لطالما رسم الغرب لنفسه صورة الوصي الحصري على قيم العدالة والحريات، مروّجًا لها كمنظومة عالمية وشاملة تضمن المساواة والعدالة للجميع. لكن الواقع يكشف عن تناقض صارخ؛ حيث باتت هذه القيم، التي يُفترض أنها كونية، أدوات انتقائية تُستخدم حين تخدم المصالح الغربية، وتتوارى حينما تتعلق بالشعوب الأخرى.
المواقف الأخيرة، مثل الحرب الروسية الأوكرانية والحرب الإسرائيلية على غزة، تجسّد هذا التناقض الفاضح.
لم تعد الحرية والديمقراطية في التصور الغربي قيمًا كونية أو حقوقًا إنسانية غير قابلة للتصرف، بل أصبحت امتيازًا خاصًّا يُمنح للشعوب الغربية وحدها. حينما يتعلق الأمر بالأعراق الأخرى، تتحول هذه القيم إلى شعارات دعائية تستخدم لتصدير الوصاية الثقافية والسياسية
ففي أوكرانيا، تجلى الدعم الغربي في أقصى صوره، من خلال تزويدها بالمساعدات العسكرية والاقتصادية، وتكثيف الحملات الإعلامية التي تؤطر الأوكرانيين كضحايا يقاومون عدوانًا همجيًا.
أما في غزة، حيث يُقتل المدنيون الفلسطينيون يوميًّا تحت القصف، فقد اختار الغرب صمتًا يقترب من التواطؤ، مبررًا العدوان الإسرائيلي بحجة "الدفاع عن النفس"! هذا التباين يكشف أن قيم الحرية والعدالة في الخطاب الغربي تُعامل كامتياز يُمنح للبعض ويُحجب عن آخرين، وفقًا لمعايير عرقية وجيوسياسية واضحة.
لم تعد الحرية والديمقراطية في التصور الغربي قيمًا كونية أو حقوقًا إنسانية غير قابلة للتصرف، بل أصبحت امتيازًا خاصًّا يُمنح للشعوب الغربية وحدها. حينما يتعلق الأمر بالأعراق الأخرى، تتحول هذه القيم إلى شعارات دعائية تستخدم لتبرير التدخلات، أو تصدير الوصاية الثقافية والسياسية، دون اعتبار حقيقي لحق هذه الشعوب في تقرير مصيرها.
الغرب لا يرى في الشعوب غير الغربية شركاء متساوين في هذه القيم، بل يتعامل معها ككيانات بحاجة إلى "تلقين" أو "إرشاد" لتحقيق ما يعتبره هو معيارًا للحضارة. هذه النظرة الاستعلائية تُفرغ القيم الإنسانية من مضمونها الحقيقي، وتحوّلها إلى أدوات للتحكم والهيمنة.
التاريخ الحديث مليء بالأمثلة التي توضح هذا التناقض الجوهري.. عندما يُسحق صوت الحرية في العالم العربي أو تُقمع حقوق الأفارقة، غالبًا ما يكون الرد الغربي محدودًا ومشروطًا، ذاك إن لم يكن معدومًا!
لا يتحرك الغرب إلا عندما تخدم هذه القضايا مصالحه، بينما تُترك الشعوب الأخرى تواجه مصيرها وحيدة، مجردة من أي دعم أو تضامن حقيقي.
ما يفاقم هذه المأساة هو الخطاب الأخلاقي الذي يصاحب هذه الازدواجية، حيث يُقدّم الغرب نفسه دائمًا على أنه صاحب المعيار الأخلاقي الأعلى، متجاهلًا تمامًا دوره في تكريس الظلم وعدم المساواة.
هذه المنظومة القائمة على التمييز والاستعلاء العرقي تُظهر أن الحرية والديمقراطية ليستا، في أعين الغرب، حقوقًا طبيعية لجميع البشر، بل امتيازًا محصورًا ضمن دائرته الحضارية.
الشعوب الأخرى، خاصةً في العالمين العربي والإسلامي، تُعامل كمتلقٍ سلبي لهذه القيم، لا كفاعل حقيقي قادر على تحقيقها وتجسيدها في سياقها الخاص.
والأسوأ من ذلك، أن الغرب لا يشعر بأي التزام للدفاع عن حقوق هذه الشعوب، حتى في مواجهة الانتهاكات الصارخة، مكتفيًا برفع شعارات زائفة لا تخدم إلا أجندته السياسية والاقتصادية أو الإستراتيجية.
باتت شعوب العالم -على رأسها شعوب العالم العربي- تدرك أن تحقيق الحرية يتطلب كسر قيود الهيمنة الفكرية والسياسية، وخلق مسارات جديدة تعبر عن هويتها وتطلعاتها، بعيدًا عن وصاية الغرب وشعاراته الجوفاء
إن هذا الاستعلاء ليس مجرد خطاب سياسي، بل هو جزء لا يتجزأ من بنية فكرية، تكرّس هيمنة الغرب، وتُقصي الآخرين من دائرة الحقوق العالمية، لكن الشعوب اليوم لم تعد غافلة عن هذا التناقض.
لقد أظهرت التجارب الأخيرة وعيًا متزايدًا بحقيقة أن القيم الإنسانية ليست ملكًا حصريًّا لأي طرف، وأن الدفاع عن الحريات والحقوق هو مسؤولية ذاتية، لا يمكن أن تُترك للغرب ليتفضل بها وفقًا لمصالحه وأهوائه.
إن ازدواجية الغرب لا تُعد أزمة أخلاقية فحسب، بل هي إعلان واضح عن فقدانه للمصداقية كراعٍ للقيم الإنسانية، والشعارات التي كان يرفعها ذات يوم لإقناع العالم بتفوقه الأخلاقي باتت فارغة من معناها الحقيقي.
وباتت شعوب العالم -على رأسها شعوب العالم العربي- تدرك أن تحقيق الحرية يتطلب كسر قيود الهيمنة الفكرية والسياسية، وخلق مسارات جديدة تعبر عن هويتها وتطلعاتها، بعيدًا عن وصاية الغرب وشعاراته الجوفاء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.