في الحروب الطويلة والمواجهات المستمرة، كثيرًا ما يتم الحديث عن مفهوم "اليوم التالي"، ذلك المصطلح الذي يحمل في طياته دلالات متباينة بين نوايا حسنة لإعادة الإعمار وبناء المستقبل، وبين إستراتيجيات تُستخدم لإدارة الأزمات بشكل براغماتي.
ولكن، مع اتفاق تبادل الأسرى الأخير بين حماس والاحتلال الإسرائيلي، وما رافقه من مشاهد مهيبة أثناء تسليم الأسرى، تظهر حقيقة راسخة: حماس ليست مجرد فصيل مقاوم، بل هي تجسيد لإرادة غزة، والمقاومة في هذه البقعة ليست تكتيكًا عابرًا، بل عقيدة ممتدة في وعي سكانها.
الطريقة التي تعاملت بها المقاومة مع الأسيرات أثناء عملية التسليم، وما أظهرته من احترام للإنسانية وأخلاق عالية، تعكس النضج الكبير الذي وصلت إليه المقاومة، ليس فقط في ساحة القتال، بل أيضًا في إدارة الإعلام والصورة
غزة هي المقاومة والمقاومة هي غزة
عندما ترى الطريقة التي استقبل بها سكان غزة أبناءهم من المقاومة، وتشاهد التفاعل العاطفي مع كتائب القسام، تدرك بوضوح أن المقاومة ليست مجرد سلاح بيد مقاتل، بل هي قيم إسلامية متجذرة تنعكس في تفاصيل الحياة اليومية؛ الصغير يتربى على عقيدة القدس، والكبير يموت على أمل تحريرها. هذه القيم ليست شعارًا يُرفع أو خطابًا يُلقى، بل واقعًا يتنفسه الناس في شوارع غزة ومخيماتها.
الطريقة التي تعاملت بها المقاومة مع الأسيرات أثناء عملية التسليم، وما أظهرته من احترام للإنسانية وأخلاق عالية، تعكس النضج الكبير الذي وصلت إليه المقاومة، ليس فقط في ساحة القتال، بل أيضًا في إدارة الإعلام والصورة.
العالم رأى مشاهد بروح صادقة، خالية من التزييف، ومفعمة برسالة واضحة: المقاومة لا تتخلى عن شرفها ولا عن قيمها، حتى في أحلك الظروف.
المقاومة مقابل عبثية اليمين الإسرائيلي
في المقابل، يعيش الإسرائيليون اليوم على وقع نتائج السياسات التدميرية التي تبناها اليمين المتطرف؛ بنيامين نتنياهو وأمثاله راهنوا على القوة المطلقة، دون إدراك أن العالم ليس فضاءً معزولًا يتحرك وفق مصالحهم وحدهم.
التصرفات الهزلية لـ"بن غفير" وغيره من رموز التطرف، بما فيها الرقصات التي أصبحت جزءًا من استعراضاتهم الإعلامية، لم تكن سوى دليل على غطرسة فارغة.
هذه السياسات لم تخلق سوى مشهد داخلي مفكك، حيث بات الإسرائيلي العادي يشاهد الانهيار الأخلاقي والإنساني، الذي أوصلتهم إليه سياسات حكومتهم.
مقابل هذا العبث، تجلت القيم الإسلامية السمحة في غزة، فعملية تسليم الأسرى لم تكن مجرد خطوة تفاوضية، بل لوحة إنسانية راقية كشفت الفرق بين مشروع مقاومة يحمل قيم الحرية، وبين مشروع تدميري يكره الإنسان ذاته.
في الوقت الذي تنهار فيه المشاريع الاستعمارية، تتجلى الحقيقة: المقاومة ليست مجرد خيار، بل هي قدر أمة أبت أن تنكسر، وصممت أن تكتب يومها التالي بيدها، لا بيد غيرها
اليوم التالي لحرب الهويات
ما يميز هذه المرحلة أن "اليوم التالي" لم يعد مفهومًا غربيًّا مفروضًا على السياق الفلسطيني، بل أصبح مشروعًا تصنعه المقاومة بأيديها. من خلال خطابها المتزن وإدارتها الحكيمة، تعيد حماس تعريف ما يعنيه الصمود، ليس فقط في مواجهة الاحتلال، بل أيضًا في استعادة الهوية الإسلامية والعربية التي حاولت قوى الاحتلال طمسها.
في غزة، يتربى الجيل الجديد على حب القدس كعقيدة، وعلى أن تحريرها مسؤولية جماعية. هذا الجيل لم يعد يرى في المقاومة سلاحًا فقط، بل يرى فيها مشروع حياة متكاملًا، يوازن بين التحدي الميداني والقيم الأخلاقية.
أما في الجانب الآخر، فيعيش المجتمع الإسرائيلي حالة من الانهيار الداخلي، حيث بات واضحًا أن مشروع الاحتلال ليس سوى سلسلة من الأخطاء الكارثية. الخطاب الديني المتطرف الذي يقدمه اليمين الإسرائيلي ليس إلا غطاءً هشًّا لمشروع استعماري يفقد بريقه أمام مقاومة أصيلة تزداد تجذرًا في الوعي الفلسطيني.
ختامًا: رسالة إلى العالم
المشهد الأخير من عملية تبادل الأسرى يقدم درسًا للعالم بأسره؛ غزة ليست مجرد أرض محاصرة، وحماس ليست مجرد فصيل مسلح، غزة هي روح مقاومة متجذرة، وحماس وكل الفصائل الفلسطينية المقاومة هي امتداد لهذه الروح، بقيمها الإسلامية وشجاعتها في وجه الظلم.
في الوقت الذي تنهار فيه المشاريع الاستعمارية، تتجلى الحقيقة: المقاومة ليست مجرد خيار، بل هي قدر أمة أبت أن تنكسر، وصممت أن تكتب يومها التالي بيدها، لا بيد غيرها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.