لقد قدم ديننا الفعل على الكلام، قال ربنا -عز وجل- : {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}. وقال رسول الله – ﷺ- : "ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل". حتى المنطق والعقل قدما العمل والإنجازات على الكلام والخطابات. ومع ذلك فخير الكلام ما قل ودل، وخير الكلام ما كانت الأعمال دليلًا عليه وتصديقًا له.
وقد أطل بالأمس القريب الرئيس أحمد الشرع، رئيس الجمهورية العربية السورية، بخطاب لشعبنا السوري بعد اختياره رئيسًا رسميًا لمرحلة انتقالية يوم الأربعاء 29/01/2025. وهذا هو اختصار كلمة الرئيس:
وجه الرئيس الشرع كلمة إلى شعبنا، مؤكدًا أن سوريا تحررت بعد عقود الاستبداد، بفضل تضحيات الثوار والشهداء. وأعلن عن بدء مرحلة انتقالية تقوم على العدالة والمشاركة وبناء دولة قوية، كما شدد على ضرورة تحقيق السلم الأهلي، ومحاسبة مرتكبي الجرائم عبر عدالة حقيقية، واستعادة وحدة الأراضي السورية تحت سلطة واحدة.
وأكد العمل على بناء مؤسسات جديدة خالية من الفساد، واقتصاد قوي يحسن المعيشة ويوفر فرص عمل؛ وأعلن عن تشكيل حكومة انتقالية، ومجلس تشريعي مصغر، وعقد مؤتمر للحوار الوطني، تمهيدًا لوضع إعلان دستوري يؤسس لانتخابات حرة ونزيهة. واختتم بدعوة جميع السوريين للمشاركة في بناء سوريا جديدة، تقوم على العدل والاستقرار والازدهار، وتكون منارة للعلم والتقدم.
المخلوع بشار استمد شرعيته من الوراثة والقمع، ولم يعترف يومًا بأن الشعب هو من يقرر، ولم يتحدث عن أي انتقال سياسي حقيقي، بل كان يرفض ذلك دائمًا
وللمقارنة بين خطاب الشرع وخطابات المخلوع بشار الأسد يتبين لدينا:
- من جهة اللغة والأسلوب: الشرع استخدم لغة مباشرة وبسيطة وصادقة وعاطفية، تميل إلى التواصل مع مختلف فئات الشعب، فيها معانٍ وعبارات تحمل طابعًا إنسانيًا؛ فقد بدأ حديثه عن الجرحى والمهجرين والمعتقلين والشهداء، وأكد على تضحيات شعبنا. وقد لمست في خطابه التفاؤل والعزيمة والأمل في بناء مستقبل جديد.
أما خطابات المخلوع بشار الأسد، فقد كانت متكلفة مليئة بالإنشاء والاستطراد، كما كان يستخدم مصطلحات فضفاضة، مثل: (المؤامرة، الثوابت الوطنية، السيادة)، دون أي خطوات ملموسة. وكان يكثر الإنكار والتبرير، ويستخدم نبرة متعالية ومتعجرفة، تجعله منفصلًا عن الواقع. وكانت خطاباته موجهة إلى أنصاره فقط، فكثرت فيها التهديدات الضمنية لكل من يخالفه ويعارضه.
- ومن الناحية القانونية والتشريعية: أوضح الرئيس الشرع أنه تسلم المسؤولية بعد مشاورات قانونية لضمان الشرعية، وأكد أن المرحلة انتقالية، ودعا إلى مشاركة جميع السوريين، ما يعكس رؤية شاملة وديمقراطية. وكذلك أعلن عن خطوات واضحة مثل حكومة انتقالية، ولجنة تشريعية، ومؤتمر للحوار الوطني، وإعلان دستوري.
أما المخلوع بشار فقد استمد شرعيته من الوراثة والقمع، ولم يعترف يومًا بأن الشعب هو من يقرر، ولم يتحدث عن أي انتقال سياسي حقيقي، بل كان يرفض ذلك دائمًا. وكانت وعوده للمراوغة فقط، ككلامه المتكرر عن الإصلاحات لتخدير شعبه، وما هي إلا ادعاءات وهمية لم يسعَ لها أبدًا.
- وبالنسبة للرؤية المستقبلية: فقد تحدث الرئيس الشرع عن سوريا جديدة، تقوم على العدل والشورى والاقتصاد القوي والمؤسسات النزيهة، وركز على الوحدة الوطنية، والقضاء على الفساد، وبناء مؤسسات حديثة؛ فهو يرى أن سوريا منارة للعلم والتقدم والرخاء، وقد دعا جميع أبناء سوريا للمشاركة في صنع المستقبل.
أما عن رؤية المخلوع بشار الأسد للمستقبل، فقد كان يرى أن سوريا بخير، و"سوريا الله حاميها"، رغم كل الدمار والفساد اللذين سببهما، وكان يكرر أن الوضع تحت السيطرة. ولم يتحدث عن إصلاح جوهري وعملي، بل كان يصر على أن النظام باقٍ كما هو. وكذلك كان يربط استقرار الأوضاع في البلد ببقائه في السلطة، وبات يكيل الاتهامات للمعارضة بالسعي لتدمير سوريا وتعاونها مع الأعداء.
لو أننا قمنا بعملية استقرائية أوسع من هذه للمقارنة بين خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع، وبين جميع خطابات المخلوع الهارب بشار، لوجدنا فروقات كبيرة وكثيرة، هذا إن صحت المقارنة بينها
- وبالنسبة للتعامل مع الجرائم والفساد: فقد أكد الرئيس أحمد الشرع على تحقيق العدالة الانتقالية، ومحاكمة المجرمين الذين ارتكبوا مجازر بحق السوريين. وتحدث عن مصالحة وطنية تقوم على العدالة والمحاسبة، وعدم الإفلات من العقاب.
أما المخلوع بشار، فقد كان ينكر أي جرائم ارتكبها نظامه وأتباعه، بل يبررها بحجج واهية، مثل "محاربة الإرهاب". ولم يذكر أبدًا أي محاسبة لمجرمي الحرب، بل كان يحميهم ويدعمهم ويقربهم. كما قال فرعون للسحرة: {قال نعم وإنكم إذًا لمن المقربين}. وكذلك لم يكن لديه أي حديث عن عدالة انتقالية، أو مصالحة حقيقية، إنما هي دعوات "للعفو" المشروط بالولاء المطلق لنظامه المجرم.
- وأما بالنسبة للشعب والثورة: فإن الشرع اعترف بتضحيات الثوار الأبطال، وحركة المتظاهرين، ودماء الشهداء، وآهات المعتقلين. واعتبر أن الثورة كانت حراكًا شرعيًا أدى إلى التحرر من الاستبداد. وخاطب جميع شعبه -وفيه المعارضة والمهجرون- ودعاهم للمشاركة في بناء الوطن.
بينما كان سفاح سوريا يسمي الثورة أزمة، مؤامرة، إرهابًا، مندسين، سلفيين، وهابيين، إخوانًا، عملاء، عراعير… وينكر مشروعيتها، ويرفض الاعتراف بمعاناة الشعب، بل كان يتهمه بالخيانة إذا احتج أو طالب بالتغيير. ولم يكن يعتبر نفسه مسؤولًا أمام الشعب بل فوقه، فالشعب بالنسبة له خادم له ولعائلته فقط.
بناء الدول والحضارات وازدهارها، وعملية التطور والتمدن والتقدم للشعوب والبلاد، ذلك كله لا يحصل من خلال كلام وخطاب وأسلوب ونبرة وشخصية، بل يقوم على العمل الجاد الواضح، والإخلاص التام
ولو أننا قمنا بعملية استقرائية أوسع من هذه للمقارنة بين خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع، وبين جميع خطابات المخلوع الهارب بشار، لوجدنا فروقات كبيرة وكثيرة، هذا إن صحت المقارنة بينها.
وأخيرًا، فبناء الدول والحضارات وازدهارها، وعملية التطور والتمدن والتقدم للشعوب والبلاد، ذلك كله لا يحصل من خلال كلام وخطاب وأسلوب ونبرة وشخصية، بل يقوم على العمل الجاد الواضح، والإخلاص التام، والتضحية والمصداقية، والصبر والحب والعدالة والحرية، واستثمار الخبرات، ووضع كل حجر في مكانه الصحيح، والتعاون مع جميع فئات الشعب. ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول:
ولا خير في قول إذا لم يكن له .. فعال فيصدقه بالموضع الفعل
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.