بملاحظة سلوك الرئيس الأميركي دونالد ترامب القائم على التهديد كظاهرة، وكأنه قوة غاشمة لا حول للآخرين أمامها ولا قبل لهم بها.. المتتبع لهذه الظاهرة وهذا السلوك -في ولايتي ترامب الأولى والحالية- يلحظ في كثير من المواقف تراجعه عن بعض الخطوات، التي يأتي إعلانه عنها وكأن الأمر قد حُسم.
ويكون التراجع مع تجهيزه خطة انسحاب بصياغة بدائل أو مكاسب جزئية تحت الطاولة، تبرر له أمام الرأي العام الأميركي تراجعه الذي يمثل أحيانًا هزيمة له، لكنه ينجح في تغطية ذلك بشكل دعائي وإعلامي محترف.
خطط نتنياهو للحرب أوسع من غزة والضفة الغربية؛ فإنما هدفه إيران بشكل رئيسي، وضرب وتحييد كل قوى المقاومة المحتملة في المنطقة، وتوسيع وتثبيت نقاط سيطرة إسرائيل على الأرض في لبنان وسوريا
وكمثال على ذلك كان تهديده لحركة "حماس"، قبل ثلاثة أسابيع، بوجوب إعادة كل الرهائن لديها دفعة واحدة بحلول يوم السبت، مع التأكيد على ساعة محددة، وكيف أنه بالفعل استغشى ثيابه متراجعًا في الواقع بعد ترتيبات دعائية تغطي على ذلك.
أعتقد أن المفاوضات المباشرة بين أميركا وحماس، في دوافعها عند إدارة الرئيس ترامب، تحمل احتمالين:
الاحتمال الأول أن يصل للتفاهم مع حماس بإطلاق سراح الأسرى حاملي الجنسية الأميركية، ليسحب بعد ذلك دعمه الواضح والمعلن لرئيس وزراء الكيان المحتل نتنياهو، الذي هو في الحقيقة أكبر أعداء خطته في مقايضة السلام بالمال المحرك للاقتصاد الأميركي حول العالم، وفي الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
وبالتالي سيبرر ضغطه عليه بأن حركة حماس استجابت لأميركا وأطلقت أسراها، ولا خيار أمام نتنياهو سوى المضي في المرحلتين؛ الثانية والثالثة، ما يعني إنهاء الحرب في وجود حماس وسلاحها، وإن سلمت السلطة لقوى فلسطينية تتبع لحركة فتح أو غيرها.
هناك ملاحظة مهمة يجب التنويه لها، وهي أن خطط نتنياهو للحرب أوسع من غزة والضفة الغربية؛ فإنما هدفه إيران بشكل رئيسي، وضرب وتحييد كل قوى المقاومة المحتملة في المنطقة، وتوسيع وتثبيت نقاط سيطرة إسرائيل على الأرض في لبنان، وسوريا، وعلى محور فيلادلفيا مع مصر، حتى وإن كان بشكل مخالف لاتفاق كامب ديفيد، ويمتد شمالًا لتقويض سلطة أردوغان في تركيا.
وبالتالي، سيورط نتنياهو الرئيس دونالد ترامب في حروب ومواجهات واسعه ومفتوحة، تشكل خطرًا عسكريًا وجوديًا على مجمل القوات الأميركية في المنطقة عمومًا، ما سيؤدي لإفشال عهدة رئاسته بلا شك.
الاحتمال الثاني هو أن يحيل الرئيس الأميركي المنطقة بكلياتها لمسؤولية إسرائيل، دون تحمل تبعات ما سيقع من حروب ودمار هائل، وذلك بتسلم الأسرى الأميركان بالتفاوض المباشر مع حماس مع عوامل ضغط عليها أو إغراء لها
ولذلك، قد يلجأ الرئيس ترامب لاستعادة قدرة الضغط على نتنياهو ويتحسب ليكبح اليمين المتطرف داخل حكومته، كما كان ذلك جليًا قبل تسلم مهامه كرئيس، بشكل أفضى لتوقيع الاتفاق الحالي بمراحله الثلاثة.
ولأنه يعلم خطر التماهي مع نتنياهو على مستقبله السياسي هو وتياره الشعبوي، الذي بدأ يتشكل في الممارسة الأميركية، فيجب عدم استبعاد أن يساهم الرئيس ترامب في إسقاط حكومة اليمين في إسرائيل، كهدف لاستعادة السيطرة على الحليف الإستراتيجي من الداخل.
الاحتمال الثاني؛ هو أن يحيل الرئيس الأميركي المنطقة بكلياتها لمسؤولية إسرائيل، دون تحمل تبعات ما سيقع من حروب ودمار هائل، وذلك بتسلم الأسرى الأميركان بالتفاوض المباشر مع حماس مع عوامل ضغط عليها أو إغراء لها، ويعلن بعدها أن أمر الحرب في غزة والضفة الغربية شأن داخلي إسرائيلي، ما يعطي نتنياهو وعصابات اليمين المتعصب الضوء والإذن، والمبرر للعودة إلى الحرب بقوة.
وحينها سيبرر ترامب موقفه بأنه قد أوفى بوعود إطلاق سراح الأسرى الأميركان أحياء، وأنه لا دخل للولايات المتحدة في مصير بقية الأسرى أو ترتيبات أمن إسرائيل، لأنها تعرف مصلحتها أكثر، وهو الأسلوب الذي يشبه سلوك ترامب ويلائمه.
خطوة الحوار المباشر مع حماس أمر مهم ومكسب كبير للحركة، وكسر لقيد قديم عليها، وهي اعتراف ضمني من أميركا بأنها نجحت رغم التضحيات الكبيرة في تثبيت وجودها في معادلة القضية الفلسطينية، وأنها غير قابلة للتصفية
هذا الخيار سيكون في حقيقته خيارًا أميركيًا وليس إسرائيليًا، هدفه البعيد إيجاد ذرائع لأميركا ولترامب نفسه للعودة إلى الحرب كأداة فاعلة في المنطقة، بعكس تعهداته في الحملة الانتخابية بأنه رجل السلام، وسيكون الهدف الأساسي لهذا المسلك بلا شك هو ضرب إيران، التي أضحت أضعف مع تحييد حزب الله عسكريًا، وتحييد روسيا بوعود الإنهاء السريع والمشرّف لها في حرب أوكرانيا.
وسيكون من أهدافه أيضًا استكمال الخضوع العربي الكامل لإسرائيل، وهو وارد بحكم سيطرة اللوبي الصهيوني على مركز القرار في واشنطن أكثر من ترامب، ومن واقع تهديدات ترامب نفسه في مرات عديدة بضرب إيران .
عمومًا -وكخلاصة- نقرأ خطوة الحوار المباشر مع حماس بأنها أمر مهم ومكسب كبير للحركة، وكسر لقيد قديم عليها، وهي اعتراف ضمني من أميركا بأنها نجحت رغم التضحيات الكبيرة في تثبيت وجودها في معادلة القضية الفلسطينية، وأنها غير قابلة للتصفية.
وبالتالي يتحقق قرارها الأول يوم الطوفان، أنه لا إطلاق سراح للأسرى إلا بوقف العدوان وانسحاب العدو المحتل وتبادل الأسرى، وإذا تم الأمر على هذا النحو -مهما كانت المساومات والبدائل لإقناع إسرائيل- فهو انتصار إستراتيجي ساحق للمقاومة برغم خسائر الحرب القاسية، وهكذا هي حروب التحرير.. الدماء والأشلاء والأرواح مقابل التقدم خطوة في المسار الإستراتيجي، لإضعاف وضرب العدو، وتحقيق تآكل شرعيته الداخلية والخارجية قبل السقوط المحتوم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.