هذه المقالة هي الجزء الثاني من مقالةٍ كتبتها منذ نحو ثلاثة أسابيع، تناولت فيها ضرورة تشكيل تحالف إقليمي لمواجهة التحديات الكبرى التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، بل والعالم بأسره، خصوصًا مع وصول الرئيس دونالد ترامب وفريقه اليميني إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة.
لقد شهدت الفترة الأخيرة أحداثًا بالغة الأهمية، كان من أبرزها المشادّة الكلامية الحادة في البيت الأبيض بين الرئيس الأميركي ترامب والرئيس الأوكراني زيلينسكي، إلى جانب التصريحات المتوالية من القيادات الأوروبية، التي بدأت بالفعل في تعزيز قدراتها العسكرية وزيادة موازناتها الدفاعية، مدفوعةً بشعور متزايد بأن الولايات المتحدة قد تخلّت عنها، وأدارت ظهرها لحلفائها الأوروبيين مقابل انفتاحها على روسيا، وهو ما يتناقض مع طبيعة الصراع التقليدي بين الشرق والغرب.
إن الغضب الأوروبي من السياسات الأميركية تجاه الأزمة الأوكرانية يعكس قلقًا عميقًا، حيث إن أي انتصار روسي في هذا النزاع سيعني ترسيخ الهيمنة الروسية في المشهد الأوروبي
لم يشهد التاريخ الحديث مثل هذا التحوّل إلا خلال الحرب العالمية الثانية، عندما تحالف الشيوعيون والرأسماليون في تحالف تكتيكي – وليس إستراتيجيًّا- ضد ألمانيا النازية، وهو التحالف الذي انتهى بسقوط الرايخ الثالث، واندلاع الحرب الباردة.
كما أن النظام العالمي الذي نشأ عقب سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي قد دخل اليوم مرحلة الانهيار، وما نشهده من فوضى سياسية حول العالم هو نتيجة مباشرة لذلك التفكك.
لطالما اعتمدت أوروبا على الحماية الأميركية لمواجهة روسيا حاليًّا، والاتحاد السوفياتي سابقًا، حتى إنها رهنت سيادتها الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة. وفي هذا السياق، فإن صمود أوكرانيا في وجه الدب الروسي يعود بالأساس إلى الدعم الأميركي على مختلف المستويات، سواء السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية.
بيد أن المشهد الدولي اليوم قد شهد تحولًا جذريًّا؛ حيث لم تعد الولايات المتحدة في موقع الحامي التقليدي لحلفائها، بل استدارت وشنّت حربًا تجارية عبر فرض الرسوم الجمركية على أقرب حلفائها، ما جعل جميع الدول الحليفة -دون استثناء- تحت وطأة هذه العقوبات.
إن الغضب الأوروبي من السياسات الأميركية تجاه الأزمة الأوكرانية يعكس قلقًا عميقًا، حيث إن أي انتصار روسي في هذا النزاع سيعني ترسيخ الهيمنة الروسية في المشهد الأوروبي؛ إذ تعد أوكرانيا وبولندا بمثابة الخاصرة الرخوة لأوروبا، وأي اختراق روسي لهذه المنطقة سيمثل تهديدًا مباشرًا لأعمدة الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمتها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا.
ما يحصل اليوم يتماشى مع نظرية جورج موديلسكي (George Modelski) في الدورات الطويلة للهيمنة (Long Cycles Theory)، حيث يرى أن الهيمنة العالمية تمر بدورات تستمر حوالي 100 عام، تبدأ كل دورة بقوة صاعدة تهيمن عبر التكنولوجيا، والتجارة، والسيطرة البحرية.
تمر هذه الدول المهيمنة بمراحل متعددة: الصعود، القمة، التراجع، السقوط، ثم تفسح المجال لقوة أخرى لتتسلم القيادة.. طبّق موديلسكي هذه النظرية على دول مثل البرتغال، وهولندا، وبريطانيا، والولايات المتحدة. ورغم الاضطراب الحاصل اليوم، تبقى الولايات المتحدة الأميركية على قمة الهيمنة، لكننا نلاحظ أنها بدأت في مرحلة التراجع، ولكن أين نحن من هذه الفوضى العالمية؟
في سياق التصادم الحضاري بين الاتحاد السوفياتي والعالم الغربي، استطاعت الثورة الجزائرية اقتناص الفرصة من أجل انتزاع استقلالها عن فرنسا، وقدم الجزائريون تضحيات عظيمة وناضلوا بلا هوادة، واستغلوا الفوضى الدولية آنذاك لتحقيق استقلالهم.
واليوم، هناك فرصة سانحة لقوى الشرق الأوسط لإقامة تحالف إقليمي من أجل صون مكانتها العالمية في السياسة والاقتصاد والتحالفات الدولية.
هذا التحالف المنتظر يتشكل من القوى المركزية في المنطقة، وهي تركيا والمملكة العربية السعودية ومصر. هذه الدول هي قلب وأساس هذا التحالف، لاعتبارات عدة مرتبطة بالثقل السياسي والعسكري والمالي والجغرافي، بينما تأتي الدول الثانوية التي يجب عليها أن تنضوي تحت هذا التحالف وتدعمه من أجل بقائه واستمراره.
تواجه المنطقة تحدياتٍ كبيرة تتعلق بثلاث قوى رئيسية: الولايات المتحدة كقوة عالمية، وإسرائيل وإيران كقوتين إقليميتين تسعيان إلى السيطرة على المنطقة، وتتصارعان في المناطق العربية مثل لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن.
هذه التحديات تفرض على الأقطاب الرئيسية ذات الأوزان السياسية الثقيلة في المنطقة، مثل مصر وتركيا والمملكة العربية السعودية، أن تبدأ بوضع خطة للدخول في هذا التحالف، ولكن كيف يمكن تنفيذها لتحويل هذه القوى إلى قوة إقليمية راسخة ومؤثرة في المشهد السياسي العالمي؟
خاضت أوروبا مسارًا طويلًا من أجل توحيد عملتها، استغرق سنوات عدة، وقد بدأت الفكرة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان الهدف منها تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي بين الدول الأوروبية
المضائق وموارد الطاقة:
هذا التحالف الكبير سيؤدي إلى السيطرة على أهم المعابر العالمية تحت إدارة سياسية واحدة، تدير ثروات العالم وفقًا لتصورها الإستراتيجي. يقع كل من مضيق باب المندب، وقناة السويس، والبوسفور، والدردنيل، في العمق الإستراتيجي لهذا التحالف، ما يجعل هذه الكتلة السياسية فعليًّا قلب العالم، كما وصفها ماكندر.
وفقًا لهذه النظرية، فإن المنطقة المعروفة بـ"قلب العالم" أو "قلب أوراسيا" هي منطقة واسعة، تمتد من شرق أوروبا إلى آسيا الوسطى، وتشمل أراضي مثل روسيا ومنغوليا.
وهذا التحالف يعزز من تطبيق هذه النظرية، وتحويلها إلى آلية تطبيقية. اعتقد ماكندر أن السيطرة على هذه المنطقة ستكون مفتاحًا للهيمنة على العالم؛ لأن من يسيطر عليها سيكون في موقع إستراتيجي للتحكم في الموارد الطبيعية وطرق النقل الرئيسية.
تعتبر منطقة قلب العالم نقطة محورية تتحكم في حركة القوى العظمى، بسبب موقعها الجغرافي الإستراتيجي، وهو محق في تصوره؛ فهذه المنطقة تُعدّ مقرًّا للطاقة العالمية وممرًّا لها في الوقت ذاته، ما يمنحها قوة إستراتيجية لا يمكن لأحد تجاوزها أو الاستغناء عنها".
العملة الواحدة:
خاضت أوروبا مسارًا طويلًا من أجل توحيد عملتها، استغرق سنوات عدة، وقد بدأت الفكرة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان الهدف منها تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي بين الدول الأوروبية.
كانت هناك دوافع أساسية وراء هذا التوحيد، مثل تعزيز الاستقرار الاقتصادي، خصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانت أوروبا بحاجة إلى إعادة البناء الاقتصادي، وكان التعاون الاقتصادي جزءًا أساسيًّا من هذا الهدف.
توحيد العملة يسهم في تسهيل التبادل التجاري وتقليل تكاليف التحويل، بالإضافة إلى تعزيز القوة السياسية. كانت فكرة العملة الموحدة جزءًا من مشروع التكامل الأوروبي، الذي يهدف إلى منع الحروب بين الدول الأوروبية، وتوسيع نطاق التأثير الأوروبي على الساحة الدولية.
ومع ذلك، فإن عملية التوحيد يجب ألا تقتصر فقط على العملة.. يجب أن يتم إنشاء بنك إقليمي مشابه للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.. هذه المؤسسات تهدف إلى تعزيز قوة النقد، ومساعدة الدول التي تعاني من أزمات نقدية واقتصادية مثل سوريا والعراق. مثل هذه المبادرات تساهم في استقلالها السياسي، وتساعدها على تجنب الوقوع في فخّ صندوق النقد الدولي، والإملاءات الخارجية التي تفرضها مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي.
لقد كان اتفاق سايكس- بيكو يهدف إلى فصل تلك الشعوب عن قضاياها الكبرى، حيث كرّس حدودًا فكرية مستندة إلى أسس جغرافية، ما جعل كل دولة صغيرة بمفردها تسعى وراء مصالحها الخاصة
الحدود والجواز الموحد:
كانت هذه الخطوة واحدة من أهم الخطوات التي اتخذتها أوروبا، حيث تم فتح الحدود بين دول الاتحاد الأوروبي، فأصبح بمقدور أي إنسان الانتقال من اليونان إلى حدود فرنسا الشمالية دون أي قيود أو تأشيرات.
إن فتح الحدود لم يكن ذا طابع تجاري فقط، بل كان له طابع ثقافي وإستراتيجي أيضًا، حيث ساهم في بناء قضية موحدة، وبدأ في دمج المجتمعات الأوروبية تحت قضايا إستراتيجية.
لقد كان اتفاق سايكس- بيكو يهدف إلى فصل تلك الشعوب عن قضاياها الكبرى، حيث كرّس حدودًا فكرية مستندة إلى أسس جغرافية، ما جعل كل دولة صغيرة بمفردها تسعى وراء مصالحها الخاصة.
هذا الانفصال الجغرافي عزّز من ظهور الفكر القومي في كل قُطر، وجعل الشعوب أكثر تنافرًا بعدما كانت تشكل أمة واحدة يشترك أبناؤها في التاريخ والجغرافيا والثقافة واللغة وغيرها.
لقد حاول السلطان عبدالحميد ربط مركز السلطنة (إسطنبول) بالحرمين الشريفين من خلال مشروع سكة الحديد، ويجب إعادة إحياء هذا المشروع، الذي يبدأ من تركيا، مرورًا بسوريا والأردن والمملكة العربية السعودية، ثم يواصل عبر البحر الأحمر إلى مصر.
يُعتبر هذا المشروع بمثابة معجزة العصر من حيث تعزيز تواصل الشعوب، حيث يسهم في عملية الاندماج، ويزيد من التبادل التجاري وتبادل الأيدي العاملة، إلى جانب العديد من الفوائد الأخرى.
أصبح هذا المشروع أكثر من ضرورة، خاصة في ظل محاصرة الطموحات الإيرانية وتغلغلها في المنطقة، وأيضًا لمواجهة المشروع الإسرائيلي التخريبي، فضلًا عن الحد من التعنت الأميركي، والاستقلال عنها من النواحي السياسية والعسكرية والإستراتيجية والمالية.
إنه مشروع قابل للحياة إذا وُجدت الإرادة السياسية الشجاعة لتقديم المصلحة الإستراتيجية على المصلحة الوطنية، التي أثبتت أنها غير قادرة على حماية المصالح أمام هذه التحديات الكبيرة.
سوف نكمل في شرح هذا المشروع في مقالات أخرى، لجعله ممكنًا وقابلًا للتحقيق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.