تكون فيها الصراعات بين لاعبين محليين فقط، وتبرز قوى إقليمية جديدة كأقطاب دولية. والسؤال المهم: أين الدول الإسلامية من هذه التحولات والانقلابات الإستراتيجية في العالم؟
الفراغ الإستراتيجي عندما يحدث يأتي في أحداث مفاجئة يجب اغتنامها، ولا يغتنمها إلا من كان يعد ويحضر لها. ومع عدم وجود رؤية ولا مشروع للدول العربية لتكون جزءًا من النظام الدولي الجديد، فإن الفرصة قد تضيع.
من منظور القرآن الكريم، ليس بالضرورة أن يكون هناك تفوق عسكري للمشروع الإسلامي حتى يكون جزءًا من النظام الدولي؛ فعندما نزلت آية: {غُلبت الرُّوم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون}، كانت تقريرًا إستراتيجيًا لا خبرًا عابرًا. وهذه دعوة للاستشراف والتحضير للتموقع، فجاء الخبر ليُعلِم بحدوث انقلاب إستراتيجي في النظام الدولي آنذاك، فيه هزيمة الدولة الفارسية، وإنهاك الدولة الرومانية.
وكإسقاط من السيرة النبوية، نرى أن جيش المسلمين كان تعداده 3000 جندي بعد صلح الحديبية، فبدأ يجهز لتشكيل نظام دولي جديد في وقت كانت الإمبراطورية الفارسية تعدادها يصل إلى 2 مليون جندي.
فبدأ النبي القائد بإرسال الرسائل إلى الملوك والأمراء، معلنًا عن نظام دولي جديد يعتمد على تحرير الناس من ظلم الحكام ومن احتكار المال والسلطة، لا على لا صفقات تجارية ولا قواعد عسكرية ولا فرض رسوم جمركية إلا على من رفض منح الحرية للناس؛ لأن الإسلام لم يأتِ ليفرض نفسه على الناس، ولكن ليفرض الحرية للناس، وكما لا يُكره الناس على الإسلام، كذلك لا يقبل أن يُكره الناس على الكفر.
هذا النظام الدولي الجديد يلخصه قول ربعي بن عامر لملك الفرس: "إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله. قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة".
الخاتمة
عندما نزن قوة المشروع الإسلامي المتمثل في مشروع حماس، ومشروع سوريا الجديدة، ومشروع المحور التركي الذي هو محور سني يشكل خطرًا إستراتيجيًّا على إسرائيل بشهادة نتنياهو، ومع مؤشرات تقلص الحماية الأميركية عن الدول العربية، فإننا نجد أن هذه القوى قد لا تكفي لإثبات قوة المسلمين كأمة في النظام العالمي الجديد الذي سيتشكل.
لذلك، يجب أن تسند هذه القوى بقوى أخرى في شمالي أفريقيا وفي شرقي آسيا، حتى يتشكل قطب إسلامي له قرار في هذا العالم، ويدافع عن مصالح المسلمين وسيادتهم.. بعدها يكون قادرًا على التوسع والتمدد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.